يحتاج حديث «الحروب الشرق أوسطية» إلى إعادة تصنيف في كل مرة تنفجر فيها واقعة صراعٍ دموي شامل في بقعة ما من هذه الخارطة الخاصة بفواجع أحداث القرن العشرين، وما يتبعه من فواجع القرن الحالي. فالحروب القائمة حاليا، والمتوقعة بين وقت وآخر، لا يمكن تصنيفها تحت خانة الحرب الأهلية أو الإقليمية فحسب، بل أصبح لها طابع العالمية بشكل ما. ليس هذا الطابع مستحدثا تماما، إذ إن مختلف الصراعات السابقة في هذه المنطقة لم تكن وليدة ظروفها المحلية فحسب، بل كانت الأصابع الأجنبية لاعبة وراء أسبابها، وحتى ما بين وقائعها المباشرة. وفي عصر ربيع الثورات لن يكون الدور العالمي غائبا، إن له تدخله بطرق سرية أو مستحدثة خافية. كل ما يأمله هذا العصر ألا تتطور ثوراته إلى حروب، بل تأتي مانعة لهذا النوع من الصراع المجنون غالبا، فالوضع الحالي يمكن وصفه بكونه كفاح الثورة ضدا على كل حرب مفترضة أو مفروضة، ومع ذلك فهذا الهاجس يخيم على خارطة التحليلات السياسية التي لا تكتفي بظواهر الأمور. هنالك نزعات جدية نحو طمس طبيعة الثورة الأهلية تحت واقعة الحرب البائسة. هذه التجربة المشؤومة تبدأ من محاولة النظام السوري جعل الحرب مقبرةً للثورة، وتوسيع ساحاتها حتى تمتد إلى كل طرف حولها، قريبٍ أو بعيد، يمكن أن يحول الشرارات القادمة من بلاد الشام إلى كتل نارية نابعة من ظروفه، بوعيه أو قسرا عنه، حتى تجتاح الأخضر واليابس في المنطقة كلها. صوتان يعلوان معا تقريبا، يناديان على الحرب بأية لهجة ولأي هدف كان: إسرائيل التي لا تكف عن التهديد بالويل والثبور ضد إيران ولبنان وبعض النظام السوري، الذي يراهن على تغيير طبيعة الصراع المحتدم في مختلف بقاع البلاد وتحويله بطريقة ما إلى حرب تتخطى أصحابها الأصليين وحدود ساحاتها السابقة، فلماذا هذا التهديد المشترك بالنوايا المصرّة على تعميم القتل في كل جهة؟ ألم تعد ثمة إرادةٌ واحدة في هذا المشرق قادرة على لجم شياطين الموت؟ هل أصبحت المناداة على الحرب لا تلقى إلا الآذان الصاغية والمطيعة، فكأن الناس في هذه البلاد تحولوا إلى مجرد خرافٍ تُساق إلى مذابحها تلبيةً لنداء الذبح فقط، كأنما افتقدت مجتمعاتُنا كلَّ قدرة على لجم الإجرام المعمّم، ذلك أن المناداة على المقتلات الأهلية والإقليمية، وربما العالمية كذلك، باتت من أعلى أصوات الجحيم المدوي بين أرجاء هذا المشرق العربي البائس. نحن مازلنا نعتقد بقوة الثورة العربية على منع الحروب العابثة، فالسباق محتدم ما بين نزعات السلم الحقيقية، فإذا استعانت بمعاول الثورات، أحيانا يمكنها أن توقف هذا السباق المشؤوم، ليس هناك من معجزات قابلة للتحقيق في هذا المجال، لكن إرادة التغيير الشعبية أمست تملك بعض المناعة ضد التحريف الكبير الذي يشتغل في هوامشها باحثا عن خروق يصل منها إلى جوهرها. يبدأ خط المعجزة الجديدة من اجتماع الإرادات الطيبة حول هدف مركز واحد يبدأ من حصار النار في المدن السورية المشتعلة وإطفائها بأية طريقة كانت، ولن تكون الطريقة المثلى إلا في تحويل مثيري النار إلى مجرمي حروب، والتصدي لهم ليس على أنهم حكام ورؤساء بقدر ما تحولوا عمليا إلى قادة عصابات تنذر بعظيم الأمور في كل مجال حولها، فمن أهم التحريفات السائدة في تداول أخبار الثورة هذا النوع من تصوير الصراع كأنه قائم ما بين فريقين، لكل منهما مشروعيته الخاصة، في حين تتلاشى حقيقة المعركة التي تجري تحت عنوان واحد هو العدوان من قِبل مالكي القوى الغاشمة، وقد تصوّر على أنها قوى شرعية بمعنى الكلمة، في حين أن عدوها قد استولى على دولة كاملة وهو في طريقه إلى استخدام جميع قواه من عسكرية وسواها، من أجل خنق كل اعتراض على استبداده. هؤلاء الثوار هم في حالة دفاع شرعي، بكل معنى الكلمة، عن بقية وجودٍ لأمة حرة، لا يمكن أن تقارن أسلحتهم اليدوية بالدبابات والطائرات والمدافع التي يستعملها جيش دولة مغرقة في عسكريتها منذ عقود وعقود ضد العدو التاريخي، والآن يصير عدوها هو شعبها، وهذا باطل الأباطيل. فالخطاب الذي تعتمده وسائل إعلام غربية وعربية في توصيف الحدث السوري خاصة، كما لو أنه حرب قائمة بين دولتين، يبدو أنه خطاب لم يعد عفويا أبدا، بل يُراد منه التمهيد لانتصار العدوان، وجعله مشروعا كما لو كان نتيجة لحرب عادلة تخوضها دولة دستورية ضد حفنة من المتمردين الخارجين على القانون. هذا التوهيم المقصود في مجمل الخطاب الدبلوماسي الدولي ليس جديدا، فقد منح حكمَ الاستبداد جوازا للقتل المجاني تحت مصطلحات لفظوية مغلوطة كيما يقضي على حركات الاعتراض السلمية بأقصى طرق القمع النارية، مما يعني أن المسمّى بالمجتمع الدولي لم يكن راغبا حقا في نشوب أية ثورة شعبية أصيلة، إنه يتابع تمسكه بأساطير الاستقرار التي تطمئن استراتيجيته الكلية ضد حركات التقدم التاريخية في عالم اليوم والغد. غير أن ثورات الربيع العربي أثبتت حتى الآن أنها تستوعب هذه الأفخاخ الدولية والإقليمية بفضل تجاربها المحدودة، ولكن الغنية خلال ما يقرب من عامين حتى الآن؛ فقد زوَّدتها بثقافة التنبّه الفطري إلى المخططات المعادية، فهي حتى الآن قد أنقذت نفسها من المنعطفات المشبوهة، لكنها باتت أخيرا تواجه بأشباح الحروب التي قد تستعيد كثيرا من شعاراتها لتضلل بها الجماهير، فالخلط بين الثورة والحرب هو أمر بالغ الأهمية والخطورة في هذه الظروف الراهنة، فإذا كان الربيع العربي ابتدأ بالانتفاضات السلمية وتطور إلى ثورات تبشر بنجاحات شبه حتمية على الأقل، فقد أصبح العدو يفكر بالحلول المستحيلة حتى إنه سوف يواجه بالمنعطف الأسوأ، وهو تفجير حرب دولانية وليست أهلية، كما لو كانت ردا مبرمجا على مستقبل كل ثورة مبشرة بالنجاح المحتوم لشعارات شعبها. من المسلم به أن دول المركب الاستبدادي، تمارس نوعا من الحرب الخفية على شعوبها حتى دون إثارة معارك واضحة المعالم، فإن سياسة القمع المطلق تحقق جوهر العدوان على حقوق الناس في الدفاع عن ذواتهم أمام الطغيان المفروض عليهم من قبل أرباب السلطان الغاشم، ما يفعله نظام الاستبداد/الفساد اليوم هو أنه ينقل حربه السرية للعدوان على شعبه، إنها النُّقلة من طور الحكم البوليسي القامع إلى طور العدوان العسكري بكل وسائل القتل المتاحة في ساحات صراعاتٍ كانت تعتبر خاصة بالدول في ما بينها؛ فالشعب لا يملك جيشا، وإن ثورته في الأساس هي غضبة إنسانية على وسائل الاضطهاد المتبعة كبديلٍ عن أي تسمية لنظام سياسي حاكم؛ فالصورة الصحيحة للصراع الحالي، بالرغم من استخدام الأسلحة لدى أطراف من الثورة المقاتلة في سورية مثلا، هي أن نظام القمع السياسي المسيطر منذ نصف قرن لم تبق لديه ثمة وسيلة لاستمراره سوى الانخراط في مقتلات حروبٍ تُفتح لها جبهاتٌ في معظم مدن وبلدات وأرياف الوطن السوري. نسمع منذ أيام عن دعوة النظام إلى التعبئة العامة، مما يعني حقا أن البلاد مقبلة على حرب شاملة لا تنتظر إعلانا رسميا لها، إذ حققتها فصول كثيرة من مهالكها، لكن المتغير الجديد هو أن الحاكم الاستبدادي يريد لحربه أن تلتبس بمفاهيم تخصّ مشروعية الدولة، فليس غريبا أن يؤازره في هذا المسعى توجهٌ استراتيجي دولي لم يؤمن أبدا بحقائق الانتفاضات الربيعية مهما حاول التمظهر بأشباه التوافق والقبول بأحداثها الناجحة، ذلك هو المعنى الكامل وراء سياسات التهرّب من القرارات الحاسمة بطريقة ما، فإن المؤتمرات والتصريحات التي ينشغل بها قادة عالميون حول موضوع دعم الثورة المحققة لانتصارات ذاتية لا يمكنها إلا الاعتراف بثمراتها الواضحة، ومع ذلك يبدو أن المجتمع الدولي لن يقاوم جديا تطور الأمور نحو حروبٍ معينة في هذه المنطقة؛ فما إن تنشب واحدة منها حتى تحيل زمن الربيع العربي إلى الصفوف الخلفية من أحداث الساعة. من هنا يُفهم هذا السعي الحثيث لدى قادة إسرائيل خاصة إلى انتهاز الفرصة النادرة الراهنة لقطف عدة أهداف في وقت واحد، ما إن يسمح لها بضربة مفاجئة للمراكز النووية الإيرانية، إذ سيكون لهذا الحادث، إن وقع، ثمة تأثيرات متضاعفة في معظم توازنات المنطقة، وقد تكون البداية عبر إلغاء عصر الديمقراطية من الحياة العربية إلى أجل غير مسمى؛ فالضربة الإسرائيلية، إن وقعت، ستأتي بتغيرات تشمل خارطة جيو استراتيجية لأوسع مساحة عربية وإسلامية حولها، كأنما إسرائيل تسترجع مبدأ تدمير الهيكل بكامله على مختلف روَّاده، إذ يواجه اللاشعور الإسرائيلي إحساسا بنهاية المشروع الصهيوني مع انتصار الربيع العربي الذي صار أشبه بالقدر المحتوم، فهذا المشروع لا يمكنه الاستمرار وسط عالم عربي متغير كليا، تحضر فيه قواه الشعبية جميعا لأول مرة في تاريخه المعاصر على مستوى الحاكم والمحكوم معا. ذلك هو الكابوس الذي تتوارث رعبه الأجيال المتطرفون لليهودية الكونية، وتتبلور خاصة لدى قوى اليمين السياسي والديني المسيطرة حاليا على الدولة والمجتمع في إسرائيل. إذا أصغينا لنقاشات القادة الإسرائيليين حول مشروع الضربة الإيرانية، نستنتج بكل سهولة قوة العقيدة الكارثية الفاعلة اليوم في وعي الكثيرين، كأنما الفكر الكارثي المسيطر يستعيد قانونه الجهنمي الذي يفرض عدم الاهتمام إطلاقا بنتائج الحدث معادلا لواقع تدميره الذي لن يفلت منه الجاني الأول على نفسه وعدوه في وقت واحد. قد يخيم هذا المبدأ الكارثي على عقل البعض من أهل النظام الباقي حاكما في سورية، فالذهاب من التعبئة العامة إلى الحرب الشاملة ضد كل الناس في كل مكان في البلاد، هو المصير الأفجع الذي يعبر عن يأس الحاكم مغامرا حتى نهايته، شرط أن تصحبها نهاية عدوه في الوقت نفسه. هل هي صدفةٌ تاريخيةٌ عابثة أن يلتقي كلٌّ من العقل الصهيوني والعقل الاستبدادي العربي حول ضرورة الحل «الشمشوني» الأسطوري لكلٍّ منهما؟ هل هذا الرهان يُثبت، في الحد الأدنى، أن الربيع العربي يصير حقيقةً مفروضة على أبنائه وأعدائه في وقت واحد. أفخاخ الحروب الشرق-أوسطية، بما فيها الأهلية كذلك، هي آخر ما في جعبة الواقع الفاسد، يستثمرها حاكمٌ يواجه مصيره الأخير ومشروعٌ صهيوني استعماري أمسى فاقدا لمستقبله. ليست ثمة تصورات عن هذا الآني المعقد الذي سيحل بأشباحه المتناقضة على أجواء المنطقة، سوى أن إرادة التغيير لم تعد عند شعوب هذه الأمة مجرد خيار، بل أمست معادلة لقوة الوجود بالنسبة إلى أمة متمسّكة بأسباب الحياة والحرية معا.