إذا كان الربيع العربي بات أحدث مصطلح ثوري للتغيير الشعبي ذي الصفة الجذرية والعفوية معا، غير المؤدلجة وغير قابلة للاستيعاب والتوظيف السياسوي مهما كانت خصائصه أقرب إلى صيغته الأهلية المباشرة، فقد تبرز الثورة السورية كأعلى نموذج في سياقه عما يعبر عن طبيعته غير المصطنعة حتى اليوم في متحف التاريخ، فهي الثورة التي لم تسبقها أية مؤامرة إعداد أو تخطيط فردي أو جماعي، ولذلك تظل مستعصية على كل محاولة استغلال من قبل الأدعياء الذين قد يفوزون بشراذم من هوامشها لكنهم يعجزون عن اشتمالها تحت أية عباءة فضفاضة مذهّبة أو مطرزة بأحلام المناصب العليا الموعودة. والثورة السورية لا تحقق فقط معجزة الصمود الأهلي والانتصار المستمر على مختلف أصناف الهمجية غير المسبوقة التي يُوقعها أوحش نظام بعائلاتها وبيوتها ومزارعها، لكنها، بالإضافة إلى كل هذا الرصيد من المقاومة الواعية المتعاظمة من معركةٍ نكبة إلى أخرى أفظع وأظلم، فإنها لا تستنفد قوى عدوها حتى رمقه الأخير فحسب، بل تحبط كذلك حبائل ما يُسمّى بالمجتمع الدولي الزاعم لنجدتها والساعي عبثا إلى اصطيادها عبر شبكيات من مؤامراته وبياناته اللفظوية وخططه النفاقية، هؤلاء الزعماء والمسؤولون العالميون المتنقلون من عاصمة إلى أخرى، والمجتمعون على اتفاقيات ورقية، وألسنتهم لا تكف عن التصريحات المتلعثمة بأبسط الكلمات المناقضة لمعانيها في رؤوس أصحابها.. ما يجعل المجتمع الدولي عاجزا حقا عن اجتراح الحلول، ليس هو النظام السوري ولا حليفه الروسي فحسب، بل هو هذه الثورة عينها النافرة ما فوق كل مصيدة دبلوماسية أو أخطبوطية، تريد اختطافها من حراكها الشعبي، من مجهولها الإنساني العظيم هذا، حيثما تعجز أفاعي المخابرات الدولية وأعوانها عن تقصي مفاصلها الأصلية. هذه الثورة لن تتعب ولن تكلّ. حتى عندما ينهار عملاق الاستبداد، فالثورة ستطارد أقزامه الباقين بعده. لكن الطريق نحو النهاية يبدو ضائعا بين عقد من الطرق الفرعية الملتوية على بعضها؛ لا أحد يمكنه أن يجزم بموعد مع النصر الحاسم، فلا يزال صاحب هذا النصر ملتبسا ما بين النظام والثورة. ولربما ظهرت حالة شاذة لا تنهي النظام كليا ولا تطفئ آخر شعلة للثورة؛ فالتوجّه الدولي يدعي أنه من أنصار الحل التوافقي الذي يعترف بحدود معينة لكلا الخصمين وفق معادلة جائرة لا تميز بين الجلاد والضحية. هذا الحل قد يمنع القتل مؤقتا، لكنه لن يمنع أسباب القتل، ولا يكافح أصحابه. خلال أطول فترة تاريخية يمكن أن تعيشها ثورة ما، فإن شبيبة الشام يَحيون زمنهم الخاص، لا يعدّون قتلاهم بقدر ما يعدون الأيام الباقية لانهيار آخر دعامات سقف النظام قبل أن يتساقط على رؤوس أصحابه. هنالك حقيقة واحدة أساسية في سمفونية كل بطولة خارقة، تستمدها أولا من لحم ودم ضحاياها، عندما يصبح الموت هو الثمن الوحيد لشراء الحياة الكريمة التي يستحقها الرجال الأحرار؛ فمن دون هذا المعيار الأنطولوجي لم تعرف الإنسانية إبداعات حضاراتها المتتابعة جيلا بعد جيل من أبطال الحق والعدالة الفاتحين على عهود الإبداعات الجماعية الأخرى، والعرب لم يخوضوا كفايةً حقَبَةً عظيمة من حروب التحرير إلا متفرقين بين أشباح من حركات التغيير الطارئة والمصطنعة. في سورية اليوم تندلع حقا حرب تحرير شعبية بمعنى الكلمة، فالنظام القائم آل على نفسه أن يستقطب في فكره وسلوكه كلّ أفانين الغزاة البرابرة، فلقد تجاوز عهدُه المديد المظلم مراحلَ الغزو بأشكاله المتنامية من بعضها؛ حتى تكدّست خبرات هذه المراحل منذ الاجتياحات الانقلابية الأولى المنصبّة على مراكز السلطة في الحزب والجيش والدولة، وكان المجتمع هو الهدف الأشمل الذي لا بد من اجتياح مفاصل بنيته التكوينية، فكان اجتياح الترييف البدائي لمدنيته العريقة، بمثابة تعرية منظمة هائلة للشعب من حصونه الإنسانية والحضارية معا، الفطرية والمكتسبة معا. لقد تم تقويض الحصن التعليمي من منطلق إفقاره تربويا وثقافيا معا، أصبحت سياسةُ تجهيل المدرسة والجامعة منهجا متعارفا عليه لدى الإدارات المسؤولة عن المؤسسة المعرفية (الحزبية)، بما فيها كل شؤون الثقافة والعلم والإبداع في الحياة العامة، فالاستبداد كان شرطَ بقائه وانتشاره، لجْمُ الحراك النهضوي؛ يتحقق ذلك اللجْم بقتل مصادر التقدم، وأولها هو المؤسسة التعليمية. وقد تولّت كل من مصر وسورية (بلاد الشام عامة)، منذ فجر نهضة القرن التاسع عشر، كسْرَ حواجز الأمية القروسطية المخيمة على الوطن العربي، فكان لهذين القطرين دور المصنِّع والمنتج لأجيال من المعلمين والمدرسين والأساتذة لمختلف مراحل التعليم العربي في العصر الاستقلالي للنهضة الثانية؛ لكن هذه النهضة عينها أمست هي العدو المركزي الذي ينبغي على حقبة الاستبداد أن تتصدى لاجتثاث أصولها المعرفية والتربوية، وقلبها على عكس أهدافها التنويرية التي طورها روّاد الحداثة منذ فجر اليقظة العربية الجديدة. هذه النكسة العقلانية إلى ما وراء النهضة لم تأت عن عفويةِ تاريخٍ عبثي يخبط خبط عشواء في إنتاج الحقائق وأعدائها في وقت واحد. كانت الحرية في أبسط أشكالها، كما في أعلاها، هي المستهدفة؛ فالشعب المجُهّل (بتشديد الهاء) لن يشكل خطرا على أي عدو حقيقي، إلا على نفسه؛ إذ يرضى بانتقاص حقوقه مادام لا يعرف عنها شيئا، وبذلك تنعدم معاني الشخصية المستقلة، مادام مصير الجميع إلى الإهمال والاستغراق في تشكيلات النموذج الكتلوي، وبذلك يغدو الاستلاب الإنساني دعامة إيديولوجية للاستبداد السياسي ومسوّغا موضوعيا لتسلطه اليومي على أفعال الناس وأفكارهم. الأمر الذي يضاعف من عزلة المستبد نفسه عن أية مشاركة عاطفية أو أخلاقية مع ضحايا الفقر والظلم والاضطهاد، فحين تنفجر لحظةُ غضب جماهيري لا يجد المستبد سوى آلة القمع التي تجدد إخفاء الخصم الغاضب غير المعترف بوجوده أصلا، وهذا الموقف الغريزي يجر صاحبه إلى التَّهْلُكَة التي أرادها لخصمه، فانقلبت عليه في نهاية صراع أعمى، ذلك أن الاستبداد الذي يُعيد مجتمعه إلى براثن التخلف يصير أسياده متخلفين هم كذلك، وارتدادهم إلى وسائل العنف المطلق دليل أميّتهم السياسية، ولجوؤهم إلى أدوات الشر وحدها هو أسهل وأتعس الخيارات البائسة لدى الحكام العاجزين عن إدراك حقائق الأمور العادية، فكيف إذا ما تعقدّت أحوال العلاقات اللاعقلانية مع شعوبهم، يبقى الشرّ وأجهزته هو أو هي الحلّ الأقرب إلى التناول الغبي واللامسؤول. لقد تأخرت غضبة المجتمعات العربية، لكنها عندما انطلقت جاءت بصيغة الثورة التي تتمناها شعوب العصر، حتى تلك المتقدمة منها، والمتنعّمة بخيرات تحولاتها التاريخية الغنية بالإنجازات الحضارية والدروس النموذجية؛ ومع ذلك هنالك نوع من ترقب وانتظار عالمي لما ستنجلي عنه مشاريعُ الربيع العربي، لعلها تدشّن مرحلة جديدة من مصطلح حروب التحرير الشعبية. في حقبتها السابقة أواسط القرن الماضي أنجزت شعوب آسيا وإفريقيا تحررها من الاستعمار الغربي. والعرب وهم في أوائل القرن الواحد والعشرين، يدشّنون حقبة حروب تحرير من (غزو) الاستعمار الداخلي؛ فقد برهنت أنظمة التسلط على أنها قادرة على اختطاف استقلال الشعوب، وتحويله إلى استغلال سلطوي اقتصادوي لصالح أصغر تكوين فردي/فئوي؛ فلا يهم في هذه الحالة ما تكون جنسية هذا التكوين، حتى وإن كانت من نسيج المجتمع عينه الذي تحتل قمته وتجثم هي على صدره. هذا الاستعمار الداخلي، وينبغي وصفه بالوطني بالمعنى المحلي، هو سليل الاستعمار الأجنبي، وهو المستبقي والحافظ لأبغض ما ترسّب من تراثه الهمجي الأول، وإذا كان الغرب يحاول اليوم أن ينقلب على حفيده الوطني المحلي، مدّعيا الوقوفَ إلى جانب الشعوب المنتفضة ضده، فإن له حنينَه إلى ماضيه، لعله يصير له بمثابة مستقبل آخر، قد لا يكرر أخطاء تجاربه السابقة، ذلك أن حاجة الغرب إلى شرقه العربي والإسلامي هي أكثر من كونها مطلبا حيويا، بل وجوديا أنطولوجيا. فرنسا، مثلا، التي تصطفّ علنا وبقوة إلى جانب الثورة السورية، وفي عهدها الجديد من سلطة الحزب الاشتراكي، تبرهن، من خلال مؤتمر «أصدقاء الشعب السوري» الأخير، على أنها طامحة حقا إلى علاقة ندية بالشعوب المنجزة لحركات تحررها. فرنسا تراهن على تجاوز الحلقات المفرغة لما يُسمّى بنشاطات المجتمع الدولي، مؤتمراته وبياناته الكلامية.. فانطلاقا من هذا المؤتمر المختلف في إعداده ومكوناته وبياناته العلنية، قد يرتسم طريق دولي ثالث، يتجاوز ثنائية الإشكالية ما بين أمريكا وروسيا، وقد يأتي بالحل الأقرب إلى الصفة الأخلاقية منه إلى صفة الصفقة في تجارة الدبلوماسية العالمية. هذه الثنائية، بين (بوتين) القيصر و(جورج واشنطن) الأمريكي الأسمر، شكلت سدا مشؤوما في وجه أنبل وأعمق وأصفى ثورات الربيع العربي، المتمثلة في كفاح شبيبة الشام؛ ومثقفو باريس يتخيل بعضهم أن ثمة دورا تاريخيا لفرنسا، بلد الثورة الجمهورية لحقوق الإنسان، هذا الدور هو الذي ربما يُملي على القرار الفرنسي التخلي عن حسابات ما يُسمّى بالسياسة الواقعية (الزائفة) من أجل الواقع العادل الحقيقي، ولو لمرة واحدة، ذلك أن تحرير سورية بإرادة ثوارها وحدهم وكفاحهم البطولي المنظم والعقلاني والمتنامي بإنجازاته الهائلة سوف لن يجعل الربيع طقسا عربيا مزمنا فحسب في مسيرة أمة، بل طقسا عالميا ينبغي لأوربا الجمهورية الجديدة أن تتلقّف هداياه التاريخية، قبل سواها؛ فلا قيامة لأوربا الجمهورية بدون جمهوريات حقيقية لعالم الجنوب العربي والإسلامي. هذه الحقيقة لا نقولها نحن العرب وحدنا، إننا نسمعها تتردد بألفاظ وأنغام متنوعة في نوادي باريس الثقافية والإعلامية. بدلا من أن يقبع البعض في جلسات مأتم طويل في وداع أوربا المتفوقة، الجانحة نحو المغيب الأخير، فإن هناك طلائع فجر آخر لإنسانية مدنية تاريخية عالمية، موحدة غربا وشرقا، وتستحق فرنسا الجمهورية أن تحتل مركز الريادة فيها ولها، شرْط أن تتحقق ريادةُ الربيع العربي لحروب تحرير شعوبه، بدءا من إسقاط أعتى استبداد بدائي همجي في بلاد الشام.. ولن يكون (هذا) موعدا مؤجلا إلى ما لا نهاية...