تحتفل المؤسسات التعليمية في المغرب اليوم باليوم العالمي للغة العربية، التي خصصت لها منظمة يونسكو يوم 18 دجنبر كموعد سنوي للاحتفال بها، إلا أن الأكيد هو أن هذا اليوم سيتحول إلى محطة لمساءلة الذات حول واقع لغة الضاد لدى العديد من المهتمين والغيورين عليها، وبطبيعة الحال لن تنجوّ المنظومة التربوية من هذه المساءلة، باعتبارها الوعاء الحقيقيَّ والأساسي لتعليم اللغة العربية في بلادنا. «تحتفي» المؤسسات التعليمية في بلادنا، اليوم، باليوم العالميّ للغة العربية، حسب ما أعلنت وزارة التربية الوطنية في بلاغ صحافي «مقتضب» بالمناسبة، دعت فيه إلى تنظيم أنشطة ثقافية وتربوية وتوجيهها إلى التلاميذ، من أجل «التعريف باللغة العربية وبمكانتها الوطنية والدولية، سواء عبر مساهمتها في بناء الحضارة الإنسانية أو دورها في التطورات العلمية والتقنية التي يعرفها العالم المعاصر»، وجزمت فيه أنّ المؤسسات التعليمية ستفتح في هذا اليوم نقاشا علميا وتربويا بين الأطر التربوية العاملة على صعيد كل منطقة تربوية، للتعريف بأفضل الأبحاث والتجارب الناجعة في مجال تعليم وتعلم اللغة العربية.. والأكيد أن مثل هذه البلاغات «المناسباتية» باتت متجاوَزة في وقتنا الحالي، وأثبتت أنها لا تضيف إلى أنشطة المؤسسات التعليمية أي إضافة، وإلا سيطرح السؤال حول مصير المئات من التقارير التي ترفع سنويا حول «الاحتفال» ببعض المناسبات داخل المؤسسات التعليمية.. فاللغة العربية اليوم في حاجة من القائمين على شأنها داخل وزارة التربية الوطنية إلى اقتراح برامج واضحة أو مبادرات توجيهية من المختصين، ترسلها إلى المؤسسات التعليمية كي تكون على الأقل أرضية للعمل والاشتغال، بدل اللجوء إلى لغة البلاغات والرسائل التي يبدو من خلال صياغتها أنّها أعِدّت على «نار» السرعة. صحيح أن مناسبة «الاحتفال» باليوم العالمي للغة العربية فتحت نقاشا أكاديميا قبل يومين حول واقعها وموقعها في الدساتير العربية ومدى تخلصها من ترسبات فترات الاستعمار في العديد من دول العالم العربي، وصحيح أن اعتراف منظمة «يونسكو» بهذا اليوم كيوم عالميّ للغة العربية يعد شهادة افتخار للغة العربية واعترافا بهويتها وقيمتها الحضارية والثقافية على المستوى الدولي، وصحيحٌ كذلك أن المناسبة ستكون «لحظة» تأمل لدى العديد من الباحثين وحاملي هم لغة الضاد، سواء في المغرب أو في باقي الدول العربية.. سنقف عند وضعية اللغة العربية في منظومتنا التربوية باعتبارها الوعاء الأساس المفترَض أن يكون محتضنا لأبناء المغاربة والكفيل بتعليمهم لغة الضاد بالشكل المطلوب. لقد ركز الميثاق الوطني للتربية والتكوين، الذي يعدّ أهم الوثائق التي شرحت واقع المنظومة التربوية، في عدد من بنوده على «ضرورة الحرص على اكتساب المعارف والمهارات الأساسية للفهم والتعبير الشفهي والكتابي بالعربية»، وعلى ضرورة تنمية مهارات الفهم والتعبير بالعربية الضرورية لتعلم مختلف اللغات، دون إغفاله ضرورة العناية بتدريس اللغات الأجنبية الأخرى. وبالنظر إلى كون مرحلة الابتدائي والإعدادي والثانوي تعد اللبنة الأساس لبناء جميع المفاهيم والمبادئ الأساسية للغات، واللغة العربية بالخصوص، فإن وزارة التربية الوطنية حاولت عبر دليليها البيداغوجي، الذي صدر تزامنا مع انطلاق تنزيل مشاريع المخطط الاستعجاليّ في شقه البيداغوجي، أن توليَّ مسألة تدريس اللغة العربية العناية الخاصة بها، حيث خلص الدليل إلى كون الكفاية النهائية التي يمكن أن تحققها وحدة تدريس منهاج اللغة العربية هي «جعل التلميذ قادرا على التعبير السليم باللغة العربية» عبر تدرج ينطلق من المستويات الأولى إلى نهاية مرحلة الابتدائي، حيث يصبح المتعلم قادرا على التعبير الشفهي والكتابة والقراءة باللغة العربية، على أن تفتح تلك «القدرة» أمامَه أبوابَ الغوص في بحور اللغة العربية في ما تبقى من مراحل تعليمه. ولتحقيق ذلك راهن الدليل البيداغوجيّ على ضرورة الانطلاق من وضعيات -مشكلات لجعل المتعلم يبني وستعمل المكتسبات اللغوية بدل أن يتلقاها جاهزة عبر التلقين التقليديّ. وقد فصل الدليل البيداغوجي في المبادئ الديداكتيكية المعتمَدة في المستوى الابتدائي لبناء وتدريس اللغة العربية، وهي المبادي التي تتنوع حسب مستويات التدرس، بين اعتماد نظام الوحدات في تدريسها ومبدأ التكامل الداخلي بين مكونات اللغة العربية، إضافة إلى اعتماد مبدأ التدرج المنطلق من التحسيس إلى التلمس والاكتساب، وصولا إلى الترسيخ والتعميق. كما حدد الدليل ساعات تدريس مواد وحدة اللغة العربية، التي تتراوح بين 11 ساعة في المستويات الأولى و6 ساعات في آخر مستويات السلك الابتدائي، قبل أن تتقلص في سلكي الثانوي الإعدادي والثانوي التأهيلي، في أفق التخصص في خلال مراحل التعليم الجامعي. رغم كل ما قد يبدو أن الوزارة تبذله من مجهودات للرقيّ بمستوى تدريس اللغة العربية، فقد تحولت محطة اليوم العالمي للغة العربية إلى محطة «لرثاء» لغة الضاد والتحسّر على وضعيتها، فأغلب الأساتذة المدرسين للغة العربية يقرّون بهزالة مستوى اللغة العربية لدى التلاميذ ويصدّرون المسؤولية إلى من سبقوهم في تدريسها للتلاميذ، فالجامعة تلقي اللوم على الثانوي التأهيلي والأخير يصدرها إلى الثانوي -الإعدادي، الذي يلقي اللوم بدوره على أساتذة التعليم الابتدائي.. فمن المسؤول، إذن، عن تدني مستوى اللغة العربية؟ يرى الباحث التربوي محمد بوجا أن اللغة العربية تعيش حالة «غربة»، باعتبار أن مستوى تدريس المادة يعتبر جدَّ متطور، لكنْ على مستوى الممارسة يسجل عكس ذلك، حيث الاكتظاظ وغياب البنيات الملائمة لتنزيل التصورات الفوقية.. في الوقت الذي يفرض تصور التدريس احترام كل ما يجعل تدريسها يتم في ظروف ملائمة وجيدة. ومن جانب آخر، قال بوجا إن اللغة العربية تدخل في صراع دائم مع غيرها من اللغات الأجنبية، كما أن نظرة المجتمع إلى اللغة العربية تكرّس واقع «الغربة» الذي تعيشه، إذ نجد اللغات الأجنبية هي السائدة في المعاملات، سواء التجارية أو الإدارية، ما يجعل لغتنا العربية تصبح فاقدة لمصداقيتها في نظر الجميع، إضافة إلى انتشار ثقافة تعتبر اللغة العربية بدون مستقبل.. واعتبر بوجا أن الكِتاب المدرسي المعتمَد حاليا مازال يكرّس المفاهيم التقليدية في التربية والتعليم، ويُصعِّب تعلم اللغة العربية ولا يُشجِّع التلميذ على البحث في مجال تعلم العربية ولا يمنحه حرية التساؤل والمحاورة وبناء اللغة.. رغم التصورات الجيدة التي تحفل بها الأدبيات السائدة في المجال. وقال بوجا إن بعض الكتب المُعتمَدة ما زالت محشوة بكمّ من الأسئلة المرتبطة بالنصوص التي تكاد أن تكون نمطية وتجعل محتوى الدروس محصورا في الزمان والمكان وتحدّ من إمكانية المبادرة لدى المتعلمين.. وهذا يحيل على غياب العمل بالمشروع الدوريّ أو السنوي داخل الأقسام الدراسية، بخلاف اللغات الأخرى. وأشار بوجا إلى ضعف الحيّز الزمني المخصص للعربية في الثانوي الإعدادي والتأهيلي، الذي يزيد من تكريس تلك النظرة المنتقصة من اللغة العربية، خاصة في التخصصات العلمية، ما يولد نوعا من الخصام مع اللغة العربية، وبالتالي مع الذات. كما اعتبر بوجا أن الكتاب المدرسي لا يعكس السياسة التربوية القائمة، «فإذا انطلقنا من الدستور السابق والحالي نجد أن هناك تشديدا على ضرورة تشبع المتعلم بقيّم الإنسانية، التي تجعل منه مواطنا فاعلا يؤمن بالقيم الديمقراطية ويعترف بذاته وبالآخر وبالاختلاف»، لكنّ الكتاب المدرسي لا يعكس هذا التصور، بل نجد القيّم السائدة مرتبطة بالانتماء إلى الماضي بنسبة كبيرة، وبالتالي تختزل مسألة تدريس العربية في الحصول على نقط عالية في الامتحانات فقط، ما يجعل المتعلمين يسعون إلى تحقيق ذلك ولو عبر جلب نصوص عربية جاهزة أو الاستناد إلى مجهودات الآخرين، ما يجعل النظام التربوي «يفرّخ» لنا تلاميذ غير قادرين على إنتاج وبناء نصوص بالعربية، وغير قادرين على تقويم مستواهم بشكل سليم. وخلص بوجا إلى كون اللغة العربية تحتاج إلى إعادة النظر في إستراتيجة تدريسها وتعليمها، كي تبلغ المكانة اللائقة بها، لاسيما أنها لغة حضارتنا العربية ولغة أساسية لقراءة باقي الحضارات، على أنْ تكون هذه الإستراتيجية مسؤولة وتوفر للمتعلمين مناخا ثقافيا ملائما لتدريسها وتمكنهم من الإبداع والخلق والمبادرة.. في إطار البيداغوجيات الناجحة المعروفة. ودعا بوجا وزارة التربية الوطنية إلى إيلاء الاهتمام اللازم للكتاب المدرسي المخصص لتدريس العربية، في إطار تعاقد مسؤول بين وزارة التربية الوطنية ووزارة الثقافة وباقي الشركاء.