عملت عدة مؤسسات تعليمية على مشروع التخصص ، واجتهدت في وضع اللبنات الأولى للعمل به مستقبلا لما يضمنه من ايجابيات بالنسبة للمتعلم والأستاذ معا ، في اتجاه البحث عن أفضل السبل للرفع من جودة التعلم ، إلا أن مذكرة استعمال الزمن الأخيرة التي فرضتها وزارة التربية الوطنية جعلت بعض المؤسسات تتراجع عن التخصص وتعود إلى التدريس التقليدي الذي يجعل من الأستاذ متعدد المواد وذلك من خلال فرض عدد ساعات عمل لا يتلاءم مع واقع التخصص و " قولبة " بنية المؤسسة تعسفا على حساب الأستاذ والمتعلم الذي يعتبر مركز العملية التعليمية . وفي الوقت الذي كانت تسعى فيه وزارة التربية الوطنية إلى تشجيع العمل عن طريق المشاريع التي انخرطت فيها مؤسسات تعليمية ( مدرسة مفاحم 1 ) ، وكانت مؤسسات أخرى مقبلة على نفس التجربة ، يبدو أن كل ذلك ذهب مهب الريح وعادت الأمور إلى نقطة الصفر( مدرسة السلام نموذجا ) . وصار الاقتناع أن هناك حالة من العبث والمزاجية هي التي تتحكم في مسار تعليمنا في غياب استراتيجية قارة للنهوض بالمنظومة التربوية ، فلا نستغرب أن ما تؤسس له الوزارة عبر عدة سنوات يمكن أن يهدم بجرة قلم بمجرد وصول مسؤول جديد إلى هرم تدبير قطاع ما ، وان كل مجهودات رجال التعليم يمكن أن يرمى بها في المزبلة ما يعمق الإحباط الذي يشعر به الأستاذ حيث يتم التلاعب به وكأننا أمام لعب أطفال أو مجرد تسلية ... كما أن بعض الأساتذة الذين تطوعوا لتدريس الامازيغية في غياب التكوين والحوافز لم يعودوا قادرين على المضي في هذه العملية التطوعية من خلال ما أصبحت تفرضه الوزارة من شروط العمل بعدة مؤسسات لإتمام حصة 30 ساعة الخاصة بالأستاذ من غير مراعاة الاكراهات والصعوبات التي يواجهها الأساتذة سواء على مستوى التنقل أو على المستوى الإداري وضمانات الحقوق والحماية التي على الدولة أن توفرها لموظفيها ... وعوض توسيع قاعدة تدريس الامازيغية تماشيا مع التحولات السياسية والدستورية التي جعلت من الامازيغية لغة رسمية يلاحظ اضمحلال وعدم الإقبال على تدريس هذه المادة ، نتيجة فرض منطق معاكس للواقع . تدريس اللغة الامازيغية ببعض النيابات انطلق من مغامرة تطوعية ومن اجتهادات وقناعات شخصية خدمة للمنظومة التربوية من طرف أساتذة دون أن تتحمل الوزارة مسؤوليتها من اجل تكوينهم وليس هناك اعتراف بالتضحيات التي قدموها ويقدمونها ، حيث هناك نوع من الإذلال في حق هذا الموظف الذي يمارس عليه الإكراه ، ويتم تحميله جميع إخفاقات المنظومة التربوية من خلال ما يلاحظ من إمكانيات وإجراءات إدارية ومادية ولوجيستيكية وإعلامية لمراقبة هذا الكائن الموظف المتهم ... وإخضاعه تحت سلطة من العشوائية والمزاجية ، والحال ان نفس المنطق لا يسري على جميع مستويات هذا القطاع بحيث ان هناك تباين في ساعات العمل بين الابتدائي والإعدادي والثانوي بل هناك تباين داخل المؤسسة الواحدة ، فكيف يمكن أن يكون الابتدائي استثناءا ، أليس هذا توجه مختل ونظرة دونية لهذا المستوى التعليمي من أساتذة ومديرين ومفتشين ... أليس مدير الابتدائي يتحمل تدبير المؤسسة لوحده من غير حراس وأعوان و ... وإذا كانت المذكرة 122 القديمة المتعلقة بتدبير الزمن المدرسي لقيت معارضة من الأساتذة والآباء حيث لا تراعي القدرات البدنية والفكرية والنفسية لمتعلمي الأقسام الصغرى على الخصوص وقد سقطت المذكرة الأخيرة في نفس الخطأ ، بل مثلت تراجعا خطيرا حيث تم إغفال حاجيات المتعلمين . والحال أن المتعلم يلج إلى المدرسة ابتداء من السنة السادسة يحتاج فيها إلى تلبية رغباته فانه يواجه بمقرر دراسي مثقل من المواد الدراسية المترابطة ولمدة ست ساعات ونصف وهو مجهود كبير لا يقدر عليه طفل في هذه السن بحيث أن استعمال الزمن الدراسي المثقل لا يوفر مجالات الترفيه والإبداع والاعتراف برغبات الصغار وميولاتهم ، خصوصا وان التعليم ببلادنا يركز على التلقين أكثر مما يعترف بقدرات المتعلم ... لقد أراد الخطاب الملكي الاهتمام بالجوهر وليس الشكل أي الخروج من تعليم تلقيني إلى تعليم متفتح ينمي قدرات التفكير والإبداع لدى المتعلم فهل استعمال الزمن بشكله الحالي وبنفس المقرر الدراسي سيحقق هذه الطموحات ؟؟؟ ... المنهجية التي جاء بها ميثاق التربية والتكوين كانت تستهدف تجاوز التدبير المركزي إلى تدبير تشاركي وقد أعطيت لمجلس التدبير قوة اقتراحية في تدبير شؤون المؤسسة التعليمية من جوانب إدارية وبيداغوجية إلى جانب المدير فإننا نلحظ سطو على قيم التشارك وعودة إلى الخطاب العمودي الذي جرد جميع الأطراف داخل المنظومة التعليمية من ادورها وسارت رهينة للتعليمات ... وإذا كان البعض يريد إقناعنا بأن هذا نابع من الخبرة الأجنبية فهل كانت اليابان وكوريا وماليزيا تحتاج إلى الخبرة الأجنبية لتطوير تعليمها . الم يكن وزراؤنا الحاليين إلا نتاجا لخبرة وطنية هي خبرة بوكماخ الذي أنتج لنا أجيالا كانت تحتل المراتب الأولى خلال المسابقات الدولية ، ولم يكن عدد ساعات العمل التي كان يؤديها الأستاذ تتجاوز 24 ساعة قبل أن تضاف الساعات التطوعية زمن النظام الهيكلي إلى أن تم ترسيمها عنوة ... ولعل البعض يعتبر أن الشكل الزمني الحالي الذي فرضته الوزارة معمول به في العديد من الدول ، فان ما يتم إغفاله هو أن الفترات المسائية ببعض الدول ليست فترات تدريسية بقدر ما هي فترات تتعلق بالموسيقى والمسرح والفنون والتكنولوجيا ... وهي مواد ترتبط بالإبداع وبناء شخصية المتعلم ، وهو ما يغيب في المقرر الدراسي المغربي المثقل بالمواد التعليمية إلى حد التخمة دون مراعاة التحولات التي يشهدها العالم من ضرورة اكتساب آليات الحصول على المعلومة . وهناك من يغفل ان عمل الأستاذ لا ينتهي عند 30 ساعة من التدريس بالقسم بل يأخذ الأستاذ معه هم التدريس إلى المنزل لأنه عليه قضاء ساعات إضافية من تحضير الدروس والمذكرة اليومية خصوصا بالنسبة أستاذ الابتدائي متعدد المواد فهو يدرس الرياضات واللغة العربية والنشاط العلمي والتربية الفنية والتربية البدنية والفرنسية والمواد الإسلامية والتاريخ والجغرافيا و ... وإذا افترضتا أن كل مذكرة تكلف الأستاذ نصف ساعة حيث يصل عدد المواد ببعض الأيام إلى السبعة أو يفوقها وهذا من غير الحديث عن المشترك او الأستاذ الذي يدرس عدة مستويات يصل أحيانا إلى أربعة ، فكم هو عدد الزمن الذي سيستهلكه الأستاذ لتحضير عمله ، إلى جانب تحضير الوسائل الديداكتيكية لكل درس . هذا إضافة إلى مجموع الأنشطة المدرسية من مسرح ومسابقات رياضية وتعليمية ... وهي جزء من المهام الواقعة على كاهل الأستاذ . وحيث أن الحجرات تعرف اكتظاظا مهولا يفوق أحيانا 40 تلميذا فما هو حجم المجهود الذي يبذله الأستاذ إذا افترضتا انه سيخصص لكل متعلم دقيقة لمواد أساسية لا تتجاوز مدتها الزمنية 30 دقيقة ، ولهذا نجد أن الدول التي تعترف بحقوق المتعلم والأستاذ لا يمكن أن يتجاوز عدد المتعلمين 25 تلميذا ، وان الأستاذ يشتغل بالتخصص وحسب تدبير زمني يساعد على التعلم ، وحيث أن الاكتظاظ ظاهرة معترف بها بمنطوق المذكرة 60 فان أسباب نعثر المنظومة التربوية تظل قائمة . وقد لا يدرك البعض أن وسائل العمل تخرج من جيب الأستاذ ابتداء من القلم والمذكرة اليومية إلى المرجع والوسائل الديداكتيكية ، في الوقت الذي نلاحظ فيه الوسائل المتوفرة لإدارات هذه الوزارة من وحواسب وطابعات ومكاتب من نوع مكيف و ... وهواتف نقالة لإحصاء حركات هذا الكائن ... يعتقد رجال ونساء التعليم أن المنظومة التربوية تحولت إلى مختبر ، وأصبح كل من الأستاذ والتلميذ أرانب وفئران تجارب تقام عليها البحوث والنظريات ، بحيث هما النقطتان الأضعف في المنظومة التربوية وكل إجراء أو تحول باسم الإصلاح هما اللذان يتحملان آثاره ، فكل حكومة أو وزارة تنتج إبداعات جديدة اعتقادا منها أنها عمليات تصحيحية وإصلاحية لا يتحمل تبعاتها إلا الأستاذ والمتعلم وقد تضر بالمنظومة التربوية أكثر مما تنفعها ، فيذهب وزير برؤياه ويأتي آخر برؤية جديدة تزيد من إرباك المنظومة التربوية ما يخلق بلبلة جديدة على المستوى البيداغوجي وتدبير زمن التعلم من غير مراعاة أن قطاع التعليم هو قطاع يشتعل من اجل الإنسان ويستهدف الجوانب العقلية والفكرية فيه ، وان هذا الحقل يحتاج إلى مراعاة الظروف البدنية والنفسية والقدرات العقلية والحقوقية للمتعلم والأستاذ ، ولا يمكن أن يبنى على أنماط ميكانيكية وآلية بعيدة عن الطبيعة الإنسانية التي تتفاوت حسب الفترات العمرية للمتعلم ، لا يوجد شخص أخر اعلم بواقع القسم من غير الأستاذ ، نظرا لوجود الفروق الفردية بين المتعلمين ونظرا للظروف الاقتصادية والاجتماعية والنفسية المؤثرة في عملية التعلم وطبيعة الواقع الجغرافي ، وتظل بعض النظريات العلمية نسبية لأن الأمر يتعلق بكائن بشري وبواقع اقتصادي واجتماعي ... فمتعلم السنة الأولى ابتدائي ليس هو متعلم السنة السادسة ،وان حاجيات طفل السنة الأولى ليست هي حاجيات طفل السنة العاشرة أو أكثر ،كما ان متعلم العالم القوي الذي يقطع 5 او 7 كلم ليس هو متعلم الحضري ، والمجهود الذي يبذله أستاذ كل مرحلة تعليمية يتفاوت حسب حاجيات المتعلمين ، وعليه فان أي بناء لا يحترم هذه المعطيات سيسقط في نفس الاجترار الذي تتخبط فيه المنظومة التربوية . والى أن يأتي وزير جديد برؤياه تحت اسم الإصلاح ما على الأستاذ والمتعلم إلا انتظار المفاجآت والمذكرات والقرارات وذلك حال منظومتنا التعليمية ...