من الطبيعي أن يطرح من يصفون الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين بالشيخ الصوفي ويصفون أعضاء الجماعة بالمريدين السؤال التالي: «من وارث سر الشيخ ياسين، أهو أحد أبنائه، أو إحدى بناته كما هو حال الطرق الصوفية، أم أحد نجباء الطريقة الياسينية من مجلس الإرشاد؟». ومن الطبيعي أن يطرح من يصفون الجماعة بالحزب السياسي الذي يطمح أعضاؤه إلى التسلق إلى المناصب وأن رئيسها منتصب على عرشها السؤال التالي الثاني: «من وارث عهد العرش الذي تربع عليه عبد السلام ياسين منذ تأسيس حزب العدل والإحسان إلى الآن؟ ولمَ لمْ يعيّن بعد ولي العهد؟». في الحقيقة، لا أستغرب طرح مثل هذه الأسئلة لأن الناس ألفوا وبُرمجوا على اعتقاد أن في تاريخنا وحاضرنا، قبل أن يموت الشيخ الولي للطريقة الصوفية التي تجمع الناس على الذكر، يعهد إلى ابن من أبنائه بسر الولاية أو إلى مريد نجيب في الطريقة. وإن لم يفعل هو، يفعل ذلك الأتباع المقدمون، إذ يعتبرون أن لا أحق ولا أقدر على وراثة سر الشيخ سوى من أتى من صلبه أو عيّنه هو. وبُرمجت الرعية على أن الملك والرئاسة في الشؤون السياسية تمر كذلك إلى ولي عهد يعينه السلطان أو الملك أو الرئيس وتزكيه «المجالس المستشارة». وبما أن العدل والإحسان تجمع الناس على الذكر في الرباطات والاعتكافات ومجالس النصيحة، وبما أن مرشدها كان مريدا نجيبا مقدما في الطريقة البودشيشية لم يرث، فإذن هو شيخ صوفي مقنّع سيقلدُ المشايخَ والمريدون المريدين. هكذا بهذه البساطة التبسيطية يقول مَن يحكم على مشروع ضخم مؤسِّس لمجتمع بديل، مثل جماعة العدل والإحسان، من خلال ما يلقى في مقال صحافي مُغرض من كلمات أو من خلال ما يُسمع من درس لواعظ رسمي ملكي أو وهابي. يقول ويحكم دون أن يقرأ ولو صفحة من عشرات الآلاف من صفحات مكتوبات الأستاذ المرشد المؤسِّس. لا يُتصور أن يوجد في هذا العصر عالم مجتهد عصامي تخرج من مدرسة العلم الشرعي السني التي لُبّها حفظ القرآن، وتخرج من مدرسة الصحبة الصوفية والذكر التي لُبّها صحبة الصالحين ومجالستهم في الرباطات، وتخرج من مدرسة الفكر المعاصر الحديث التي لُبّها الغوص في كتب منظريه بلغات القوم الأصلية. عالم مجتهد لم يتخرج لا من جامعة القرويين ولا من جامعة الأزهر ولا من جامعة أم القرى، ولم يتخرج لا من السوربون ولا من الهارفرد. لا، نحن في المملكة المغربية عندنا عبقري واحد ومخترع واحد ومجتهد واحد يعلم كل المغاربة من هو! جمع الأستاذ المرشد تلكم العلوم الثلاثة وهو المتمكن من علوم أخرى، كاللغة والشعر والتاريخ وغيرها، واستخرج منها علما قرآنيا سنّيا نبويا أساسه كتاب الله عز وجل وسنة الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، على منهاج أهل السنة والجماعة، و»تجرأ» على أن يجتهد في نسج كل هذه العلوم بمنهاج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعيدا عن الجامعة الشرعية الفقهية الرسمية التي حدد لها الملك العاض والجبري حدودا في الاجتهاد تُبقي على هيمنته؛ بل أقفل باب الاجتهاد الذي يوشك أن يحدث التغيير في الفهم والعمل، وعوضه بالتقليد والكسل. ولقد «تجرأ» علماء مجتهدون، رضي الله عنهم، أمثال الإمام أحمد وابن تيمية والإمام مالك، وأرادوا ممارسة الاجتهاد، فضرب الحكام على أيديهم بقسوة وعذبوهم وأدخلوهم السجن، وقاتلوا القائمين من آل البيت وشرّدوهم قبل ذلك، تنكيلا وقتلا يُبقي «العالمَ» المقلد في خدمة السلطان الجائر؛ فلا غرابة أن تسمع علماءنا الرسميين الحاليين يقولون هذا ما درسناه في الجامعة وهذا ما وجدنا عليه آباءنا في العلم. الاجتهاد من أجل التغيير لا يجرؤ عليه إلا حرُّ، تحرر من قيود العبودية لغير الله. تحرر من الخوف ومن الطمع إلا من الطمع في رضى الله والخوف من عقابه، واجتهد بدون خوف ولا كسل في الاستنباط والتنزيل والتجديد والإبداع. بهذا أخي، تعلم بأن الأستاذ المرشد ليس شيخ طريقة بل مؤسس مدرسة في العلم القرآني والتقوى، حرة من قيود السلطان، تجدد الدين في العقل فهما وتجدد الإيمان في القلب تربية وترجع في ذلك إلى النبع الصافي: القرآن والسنة، تصفيه من شوائب ما علق به من طقوس وشطحات المتصوفة، ومنها توريث السر، وشوائب أخرى لا تجدها في جماعة العدل والإحسان. تخرج الأستاذ المرشد من مدرسة العلم الشرعي ومن مدرسة الصوفية ومن مدرسة الفكر الحديث، فأخذ اللب وانتفع به وترك الشوائب جانبا بمصفاة المنهاج الذي استقاه مباشرة من القرآن والسنة، وصاغ من كل هذا علما وفقها جديدا مجدِّدا. وليس الأستاذ المرشد رئيسا لحزب، يا أخي، ولا سلطانا متربعا على عرش سيخلفه فيه ولي عهده، بل مؤسس لمدرسة جديدة في الممارسة السياسية تعتمد الشورى والعمل الجماعي على مسار بناء دولة القانون والحرية والحقوق السياسية والاجتماعية الفردية والجماعية. دولة تؤهل الإنسان المغربي لكي يكون مشاركا حقيقيا في تدبير شؤونه عبر اختيار ممثليه ومحاسبتهم.. اختيار واع وحر ومسؤول عبر انتخابات شفافة ونزيهة. دولة تفصل فيها سلطة التشريع عن سلطة التنفيذ والقضاء فصلا حقيقيا لا صوريا، دولة تصنع وتنتج باقتصاد قوي وتوزع بالقسط والعدل، تضمن حرية المعتقد وتضمن حرية الفكر المسؤول والتعدد الحزبي الذي يحافظ على التدافع الذي يمنع هيمنة الفكر الوحيد والحزب الوحيد... لكأني بالحداثي يهتز من مكانه لقراءة ما سلف قائلا: أهذه دولة القرآن التي تبشرون بها؟ نعم، هذه دولة القرآن التي ننشدها لا دولة استغلال القرآن التي قرأتم عنها في تاريخ المسلمين وتعيشونها. دولة تعيد إلى المرأة وضعها الحقيقي، لا الشكلي، الذي يجب أن تلعبه في بناء المجتمع وتدبير شؤونه، دولة تؤهل المرأة لتربي الأجيال الحرة القوية الواعية والمتعلمة؛ وكيف تفعل ذلك إن لم تكن هي حرة وقوية وواعية ومتعلمة؟ دولة تشرك المرأة، حقيقة لا صوريا، في تدبير الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي من زاوية تخصصها وما اختصها به الله من سعة وشمولية في النظر تكمل به زاوية الرجل وتخصصه. وكأني ثانية بالحداثي يهتز فزعا ويقول «لا، لا، لا، لا يفكر الإسلامي هكذا، حسب ما استقر لدي من «كليشيهات» عن صورته؛ لا، لا، لا، هذه شعبوية جديدة ذكية...». لا تقنع، أخي «بالكليشيهات» إن كنت صِدقا باحثا، راجع واقرأ وتحقق. دولة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودولة الخلفاء الراشدين المهديين الخمسة، ودول بعض الصالحين من الملوك كانت كذلك، وهي المرجعية الإسلامية المعتمدة في أسس ومبادئ وأصول السياسة الإسلامية الشرعية. على عكس سياسة دول الملوك المفروضين، العاضين بالمصطلح النبوي، السارقين لإمامة الأمة ولأموالها. الخليفة الراشد إمام عادل تولى الأمر بشورى المسلمين، انتخب ويحاسب على سياساته ويقبل الرأي الحر ويطلبه لتقويم عمله، يوقر الراهب في معبده ولا يتجسس على الناس ويحترم حقهم في سلوكهم الفردي داخل بيوتهم ونواديهم مادام لا يخل بالنظام العام، يضمن الحق في الأمن والمسكن والعمل والحقوق الأخرى ويسوسها. يلتزم الخليفة الراشد بالمواثيق المصدق عليها والتي تربطه بالدول في ضمن علاقات التعايش والاحترام المتبادل. يرجع في أموره إلى أهل الشورى، أهل الحل والعقد الذين رضيهم الناس وانتخبوهم لصدقهم وإخلاصهم وعلمهم وجهادهم، ومنهم النساء. يمثل أمام القاضي المستقل في أي نزاع وينزع قبعة حصانة رئيس الدولة. هذه بعض معالم دولة القرآن، ولنا في ما بسطناه من هذه المعالم والصوى حد أدنى نلتقي عليه مع الفضلاء الديمقراطيين في مرحلة ما بعد الاستبداد. نلتقي على ما يسمى دولة الحق والقانون، نصل إليها عبر حوار جاد ومسؤول وميثاق مؤسس للتعددية والحرية ودولة المؤسسات. شرط الجدية والمسؤولية في الحوار وشرط الصدق والوضوح في الرفض البين والمعلن للاستبداد أيا كان قناعه. فأين محل وراثة العهد من بعض ما بسط من أصول دولة القرآن، دولة القانون والحقوق الفردية والجماعية والثقافية، ودولة العدل في تكافؤ الفرص والتوزيع، ودولة المؤسسات وفصل السلط وربط المسؤولية بالمحاسبة، لا دولة استغلال ألقاب الجلالة وخلافة الله وظله في الأرض واستغلال الأنساب من أجل الهيمنة والتحكم وأكل أموال الشعب بالباطل. تلكم الدولة الثيوقراطية التي يقبلها ويعمل في ظلها، عجبا، اللآئكيون الحداثيون. يتهمون نياتنا في إحلالها، ونحن في فكرنا ومشروعنا منها براء بينما هم يشرعنون لها بانضوائهم في ظلها. عجبا للائكي وحداثي ويساري أو يساري كان متطرفا، يركعون في صلاة البيعة في نظام ملكية ثيوقراطية توظف الدين في تثبيت التسلط في صورة إسلام سياسي بامتياز، ثم يتهمون به من ينشدون سياسة إسلامية تحرر المواطن من قيود الخضوع للاستبداد ومهانة ذل الركوع لغير الله. قيادي في العدل والإحسان