تغيرت الكثير من المعطيات بعد صعود الاشتراكي فرنسوا هولوند إلى سدة الحكم في فرنسا. فبعدما تميزت العلاقات بين المغرب وفرنسا بفترة «مشمسة» إبّان ولاية حكم ساركوزي لفرنسا ومراهنة المغرب على تمكن المرشح اليميني من ضمان منصبه لولاية رئاسية ثانية، خرج هولوند منتصرا، لتتغير بذلك كثير من الرهانات، لعل أهمهما بالنسبة إلى منطقتنا هي العلاقات الثنائية بين فرنساوالجزائر من جهة، وبين فرنسا والمغرب من جهة ثانية. فأيهما سيرضي هولوند: الجزائر، التي اختار زيارتها أولا، أم المغرب، الشريك الاقتصادي والحليف الإستراتيجي؟ حتى تستطيع أن تحيد عن العُرْف الضمنيّ الذي تم الالتزام باحترامه حتى وقت جد قريب، والذي يقضي بأن يُدشّن الرئيس الفرنسي المنتخب حديثاً ولايته الرئاسية بالتوجه أولا إلى المغرب قبل الذهاب إلى الجزائر، كان يتوجب على باريس أن تتخذ بعض الاحتياطات. فبعدما أعلن نيته زيارة الجزائر في ال19 وال20 من دجنبر على رأس بعثة مهمة، أمر فرنسوا هولوند وزيره الأول، جون مارك أيرو، بالتوجه على وجه السرعة إلى الرباط في ال12 و13 من دجنبر على رأس بعثة وزارية لا تقلّ أهمية على تلك التي ستحلّ بالجزائر. ويستدعي هذا التنافس الحاد بين هذين البلدين المغاربيين، الذي يتجسد كذلك من خلال العلاقات التي تربطهما بالقوة الاستعمارية السابقة، الكثير من اللباقة. كما أن هذا الارتباط المستحيل بين الأطراف الثلاثة يشكل مصدرا لكثير من المشاحنات الدبلوماسية. «هولوند الجزائري» منذ انتخاب المرشح الاشتراكي عشية سادس ماي، أضحى المغرب في حالة من القلق، المغرب الذي كان يلاقي معاملة جد خاصة أثناء فترة حكم نيكولا ساركوزي. حينها بدأ المغرب يدقق في تفحص «الإشارات» وفي تنقيح لائحة أصدقائه بين الأشخاص المحيطين بالرئيس الفرنسي الجديد. لماذا تم اعتبار الاشتراكية إليزابيت كيكو، المزدادة بمراكش، صديقة للمغرب؟ أليست من بين أعضاء الحكومة الاشتراكية الجديدة؟ كما أن المغرب اطمئنّ إلى تواجد الناطقة باسم الحكومة، نجاة بلقاسم، ذات الأصول المغربية، والتي كانت عضوة في مجلس الجالية المغربية في الخارج إلى حدود دجنبر 2011. لكن الرباط انتبهت، كذلك، إلى وجود «لوبيّ مساند للجزائر» داخل قصر الإليزي، يتمثل في كل من ستيفان لوفول، وزير الفلاحة، وقادر عريف، الوزير المنتدَب المكلف بالمحاربين القدامى، وفوزي لامضاوي، أحد الموالين لفريق هولوند في الحزب الاشتراكي، والذي تم تعيينه في منصب مستشار مكلف بالتعددية.. كان هؤلاء الثلاثة ضمن الوفد الذي رافق الأمينَ العامّ السابق للحزب الاشتراكي في الزيارتين اللتين أجراهما إلى الجزائر سنتي 2006 و2010. ولم يتطلب الأمر وقائع أكثر من هذه كي تصبح عبارة «هولوند الجزائري» تتردد بقوة داخل الصالونات المغربية.. كما أنّ هذا القلق تجسّدَ بشكل جليّ في ال24 من ماي. فقبل مرور عشرة أيام على تنصيب فرنسوا هولوند في منصب رئيس الجمهورية الفرنسية، استغلّ الملك محمد السادس فرصة تواجده في زيارة غير رسمية لفرنسا كي يكون أول رئيس دولة أجنبي يستقبله قصر الإليزي.. لم ترشح الكثير من المعلومات حول هذا اللقاء، لكنّ الأهم كان هو مصافحة الزعيمين لبعضهما: الكفة تميل لصالح المغرب!.. لكن الجزائريين لم يقفوا مكتوفي الأيدي حيال ما يجري. وفي هذا الصدد، كان رد فعل الصحافة الجزائرية عنيفا، حيث رحّبت بانتخاب فرنسوا هولوند من خلال التأكيد على امتلاكه «ميزة الاختلاف عن الرؤساء الاشتراكيين السابقين، حيث يحتفظ بمسافة بعيدة في علاقته مع المغرب».. وفي اليوم الموالي (23 ماي) أجرى فرنسوا هولوند ورئيس الدولة الجزائرية مكالمة هاتفية، وتمّت الإشارة في بلاغ صحفي صدر عن الإليزيه إلى «الرغبة في تطوير الشراكة وتعزيزها بين البلدين في كل المجالات». كما أن الزعيمين، يوضح نص البلاغ، «توصّلا إلى اتفاق يقضي بإجراء لقاء في أقرب الآجال». لم يمُرَّ ذلك الخبر مرور الكرام، بل تم الانتباه جيدا إلى تداعياته، فلأول مرة، سيقوم رئيس فرنسيّ بزيارة الجزائر قبل المغرب: الكفة تميل لصالح الجزائر!.. ترجيح الكفة كيف تحاول فرنسا، إذن، التعامل مع كلا البلدين؟ في خطاب ألقاه في ال29 من نونبر أمام ثلة من رؤساء الشركات الذين اجتمعوا في الغرفة الفرنسية للتجارة والصناعة المغربية، حاول سفير فرنسا، شالرز فرايس، بذلَ كل جهوده لطمأنة محاوريه: «انزعج البعض في المغرب من رغبة السلطات الفرنسية الجديدة في تطوير علاقاتنا مع الجزائر (...). لكنْ ينبغي استيعاب أنّ تقوية العلاقات الذي ترغب باريس والجزائر في تحقيقها لا يمكن أن تُترجَم، في أي حال، في ترجيح الكفة على حساب المغرب». ولأجل تعزيز أقوال السفير، أعلن بلاغ نشره قصر الإليزي، في اليوم الموالي، وبعد مكالمة هاتفية جرت بين فرنسوا هولوند ومحمد السادس، أن «رئيس الدولة الفرنسية سيحل بالمملكة الشريفة في بداية سنة 2013». كما وضح البلاغ «توافق رؤى الزعيمين»، وبشكل خاص حول الوضع في الساحل، وذكر أن «اللقاء الحكوميَّ المرتقب في منتصف شهر دجنبر يجسّد الطابع الاستثنائيَّ لعلاقاتنا ومدى عمق الحوار السياسي الثنائيّ». وتزعج هذه العلاقة الاستثنائية الجزائر، التي تدعو بشكل صريح إلى «إعادة ترجيح الكفة»، وفقا للعبارة المستخدَمة بإلحاحٍ من قِبَل أحد المُقرَّبين من الرئيس بوتفليقة. كما أن هذه الدعوة وجدت آذانا صاغية لدى فرنسوا هولوند، الذي يرغب في التميُّز عن سلفه والتعامل بطريقة مختلفة مع هذين الأخوَين/ العدُوّيْن... فبعد توجهه إلى مالطا، في بداية شهر أكتوبر لحضور لقاء لزعماء دول الضفة الغربية لبحر الأبيض المتوسط والمغرب العربي، حرص الرئيس الفرنسي على إجراء محادثات ثنائية مع الوزير الأول الجزائري، عبد المالك سلال، كما هو الشأن بالنسبة إلى رئيس الحكومة المغربية، عبد الإله بنكيران.. قام هذا الأخير بإطلاق هذه الدعابة، التي نقلتها جريدة «لوموند» على لسان أحد الشهود: «تسير الأمور بيننا بشكل جيد إلى درجة أننا لا نجد ما نقوله لبعضنا البعض».. وفي الواقع، تظل العلاقات الفرنسية -المغربية منقطعة النظير داخل منطقة المغرب العربي. وفي هذا الصدد، جاء استقلال المغرب سنة 1956 بأضرار أقلَّ من ذلك الذي حدث في الجزائر. كما أن العلاقات الاقتصادية والثقافية بين البلدين تظل جد متطورة (شبكة المدارس الفرنسية في المغرب هي الأولى في العالم) دون التطرق إلى السياحة.. وسواء تعلق الأمر باليمينيين أو اليساريين، ألا يمضي المسؤولون السياسيون الفرنسيون عطلهم في المغرب؟ فبعد مرور وقت وجيز على هزيمته في الانتخابات الرئاسية، اختار نيكولا ساركوزي المغرب لأجل قضاء فترة راحة رفقة زوجته، كارلا بروني داخل قصر وفّره له الملك. «لا نستطيع مجارة المغاربة في حفاوة الاستقبال»، كما تساءل دبلوماسي جزائري مؤخرا.. لكنّ ذلك لم يمنع سفير الجزائر في فرنسا، ميسوم صبيح، من استقبال الضيوف الفرنسين. فنهاية شهر نونبر استدعى هذا الأخير إلى إقامته في «نويي» إليزابيت كيكو وزوجها جون لوي، لحضور مأدبة عشاء كضيفين شرفيين. لكنْ، وبشكل خاص، تضغط باريس بدون أيِّ شروط لتحقيق موقف الرباط، الذي يقضي بمنح حكم ذاتيّ للأقاليم الصحراوية، الذي يظل نقطة الخلاف الجوهرية مع الجزائر، التي تدعم من جانبها فكرة إجراء استفتاء حول تقرير المصير، ولا تتوانى في تقديم مساعدتها للبوليساريو. تقارب صعب إذن، هل نحن أمام نزاع مستمر بين الجزائروالرباط؟ لم تصمد طويلا محاولة التقارب بين الجزائر والمغرب من خلال الزيارة التي أجراها وزير الشؤون الخارجية، سعد الدين العثماني، وهي الزيارة الأولى من نوعها لرئيس للدبلوماسية المغربية منذ سنة 2003. «العلاقات الجزائرية المغربية في أسوأ وضع»، كما جاء في عنوان صدر في ال12 من نونبر على موقع الأخبار الإلكتروني الجزائري «Maghreb Emergent»، الذي تطرَّق للتدهور المفاجئ ف العلاقات بين البلدين بعد الخطاب الذي ألقاه الملك محمد السادس في سادس نونبر بمناسبة الذكرى ال37 للمسيرة الخضراء لسنة 1975 (اللحظة التي ضم فيها المغرب الأقاليم الصحراوية). وفي ذلك الخطاب تطرّقَ العاهل المغربي لغياب «الإرادة الصادقة لدى الأطراف الأخرى وتماديها في خطة العرقلة والمناورة». من جانبها، ردّت الجزائر على المغرب، من خلال اتهامه بالتشجيع على دخول المخدرات بكميات كبيرة إلى الأراضي الجزائرية، ورغبة المغرب في تفضيل استمرار الوضع القائم في الصحراء. ومنذ أزيد من 35 سنة، مازالت القوة الاستعمارية الاسبانية السابقة مستمرة في تغذية الاختلافات بين البلدين. ولعلّ أبرز تجليات ذلك الخلاف هو إقامة حائط بين البلدين.. «لقد تغلب الحسّ الوطنيُّ المرتبط بالدولة على التضامن بين الشعوب الذي كان قويا في السابق.. الآن، أصبح الشعبان بالكاد يعرفان بعضهما البعض»، يلاحظ المؤرخ بنجمان ستورا، متابعا: «لم تكن هناك أيُّ دلائل تاريخية يمكن أن تتوقع مثل هذا الاختلاف»، كما أوضح ستورا في كتابه «رحلات في ما بعد الكولونيالية»، من خلال الإشارة إلى مؤتمر طنجة لسنة 1958، الذي جمع بين حزب الاستقلال وجبهة التحرير الوطنية الجزائرية، الحزبين الوطنيين التاريخيين. لكنْ بعيد استقلال المغرب، اندلعت شرارة عدة وقائع مرتبطة بترسيم الحدود التي خلّفها الاستعمار. وكانت نتيجة تلك الخلافات هي «حرب الرمال»، التي وقعت سنة 1963 بين البلدين «الشّقيقَيْن». وبعد مرور 30 سنة على تلك الحرب، وبالضبط في سنة 1994، تم إغلاق الحدود البرية بين الجزائر والمغرب، بعد حادث تفجير في مراكش وقرار السلطات المغربية فرضَ التأشيرة على المواطنين الجزائريين، في خضمّ الحرب الأهلية الجزائرية. ومازالت تلك الحدود مغلقة إلى اليوم، وتقف حجر عثرة في وجه تحقيق وحدة المغرب العربي وفتح سوق إقليمية مشتركة. عن جريدة «لوموند»