مع متم سنة 2012 تكون قد مرت 100 سنة على حدث التوقيع على معاهدة الحماية، التي أصبح المغرب بموجبها تحت الاستعمار الفرنسي والإسباني. واليوم، حينما نستحضر بعض محطات هذه السنوات المائة، نراهن على إنعاش الذاكرة المغربية والتذكير بما قام به العلماء والسياسيون من مهام لاستعادة الاستقلال والحرية. نعترف ب«أن أكبر الحروب ليست هي حرب الحديد والنار، ولكنها حرب الذاكرة». لذلك هذه سلسلة عن تاريخنا المغربي الحديث. تاريخ اخترنا أن نصيغه بلغة الحاضر لكي نستشرف من خلاله المستقبل. أربع حلقات نعرض فيها لفترة حكم المولى عبد الحفيظ والتوقيع على عهد الحماية، ونبسط للخلفيات التي دفعت الفرنسيين لاختيار محمد بن يوسف سلطانا على المغرب، وكيف اندلعت الثورات المسلحة قبل وبعد نفي السلطان الشرعي. وحكاية الظهير البربري ووثيقة المطالبة بالاستقلال، قبل أن نختم باللحظات العصيبة التي عاشها محمد الخامس رفقة أسرته في المنفى، والدور الذي لعبه الحسن الثاني، وهو وقتها ولي للعهد في استعادة استقلال البلاد. حينما توفي المولى الحسن في بحر سنة 1894 بمعسكره وسط منطقة مناهضة، هي منطقة تادلة. اختار ابا حماد، الذي سيصبح بعد ذلك الصدر الأعظم لنجله المولى عبد العزيز، وهو سليل عبيد البخاري، أن يخفي أمر الوفاة إلى حين الوصول إلى منطقة آمنة. لقد كانت وفاة السلطان في ظروف مماثلة، كما كتب الصحافي «والتر هاريس،» تشكل تهديدا كبيرا للدولة. «وإن إعلان موته في حينه، كان سيؤدي إلى الهجوم على المعسكر السلطاني ونهبه. فطالما السلطان حي وحاضر وسط جموع جيشه، فإن هيبته تكفي لعدول القبائل عن مهاجمة معسكره. أما مجرد شيوع خبر وفاته، فإنه سيؤدي بسرعة كبيرة إلى الفوضى العارمة، بل إن الجيش نفسه سيشرع في ممارسة النهب والقتل» كما كتب الصحافي «والتر هاريس». ولعل كل هذه الاحتمالات هي التي استحضرها بكل تأكيد ابا حماد لحظة وفاة السلطان. فدبر، بذكاء، سبل التعامل مع الوفاة، خاصة وأن المولى الحسن الأول، حسب رواية والتر هاريس، توفي في خيمته، وهي خيمة محاطة بحاجز من الكتان، لا يلجها أحد إلا في مناسبات نادرة. هكذا، فإن عبيد السلطان فقط من كانوا على علم بموته، هم والحاجب، الذي سيظهر موت السلطان، بعد أن أحضر الوزراء وأرباب الدولة والعمال والعسكر وسائر الأعيان، وعقد البيعة لنجله مولاي عبد العزيز، الذي لم يكن قد وصل بعد سن الرشد. أبا احماد الحاكم الفعلي للبلاد سيعترف الجميع لبا احماد بالخبرة الواسعة في تدبير شؤون الحكم، وبالتكتم في القرارات، والمهارة في استغلال التنافس بين القبائل والتنظيمات الدينية. وكان شغوفا بممارسة الحكم، حريصا على ضمان تأييد الأعيان في المدن وخاصة العلماء في كل من فاسومراكشومكناس». لكنه كان بالمقابل قاسيا لا يعرف الشفقة بأحد إذا هددت مصالح الدولة. وكان، بالرغم من نوازعه الشخصية، رجل دولة مرموقا، اجتهد طيلة حياته في صون استقلال بلده الذي بات مهددا بعد وفاة السلطان مولاي الحسن. ولم تشغله اهتماماته السياسية عن تكوين ثروة شخصية كان يضرب المثل بضخامتها، ومن مؤشراتها أن مبلغ ما أنفقه على مجرد توسيع بعض أروقة قصره الشهير الباهية في مراكش خلال ثلاثة عشر شهرا من سنتي 1896 إلى 1897 يقدر بحوالي مليون ونصف من الفرنكات الذهبية. لقد كتب أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، عن ابا احماد أنه: «مهما يكن اختلاف المؤرخين حول أوصاف هذا الوزير، وحول تقدير دوره في الأحداث، فإنهم كادوا يجمعون على اعتبار عهد وزارته، مع ما ميزها من الاستبداد، عهد استمرار لهيبة السلطة المخزنية كما كانت في عهد السلطان مولاي الحسن. وقد انتقد على الخصوص لكونه أبعد عددا من الرجال عن دواليب المخزن، وخلق فراغا انقضت بسببه عدد من قواعد المخزن بعد موته، ولربما أفسد إلى حد ما شؤون العمال وبالتالي الرعية بابتزازه حتى إن الناس ظلوا أجيالا بعده يضربون المثل بمال ابا احماد، كما يذكرون مال قارون». وفي 1900 توفي أحمد بن موسى، الرجل القوي والحاكم الفعلي للبلاد خلال العهد العزيزي الأول، رغم العناية الفائقة التي أحاطته بها نخبة من أفضل الأطباء الأوربيين المتواجدين بمراكش حينذاك، وثلة منتقاة من فقهاء مغرب نهاية القرن التاسع عشر. لم يتردد السلطان مولاي عبد العزيز في ذرف الدموع، وهو يودع الرجل، الذي قاده إلى العرش، ويلقي على قبره نظرة الوداع. لقد تذكر السلطان ما حدث قبل سنوات وهو طفل لا يزال لم يتجاوز عمره اثنتي عشرة سنة بعد، يوم ضمن له الراحل عرش المغرب ضد إرادة العديد من رجال المخزن الأقوياء. «غير أن السلطة والثروة لم تكونا سوى وضعين عابرين في مغرب تلك الحقبة»، كما علق الكثير من المؤرخين الذين كتبوا عن ابا احماد وعن ثروته. فأول ما فعله السلطان المولى عبد العزيز حين عودته إلى البلاط، بعد دفن الصدر الأعظم، كان هو إصدار الأمر بحجز ممتلكات الهالك وبيعها جميعها لمن وقفت عليه. المولى عبد الحفيظ يقاتل إخوته مرت الحقبة العزيزية الثانية بعد رحيل الصدر الأعظم دون أن تترك الكثير من الأثر، خصوصا وأن المستعمر الفرنسي بدأ يقترب أكثر فأكثر من وضع اليد على المغرب ودفع السلطان الجديد، الذي لم يكن غير الأخ المولى عبد الحفيظ، إلى قبول شروطها بعد أن شددت عليه الخناق. وقبل ذلك، سيحمل إخوة السلطان المولى عبد الحفيظ في وجه أخيهم السلاح، قبل أن ينتصر عليهم جميعا وهم مولاي عبد العزيز، ومولاي أمحمد، ومولاي عمر، وعبد الرحمان، ومولاي الزين، وهو أخ السلطان عبد الحفيظ من أبيه الذي بويع سلطانا في مكناس في 17 أبريل 1911، سنة قبل التوقيع على الحماية، والذي نجح في تضييق الخناق على فاس، وسبق له أن حاول سحب بساط السلطنة من مولاي عبد الحفيظ. بل إن مولاي الزين سينتهي به المطاف هو الآخر في 8 يونيو 1911 إلى التواري بعد أن أخضعه جيش الاحتلال والسلطان معا، ليعلن ولاءه لأخيه. كانت بيعة المولى عبد الحفيظ سنة 1908 بيعة مشروطة، لأن العلماء عندما خلعوا أخاه المولى عبد العزيز، بايعوا عبد الحفيظ على أساس شروط في مقدمتها إلغاء شروط معاهدة الجزيرة الخضراء، وتحرير الثغور الأجنبية. ذلك أنه لما تورط المولى عبد العزيز في المصادقة على ما فعله ممثلوه في مؤتمر الجزيرة الخضراء، ثار الشعب المغربي، وانتفض العلماء والأعيان في وجه السلطان، لأنهم رأوا أن خير وسيلة للتحرر من التزاماته هي الثورة على السلطان وخلعه. كما قام العلماء ودعوا إلى مقاومة كل ما هو أجنبي، من البضائع الفرنسية وغيرها، وألهبوا حماس الجماهير التي هبت للدفاع عن وطنها ودينها، وأعلنوا خلع السلطان المولى عبد العزيز ومبايعة أخيه المولى عبد الحفيظ. وعلق الكثيرون على أن هذه البيعة تعتبر عقدا بين الملك والشعب يخرج بنظام الحكم من الملكية المطلقة، إلى ملكية مقيدة دستورية. فليس من حق السلطان منذ الآن أن يبرم أية معاهدة تجارية أو سلمية إلا بالرجوع إلى الشعب ومصادقته. لهذا، تعد نازلة خلع سلطان ومبايعة آخر أهم حدث سياسي وفقهي عرفه المغرب في بداية القرن العشرين، ولعلها تكون سابقة في تاريخ المغرب السياسي. كانت المرحلة قد فرضت على المولى عبد الحفيظ الجهاد في كل الجبهات، خصوصا وأن فرنسا كانت قد احتلت مدينتي وجدة والدار البيضاء بعد احتلالها للجزائر وتونس. قبل أن يجد نفسه مكرها على دخول مفاوضات ديبلوماسية مع فرنسا. إذ سيخضع لضغوط الفرنسيين ولشروط الحكومة الفرنسية، وسيجد نفسه في وضع شبيه بذلك الذي وجد عليه أخوه مولاي عبد العزيز في خريف 1907. لم يكن الضغط الاستعماري وفراغ الخزينة المالية والديون المتراكمة وحدها الأسباب التي أدت إلى تراجع شعبية العهد الحفيظي، لقد كان دور بعض وزرائه حاسما فيما آل إليه الوضع بسبب تواطئهم مع المستعمر. وفي مقدمتهم الصدر الأعظم. فلم ينجح في الالتزام بأغلب شروط البيعة الحفيظية، التي لم تراع مثلا ما اشترطته من إلغاء المكوس، وتحقيق العدل بين الناس، وهكذا برزت انتقادات عديدة للسياسة الجبائية للسلطان. لقد بالغ القواد في إرهاق المغاربة بالضرائب بعد أن تم التراجع عن الترتيب الذي سنه العهد العزيزي، وكف العمال عن الدخول في الخطط الشرعية، أي فصل السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية، لأن الجمع بين السلطتين في يد القواد مدعاة للاستبداد وتجسيد لأبشع صور الاستغلال السلطوي. أما سلطان الجهاد نفسه، فقد كانت له وجهة نظر أخرى يفسرها لكل المعترضين على دفع الضرائب المرهقة في كتابه «داء العطب قديم» «فالواجب على المعترض أن يعلم أن المغارم قسمان: قسم يقوم به واجب الديانات وهو الزكاة والأعشار، وقسم تقوم به المصالح العمومية، كجلب الآلات المدفعية والمراكب.. وإذا لم تكن الجباية الثقيلة فمن أين يكون ذلك؟». وتوالت الشكايات دون أن تجد لها صدى لدى السلطان، خاصة بعد أن قورنت الإصلاحات الضريبية بين تلك التي نهجها سلفه مولاي عبد العزيز وبين خلفه، حيث كانت يد ابا حماد حاضرة في هذا المجال. وهكذا كان منطلق سوء التفاهم بين مخزن مولاي عبد الحفيظ من جهة، وبين الرعية من جهة أخرى، وعدد من وزرائه المقربين من هذه التصرفات الإدارية المرتبطة بالجباية في المقام الأول. الأزمة التي دفعت إلى التوقيع على عقد الحماية ستبلغ الأزمة ذروتها في العهد الحفيظي مع العصيان القبلي سنة 1911، حيث كثفت القبائل التي ساءت علاقتها بالمخزن من اجتماعاتها، وخاصة القبائل المجاورة لفاسومكناس، ولعل أهم اجتماع هو الذي انعقد في 22 فبراير 1911، بقرية أكوراي، وقد ضم وفودا من بني مطير وجروان وأزمور وبني مجيد وزعير، وقبائل أخرى من الغرب مثل الشراردة وبني حسن وبعض الشرفاء. وقد اتفقت هذه القبائل على مواجهة المخزن، وبعثت وفدا إلى قائد قبيلة زيان وأعيانها لمواجهة التهديدات الفرنسية: «وأهم ما اتفق عليه المجتمعون في ما يتعلق بالمخزن، هو قتل الكلاوي واختطاف السلطان، خلال احتفالات المولد النبوي». ولم يكن تمرد القبائل والزحف نحو فاس وانتفاض القبائل ضد عجز السلطان عن مواجهة الأطماع الاستعمارية حول المغرب، إلا بدايات نهاية العهد الحفيظي، لاسيما بعد أن بلغت تعسفات جيش الاحتلال حد منع الجنرال «ديت» الرباطيين من الدفن في مقبرة لعلو، وتشييد براريك للجند على جثث المدفونين فيها، وكذا منع النساء من التصبين. بل بلغ الأمر حد اقتحام ضباط الاحتلال لحرم السلطان وإحصاء من فيه سواء في مكناس أو في فاس. ولا يخلو مسار السلطان مولاي عبد الحفيظ من دروس مليئة بالعبر. فهذا السلطان الذي بدت أفكاره ثورية وإصلاحية ومناهضة للاستعمار، انتهى به المطاف إلى وضع السلاح والتوقيع على الحماية الفرنسية باتفاق مع باقي الدول الاستعمارية كالسلطة الدولية في طنجة، ثم السلطة الفرنسية في معظم تراب المغرب. وهكذا أقبر ما أعتبر حينئذ أول دستور وحكم ديمقراطي في المغرب. تراجعت فرنسا عن الكثير من المطالب التي كانت موضوع لائحة تقدم بها مولاي عبد الحفيظ، بناء على مفاوضات. لكن الدولة الفرنسية ضمنت للسلطان مولاي عبد الحفيظ بعد مفاوضات طويلة وعسيرة وضعية لائقة بشخصه، حيث وضعت تحت تصرفه 500 ألف فرنك، وهو المقدار المالي الذي اعتبره البعض في حينه بمثابة الشيك الذي دفع لسلطان الجهاد مقابل توقيعه على عقد الحماية، الشيء الذي نفاه المدافعون عنه حينما وضحوا أن المبلغ يدخل ضمن تنفيذ ما اتفق عليه من «إعطاء تسهيلات للسلطان لأداء ما تحمله جنابه بالخصوص من صوائر المحلات السعيدة أثناء الثورة». وفي نفس الآن فوتت له الدولة الفرنسية بعض الأملاك في مراكش كالمامونية، أوغاطيم، وفي فاس عين الشيخ، أي تغات، بالإضافة إلى مجموعة من الشروط التي اشترط على أن تدون في عقد مكتوب، وتضمن مستقبل عائلته وفروعه، بما فيها ضمان معاش مناسب له، وحقه في التنازل عن العرش وتعيين وريث له... «إن الذي يملك القوة يريد في الغالب أن يمارس السلطة من دون أن يقتسمها مع غيره». هذا ما كتبه مولاي عبد الحفيظ في «نفائح الأزهار في أطايب الأشعار» وهو يتنازل عن العرش، في سابقة من نوعها في تاريخ السلاطين العلويين، فقد قال لأحد الصحافيين الذين سألوه بعد التوقيع على وثيقة الحماية عن الأسباب التي جعلته يتخذ هذا القرار: «إنني لم أكن ولن أكون سلطان الحماية، إن الأمر سيكون مخالفا لسيرتي ولحاجتي للحرية والاستقلال. إنني لا أستطيع أن أنسى، وشعبي كذلك يتذكر أنني لم أتول العرش، ولم أبق فيه إلا لكوني قمت في مراكش مدافعا عن بلدي ضد كل تدخل أجنبي. إنني لا أستطيع أن أقبل العمل ضد ضميري، وألتمس بنفسي وضع القيد الذي ثرت ضده في رجلي».