يبحث هذا الكتاب الذي وضعه المؤرخ الفرنسي جون دولومو موضوعا غريبا ومتشعبا، لم تتعود الكتابة التاريخية الاقتراب منه أو حتى التفكير فيه، وهو موضوع الخوف، هذه الغريزة البشرية التي ترافق الإنسان من الميلاد إلى الموت، بل يعد الموت المظهر الاختزالي لها. وقد يكون مفهوما أن يدرس الخوف من الزاوية النفسية/السيكولوجية، أو من الزاوية الدينية/اللاهوتية، لكن أن يدرس من الزاوية التاريخية فهذا يبدو مهمة صعبة. تعرض المؤرخون في مختلف العصور، سواء من العرب أو الأوروبيين أو غيرهم، لبعض الظواهر الاجتماعية أو البيئية باعتبارها واحدا من العوامل المنتجة للخوف والرعب في المجتمعات، مثل الأوبئة والجوائح والطواعين والفتن الاجتماعية أو القلاقل، وقد فعل المؤرخون ذلك داخل التواريخ الرسمية التي تتعرض للحوادث السياسية، كجزء فقط من تلك التواريخ، لكن نادرا ما أولوا اهتماما لظاهرة واحدة بعينها إلا في العصر الحديث، فوجدنا مؤلفات حول الطاعون مثلا أو الكوليرا أو التيفوس (الذي كان المغاربة يسمونه التوفيس)، وهي كلها نوازل اجتماعية وبيئية كانت تنتج ثقافة الخوف، أما أن يكون الخوف نفسه موضوعا تاريخيا فهذه هي المغامرة التي تفرد بها المؤرخ الفرنسي دولومو. الخوف والثورة الفرنسية الخوف ليس مجرد غريزة فقط، بل رمز لفقدان الأمن والأمان في أي مجتمع، سواء عندما تشتعل الفتن والاضطرابات أو عندما تفقد الدولة المركزية سلطتها ويغيب الأمن، مما يجعل المواطن يشعر كأنه ريشة في مهب الرياح ونهبا للمخاوف والهواجس. وقد كان انعدام الأمن، بسبب الاضطرابات وغياب الدولة، خلال الثورة الفرنسية عام 1789 أول مظهر من مظاهر الخوف الذي عم أوروبا، ومن نوع المخاوف التي يسميها المؤلف «المخاوف الكبرى». لقد درس المؤرخون الثورة الفرنسية باعتبارها تحولا نوعيا في فرنسا والعالم القديم، لكنهم لم يتعرضوا لها بوصفها موقفا نوعيا من الخوف، لأن الخوف الذي انتشر في أوروبا بسبب تلك الثورة كان كبيرا وعاما لم يسبق أن حصل في التاريخ الذي قبله إلا في محطات قليلة ومحسوبة، بسبب أعمال النهب والقتل والاغتصاب والسرقة والحرق والتعذيب والجوع. ويتساءل المؤلف عن سر غياب تاريخ للخوف في أوروبا، إذ لا يجد سوى كتاب واحد للمؤرخ جورج لوفيفر تحت عنوان «الخوف الكبير عام 1789» الذي خصصه للثورة الفرنسية وكتبه عام 1932، وفيه يتساءل لوفيفر عما إن كان من المفيد «إعادة قراءة التاريخ انطلاقا من الحاجة إلى الأمان». البحر: الخوف الأول إذا كان الخوف طبيعيا في أي مجتمع غير متطور وغير مسلح بشكل جيد لمواجهة الاعتداءات الخارجية، فقد وجد في أوروبا مع بدايات العصر الحديث. لكن كان هناك دائما مكان واحد يمكن للمؤرخ أن يجد فيه مظاهر الخوف في الحضارات دون مساحيق، وهو البحر. وقد انتشرت في أوروبا العصور القديمة الكثير من الأمثال الشعبية التي تتحدث عن البحر باعتباره شيئا عجبا، مثل «امدح البحر، لكن ابق على الساحل». ويذكرنا المؤلف هنا بتراث الأدب العربي القديم الذي تغنى بالبحر من هذه الزاوية، حيث كان البحر ذا رمزية مزدوجة لأنه يرمز إلى الجود والكرم وفي نفس الوقت إلى الخطر والموت، مثلما في قول امرئ القيس: وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي أو قول أبي الطيب في مدح سيف الدولة الذي نلاحظ فيه الرمزين المتناقضين للبحر: هو البحر غص فيه إن كان ساكنا على الدر واحذره إن كان مزبدا لكن البحر في أوروبا العصور الوسطى لم يكن فقط مجرد مياه طامية تثير الخوف لذاتها، بل كان أيضا مبعثا لمخاوف أخرى لأن هناك بعض الأوبئة «السائلة» التي ارتبطت بالمياه مثل الطاعون، كما أن البحر كان مصدر المخاوف بسبب المراكب التي كانت تأتي إلى أوروبا وعلى متنها الغزاة العرب (السارازينيون) والنورمانديون، وفي زمن لاحق غارات البرابرة. غير أن الأوروبيين استطاعوا الاستئناس بالبحر بعدما ألفوه، وخرجوا من العصور الوسطى وقد أصبحوا أكثر فهما له بفضل عاملين اثنين، الأول يتمثل في القصائد الشعرية التي تركها الأسلاف أو كتبها الخلف حول البحر وعوالمه الغريبة، والثاني يتمثل في شهادات المسافرين الأوروبيين الذين كانوا يتوجهون إلى القدس للحج. أشباح الماضي وأساطيره انتشرت في أوروبا القرون الوسطى ثقافة تقول ببقاء أرواح الموتى حية حتى بعد رحيلهم، وكانت الثقافة الشعبية وحتى الثقافة العالمة لا تفرق بين الحياة والموت فعليا، وترى أن الماضي يبقى مقيما في الحاضر باستمرار. وفي عام 1556 ألف الطبيب الألماني جيورجيوس أغريكولا كتابه الشهير» عن الشيء المعدني»، حيث أكد فيه أن هناك بعض أنواع الأرواح التي تعيش في الأماكن السفلية، وأن بعضها غير عدواني مثل الأقزام وكبار الأحداث الجانحين، بينما بعضها الآخر عدواني وقاتل مثل الأحصنة الحرون التي تقتل العمال. كانت تلك الثقافة تنتمي إلى النزعة الإحيائية، التي تؤمن بعالم الأرواح والقوى الخفية، وكان الجميع في أوروبا آنذاك يتقاسمها، سواء النخبة أو الطبقات الشعبية، حتى أن القس الكاثوليكي فرانسوا رابليه الذي عاش في القرن الرابع عشر كان من معتنقيها، ذلك أن الكنيسة نفسها في تلك المرحلة لم تكن قد نجحت في التمييز الواضح بين الروح والجسد، وقد تطلب ذلك وقتا طويلا حتى أصبح التمييز ممكنا، وكان رجال الدين يعتقدون بأن الانفصال بين الروح والجسد لا يتحقق إلا في مكانين هما الفردوس والجحيم. ومن بين المعتقدات التي كانت منتشرة في أوروبا أيضا وكانت مبعث خوف للناس إمكانية عودة الموتى إلى الحياة من جديد، وهو الاعتقاد الذي كان يطلق عليه اسم «العائدون». وتمثل بريطانيا نموذجا صريحا لانتشار هذا الاعتقاد، إذ كان الناس يؤمنون بأن الأرض تكون في ملك الأحياء بالنهار وفي ملك الأموات بالليل، ومن هنا الخوف من الليل والظلام. ويلاحظ المؤلف أن المجتمعات الأوروبية بقيت تؤمن بهذا الاعتقاد حتى وقت قريب في العصر الحديث، إذ على الرغم من أنها فصلت فصلا تاما بين عالم الأحياء وعالم الأموات فإنها من الناحية العملية ظلت تؤمن بالاتحاد التام بينهما. أدى هذا الاعتقاد إلى إنتاج خرافات وأساطير عدة انتشرت في الثقافة الأوروبية، فحتى بدايات القرن العشرين مثلا كانت هناك عائلة في صقلية تجتمع كل مساء لتردد الصلوات خوفا من عودة أحد أفرادها الذي مات حديثا، فقد كان الناس يفعلون أي شيء للاحتماء ضد هذا الخطر. لكن أكثر الأموات الذين كانوا يثيرون الرعب هم المنتحرون، ولذلك كان الإغريق يقومون بقطع اليد اليمنى للشخص المنتحر قبل دفنه، لتفادي احتمال عودته والاعتداء على الأحياء، فقد كان الخوف من المنتحرين نابعا من الاعتقاد بأن انتحارهم ما هو سوى تعبير عن كراهيتهم للحياة والأحياء. وفي أوروبا كانوا يخرجون الأشخاص المنتحرين نحو المقبرة من النافذة أو من حفرة تحت عتبة الباب، بعد قلب صفحة وجوههم ناحية الأسفل لكي لا يتذكروا البيت ويعودوا إليه، كما أن الكنيسة كانت تعتبر المنتحرين خارجين عن كنف المسيحية، ونفس الأمر بالنسبة للذين يموتون غرقا في البحر في أماكن بعيدة، إذ كان الاعتقاد السائد أن أرواحهم تبقى هائمة وتشكل تهديدا، لأن الكنيسة لم تصل لأجلهم (نشير هنا إلى أنه ليس في المسيحية ما يسمى عند المسلمين صلاة الغائب). خلال القرن السادس عشر كان للشائعات تأثير كبير على الوعي الجماعي والسلوك الفردي في أوروبا، ففي غياب وسائل الإعلام التي ظهرت فيما بعد لم يكن من الممكن للدولة أن تتدخل لكي تخبر المواطنين بالحقائق وترد الشائعات، ولذلك كانت شائعة واحدة تكفي أحيانا لتشعل الحرائق وتحدث الاضطرابات، ولذلك «من المستحيل تمييز الشائعات عن أعمال العصيان».
في انتظار الخلاص سادت في أوروبا مخاوف دورية متوالية إلى منتصف القرن الثامن عشر، مثل الثورات المتصلة التي كانت تقوم بسبب خوف العامة من عناصر الجيش أو بسبب الخوف من الجوع أو من ثقل الضرائب التي تفرضها الدولة. وخلال الفترة المسماة «نصف الألفية» ما بين 1348 و1660 تراكمت المشاكل والمخاوف على أوروبا مثل الطاعون الأسود عام 1348، والانتفاضات الشعبية التي كانت تنتقل من بلد إلى آخر من القرن الرابع عشر إلى السابع عشر، وحرب المائة عام التي دامت 116 سنة في فرنسا، وتقدم الجيش التركي نحو كوسوفو ونيكوبوليس، و«الانشقاق الكبير» داخل المسيحية الكاثوليكية التي انقسمت شطرين، وفساد البابوية الأخلاقي قبل أن يحصل الإصلاح الكاثوليكي، والحروب الدينية. أدت هذه الكوارث المتوالية والأوبئة إلى انتشار فكرة «رعب الألفية» وقرب فناء العالم، فقد بدأ البعض يعتقد بأنه يسمع صوت الرب، والبعض الآخر رأى بأن ما يحصل هو عقاب إلهي سيأتي بعده الدمار بسبب الخطايا، وقال هؤلاء بقرب حلول موعد «الحكم الآخر» أو النهائي، لكي يلقى كل واحد جزاء فعله، غير أن العالم بعد ذلك سيصبح أحسن من ذي قبل وسيزول استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وتنتهي المجاعات والفقر والأوبئة ويأتي «العصر الذهبي»، وهو ما يسمى بعقيدة الخلاص في المسيحية. وانتشر خلال تلك الفترة الاعتقاد في النبوءات، فمثلا عندما قتل الملك سيباستيان في معركة وادي المخازن (معركة القصر الكبير) عام 1578 رفض الإسبان تصديق خبر موته، وقالوا إنه سيعود إلى الحياة من جديد لكي يجلب النصر والحرية لشعبه. التهديد الإسلامي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر سيطر على الغرب الخوف من الغزو التركي، خاصة بعد سقوط مدينة القسطنطينية عام 1453، إذ شكل ذلك «صدمة سيكولوجية» بالنسبة للأوروبيين، وزاد الخوف أكثر بسبب تحول العديد من الأوروبيين إلى الدين الإسلامي، سواء حقيقة أو نفاقا لخوفهم من المسلمين الذين كانوا يأسرونهم، بل الأكثر من ذلك أن بعض الغزوات التي قام بها المسلمون للمناطق الأوروبية كان يشارك فيها هؤلاء النصارى الذين أسلموا، بل أحيانا كانوا هم الذين يقودون جيوش الغزو، مثل البعثة العسكرية المغربية إلى تومبوكتو عام 1591، والتي كان يقودها إسبان مسيحيون تحولوا إلى الإسلام، ذلك أن أرض الإسلام في تلك الفترة كانت تعني الرخاء بالنسبة للأوروبيين، وكان اعتناق الإسلام في بعض الحالات يعني البحث عن آفاق أوسع للعيش والعمل، وفي الجهة المقابلة كانت أوروبا المسيحية أرض الفقر والجوع والظلم، وهناك «لامنتو» ظهرت في فينيسيا (اللامنتو أغنية شعبية مجهولة المصدر) تصور كيف أن المسيحيين كانوا يرحبون بالغزو التركي باعتباره خلاصا من الشرور، يقول فيها أحد الأشخاص: «بما أن الرب لا يريد أن يحكم الظالم (مجلس الشيوخ)العالم، فقد هيأ التركي لنشر العدل والسلطان الكبير(سلطان الأتراك)». اليهودي: الشر المطلق كان المسلم واليهودي في الثقافة المسيحية بأوروبا يعتبران من «أعوان الشيطان»، ورغم أن مارتن لوثر كينغ، الذي كان يعترف بخوفه الشديد من الأتراك، سعى إلى جر اليهود إلى المسيحية، إلا أنه في الأخير سرعان ما انقلب عليهم وأصبح يبدي كراهيته نحوهم. وقد أصبحت كراهية اليهود ذات منطلق ديني، إذ باتت تعتبر جزءا من الثقافة الشعبية العامة المنتشرة في عموم أوروبا. ويذكر المؤلف هنا أن اليهود لم يجدوا الترحيب بهم سوى في إسبانيا، دون أن يشير إلى أن السبب في ذلك هو وجود المسلمين بها، بل يقر فقط بأن المسيحيين واليهود عاشوا متجاورين في تعايش تام، دون أن يتحدث عن المسلمين.