يقيناً أن المشهد الشعري ببلادنا، والمشهد الثقافي بوجه عام، هو ما نفترضه لا ما نراه ونقرأه، لاعتبارات يطول الخوض فيها، منها أن المنشور من الكتب والدواوين ليس سوى جزء من كتلة الجبل الجليدي العائم، فالمسودات المنسية وما تحويه الرفوف والجوارير وما يروج عبر المواقع الإلكترونية، وما أكثره، أضعاف ما يتم تداوله أو سماع أخباره. علما بأن المنشور، ورقيا، لا يوزَّع بدوره إلا بطرق شبه بدائية كالتراسل والإهداءات والمناسبات القليلة المتفرقة. لهذا فإن عناوين كثيرة تمر عبر الجرائد والروابط، كما تمر الإعلانات في الصفحات الاجتماعية، إذ لا أحد يلتفت إليها، لأنها، لعوائق التوزيع وقلة النسخ، قد لا تصل إلى المهتمين (وهم قلة على كل حال). إنه بريدٌ قد لا يَصِل كبريد الكولونيل في رواية «مائة عام من العزلة» لماركيز. بيْد أن هذا لا يُعفي الذمة من تقصيرٍ شنيع في متابعة النزر اليسير من فيضِِ بات يغذي كوكبنا الشعري الحزين، لعل من بين أسبابه (أي التقصير) أن أسئلة الشعراء صارت أعمق من أسئلة النقاد، وأن نقادنا (إن وُجٍدوا) ضيّعوا البوصلة (أو كادوا) بعدما صارت البلاغة القديمة وموازين الخليل وعواميد ابن قتيبة ثقافة لا تستجيب لشعرية جديدة في الرؤى والإبدالات. والواقع أن «نقد الشعر» لا يقل صعوبة عن قوله وكتابته. ولربما من ثمة جاء التهيّبُ، لديّ على الأقل، من الحديث عن الشعر. بصراحة لأنني لا أفهم فيه كثيرا، أو على الأصح لأن كثيرا منه لا أفهمه، لتستقيم العبارة. وهو ما لايريد أصدقائي الشعراء وصديقاتي الشواعر تفهّمه، أو لا يودون هضمه كما يهضمون أشياء أخرى عديدة بصدر ضيق. هذا عدا كوني أقحَمُ، بنظرهم، في خانة «النقدة»، ظلما ورغم أنفي. ولئن رغبتُ في سرد عناوين الدواوين التي ما زالت تتوسل قراءاتي (أقصد كتاباتي عنها) فإنني لا أفلح في إحصائها. أغلبها ممهور بإهداء شخصي ثمين، وأنا الجاحد للنعمة وملح الكلمات. والحق أنني أقرأ الديوان، مستمتعا، وأعيده إلى الرف بانتظار فتح ٍ من الله ورضوان، مع غير قليل من الحرج. لن أذكر هناك دواوين تقادمت تواريخُ طبعها بعامين أو أكثر، وإنما تصيبني بعقدة الذنب تلك التي ماتزال طرية طازجة كديوان حسن برما «صباح الورد والاعتراف» عن فلسطين، وديوان إسماعيل هموني عن النخيل الذي لا يشيخ «نخيل بابل»، وديوان عبد الحميد الغرباوي «عزف منفرد على إيقاع البتر» الذي يجرب فيه القصيدة الجامعة بين فنون قولية عديدة، وديوان مليكة معطاوي العربي «أسرار الظل الأخير» عن البوح وما إليه، وديوان رشيدة بوزفور «ينام الليل في عينيك» عن أسرار الهوى المسيّج بالحصار، وديوان رشيدة فقري «ليلة الكرز» عن لوعة الفقد والاغتراب، وديوان حياة نخلي «ترانيم الروح» عن الكينونة والقيم، وديوان بوشعيب عطران «رعشات في رصيف الانتظار» في العلاقة الملتبسة بين الكائن والعالم....وسواها. وهي بتقديري كلها، خليلية وتفعيلية ونثرية، وعلى تباين توسلاتها الجمالية، دواوين تطفح بشعرية مرهفة وتحمل همّا متيقظا ورغبة في تواصل خلاق بين الشاعر وقرائه..فمن يقرأ؟!. كاتب