وأنا أعيد قراءة رسائل ماريو بارغاس يوسا إلى ذلك الروائي الشاب، بمُتعة مُتجددة نَغنمُها دائما من قراءة الكُتاب الكبار، أثارتني استعارة أدبية يمكن أن أنعتها ب«دودة التخسيس». يَروي الكاتب البيروفي أن بعض نساء القرن التاسع عشر، مذعورات من داء البدانة، كُنَّ يلتجئن إلى ابتلاع دودة حية، كانت تلتحم بأحشائهن، وتظل هناك تلتهم كل النسوغ، حتى يقوى عودُها ويشتدُّ على حساب عود أولئك النِّسوة، شهيدات الرشاقة، اللواتي جعلنَ مِنْ اختيار الجمال النحيفِ قرينَ تجربةٍ في الهلاك المحدق. يجد الروائي البيروفي هذه الاستعارة الأدبية المُرعِبة، حقيقةً، ملائمة تماما لِوصف الميل الأدبي عند الكاتب الشاب. فخارج مقولتي الموهبة والإلهام الرومانسيتين، اللتين لايمكن الاطمئنان إليهما كثيرا، أجد، مع ماريو بارغاس يوسا، أن الكاتب لا يعمل في كل حركاته وسكناته سوى على تغذية هذه الدودة الحية التي يحملها بداخله، والتي تزداد شراهتها كُلَّما ترسَّخ أكثر الميلُ الأدبي لديه. الكاتب يكبر والدودة تسمن، فتصبح أكثر تطلبا، بحيث لا تكف، ليل نهار، عن التهام تلك النسوغ التي تتحصل من قراءة الكتب ومشاهدة الأفلام والإنصات للموسيقى وزيارة المتاحف وأروقة الفن ومناقشة أفكار الثقافة والسياسة مع الأصدقاء الأنداد القلائل، الذين يحملون في جوفهم دودة مشابهة، قد لا تقل دموية عن تلك التي تعيش في جوفنا. والواقع أن هذه الدودة التي تتغذى على دمائنا الشخصية حدَّ الاستنزاف هي التي بإمكانها أن تُسعفنا، مع الوقت، بعمل أدبي يدوم ويبقى، بعد أن تكون الدودةُ قد أتتْ على آخر خلية بأجسادنا النحيفة. إنها لا تُكافئنا بعملٍ أدبي يصلح أن يكون شجرة نسبٍ لنا، إلا بعد أن تُحولنا إلى عبيد لأهوائها وملذاتها النهارية والليلية التي لا تكاد تنتهي، والتي تُقصي ما عداها، على نحو يجعل من الكاتب يتحرر من كل إرغام اجتماعي أو سياسي، يمكن أن يقتطع من وقته وأعصابه ما لا تَسمح به الدودة المستبدة. وبالرغم مِن كُلِّ الأخطار المُحدقة بنا، بسبب النزعة الدموية لدودة التخسيس هذه، فبإمكاننا أن نَجد لها بعض الحسنات. فهي بنشاطها الدؤوب تَحمي جسمنا الثقافي من الترهل، فتشفط الدهون التي تمنعنا من الحركة، كما تُحفز خيالنا الأدبي وتجعله متوثبا، خلاقا، قادرا على النط مِن النوافذ، ليتسنى له القفز على شروط الواقع ومباغتة الحياة، في لحظات غفوتها أو استيقاظتها السرية، خارج دوغمائية العقل واستبداية أعراف الجماعة. إنها أيضا، تلك الدودة العنيدة، التي تقتات على ما نملك من خيط الدقائق والساعات في كُبَّة العمر. وهي مِن فرط نَهَمها لا تترك للانشغالات العامة، المحفَّزة بطموح سِياسي مُقنَّع، أي وقتٍ يهدره الكاتب في ردهات الثرثرة بهذا المؤتمر «الثقافي» أو ذاك، سَعيا وراء غنائم شخصية صغيرة، كثيرا ما تكشف الأيام أنها لم تكن سوى أوهام، أُريدَ لها أن تَشغلنا عن الأساسي: تغذية حيواننا الضاري بطُعوم المعرفة والفن، من أجل الاستمرار في الحياة (الحياة من أجل الأدب وليس شيئا آخر). كثيرٌ من الكُتاب عندنا لا يعملون لحساب هذه الدودة. وهم إما ابتلعوا دودة ميتة، مند البداية، لذلك لم يجدوا بداخلهم تلك الحاجة الغريزية إلى طعام الفن والأساطير والنظريات والتخييلات، وإما ابتلعوا دودة حية، لكنهم قتلوها بالإهمال وعدم القدرة على تأمين مؤونتها من المعرفة الخلاقة، وإما لم يجرؤوا على ابتلاع أية دودة، لا حية ولا ميتة، ولذلك لم يُحرِّكهم في ساحة الأدب، إلا ما يُقسَم في ساحة الليل، مِن ولائم، يظهر مَعَها كلُّ واحد من الخَلق «الأدبي» المتكاثر بيننا، مُتأبطا نصيبَه من اللحم المَيِّت، في غابة لا تُفضي، يُراقبه قمر مُريع!