نقطتان رئيسيتان وردتا في خطاب أوباما التاريخي الذي ألقاه بمناسبة فوزه بولاية ثانية في انتخابات الرئاسة، وتتعلقان بمنطقتنا العربية، ويمكن أن تسلطا الأضواء، بطريقة أو بأخرى، على خطواته المقبلة: - الأولى: تأكيده أن عقد الحروب الأمريكية الخارجية قد انتهى، في إشارة إلى غزو العراق وتغيير النظام فيه، إلى جانب النظامين الأفغاني والليبي بالقوة العسكرية؛ - الثانية: إشارته الواضحة إلى عزمه على تقليص الاعتماد على نفط الشرق الأوسط، عندما قال «علينا أن نحرر أنفسنا من النفط الخارجي المستورد». أوباما لم يتطرق مطلقا، في الخطاب الذي استمر 25 دقيقة وكان في قمة البلاغة، إلى المنطقة العربية وأزماتها، بما في ذلك ملف السلام العربي-الإسرائيلي، أو طموحات إيران النووية وكيفية التعاطي معها سلما أو حربا. ولكن هذا لا يعني أن تجاهله هذا سيستمر لفترة طويلة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأزمة السورية المتفاقمة. من الطبيعي أن تختلف الآراء حول فوز أوباما وهزيمة المرشح الجمهوري ميت رومني، فهناك من شعر بالارتياح بسبب نجاح الأول وسقوط الثاني، وهناك من كان يتمنى أن يحدث العكس، كل حسب موقفه السياسي ومصالحه. المملكة العربية السعودية ومعظم الدول الخليجية كانت تفضل فوز رومني الجمهوري، الذي يشكل نسخة أخرى للرئيس السابق جورج دبليو بوش الذي احتل العراق، وأطاح بحكم الرئيس العراقي صدام حسين، وأعلن حربا على الإرهاب؛ فالسناتور رومني كان يقرع طبول الحرب ضد إيران، وينتقد خصمه أوباما لأنه لم يتدخل عسكريا لإطاحة نظام الرئيس بشار الأسد في سورية، ولذلك فإن هزيمته أحدثت خيبة أمل كبرى في عواصم هذه الدول. من المفارقة أن بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، يعاني من خيبة الأمل نفسها، لأنه وضع كل بيضه في سلة رومني ودخل في مواجهة شرسة مع أوباما حول الملف الإيراني، لكن الأخير تجنب الصدام وفضل كظم الغيظ، ولهذا أصدر نتنياهو تعليمات صارمة إلى وزرائه بعدم التعليق على نتائج الانتخابات الأمريكية. أوباما قدّم إلى إسرائيل من المساعدات العسكرية ما لم يقدمه أي زعيم أمريكي آخر، وأذعن لكل تحديات نتنياهو، وابتلع إهاناته الواحدة تلو الأخرى، على مدى السنوات الأربع الماضية، ابتداء من تصعيد وتيرة الاستيطان في الأراضي المحتلة، وانتهاء بالتلويح بتوجيه ضربة أحادية لتدمير المنشآت النووية الإيرانية لابتزاز الإدارة الأمريكية للحصول على امتيازات ومساعدات أكبر. من المفترض أن يكون أوباما تحرر كليا من ضغوط الإذعان للوبي اليهودي الداعم لنتنياهو، ولم يعد هناك ما يمكن أن يخسره إذا ما حاول التعاطي مع الحكومة الإسرائيلية بطريقة مختلفة، ولكن تظل حرية حركته مقيدة بسبب سيطرة نتنياهو على الكونغرس الذي يشكل الجمهوريون الأغلبية فيه بمجلسيه، الشيوخ والنواب. أمام أوباما الفائز أربعة ملفات ساخنة لا بدّ من التعاطي معها دون أي إبطاء أو تأخير: - الأول: الملف السوري، فهل سيتدخل عسكريا أم يلجأ إلى أسلوب «القيادة من الخلف»، أي يترك هذه المهمة لدول إقليمية، مثل تركيا والأردن، على غرار ما فعل في ليبيا؟ هناك من يجادل بأن أوباما قد يفضل تسليح المعارضة السورية بأسلحة حديثة متطورة، سواء بشكل مباشر أو عبر دول خليجية، ولكن بعد ضمان عدم وصولها إلى الجماعات الجهادية التي يريد القضاء عليها، ومن غير المستغرب أن يلجأ إلى تشكيل «قوات صحوات» سورية على غرار نظيرتها العراقية؛ - الثاني: الملف الإيراني، ومن الواضح من خلال خطابه يوم الأربعاء أنه يفضل سياسة الاحتواء والحصار الاقتصادي على التدخل عسكريا، اللهم إذا كان عقد صفقة مع نتنياهو تنصّ على تأخير العمل العسكري إلى فترة ما بعد الانتخابات، وإلى مطلع الربيع المقبل. أوباما يعتقد أن العمل العسكري يجب أن يكون الملاذ الأخير، لكن الحرب خدعة، والحشود الأمريكية والبريطانية الضخمة في منطقة الخليج العربي (أربع حاملات طائرات ومئات السفن والزوارق الحربية) توحي بأن العمل العسكري غير مستبعد؛ - الثالث: عملية السلام في الشرق الأوسط وإنقاذ حل الدولتين الذي يعيش حاليا سكرات الموت، إن لم يكن قد نفق فعلا، ولكن لا توجد أي ضغوط عربية أو فلسطينية عليه للعودة إلى هذا الملف، فالسلطة في حال شلل وتعاني من «إفلاسين» سياسي ومالي في آن، ورئيسها بات معروفا بالتراجع في معظم الأحيان عن تهديداته ومواقفه، حتى لم يعد يصدقه إلا عدد قليل من المجموعة المحيطة به؛ - الرابع: كيفية التعاطي مع جماعات الإسلام السياسي، سواء المعتدلة التي تولت السلطة عبر صناديق الاقتراع في مصر وتونس خاصة، أو المتشددة مثل تنظيم «القاعدة» والمنظمات المنبثقة عنه التي تعزز وجودها بقوة في كل من ليبيا وسورية واليمن ومنطقة الساحل الإفريقي ومالي على وجه الخصوص. السؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بما إذا كان أوباما يريد فتح جبهة ضد «القاعدة» في ليبيا والساحل الافريقي، يستخدم فيها طائرات بدون طيار (درونز) ويوكل مهمة الغزو البري إلى دول المنطقة، مثل الجزائر ونيجيريا وتشاد وموريتانيا. خطأ أمريكا الأكبر، والمتكرر، أن تدخلها العسكري ينجح في علاج المرض الأساسي (تغيير الأنظمة) ولكنه يخلق أعراضا جانبية أكثر خطورة منه، وهذا ينطبق حاليا على ليبيا، ومن قبلها أفغانستان والعراق. الولاية الثانية لأوباما قد تكون أصعب كثيرا من ولايته الأولى، لأنها ستكون مليئة بحقول الألغام، خاصة أن امريكا لم تعد القوة العظمى الوحيدة في العالم بعد ظهور العملاق الصيني، وعودة العافية إلى المارد الروسي، ومنافسة النمور الهندية والبرازيلية والجنوب إفريقية. نتائج الانتخابات أثبتت أن أمريكا تغيرت وباتت الأقل بياضا والأكثر سمارا، وهذا سينعكس حتما على سياساتها الداخلية والخارجية، وهذا ما يفسر فوز أوباما القادم من القاع والمنحاز إلى الفقراء والمسحوقين والشباب، وهزيمة رومني المليونير (500 مليون دولار) الذي كان يتنقل بطائرة خاصة ولا يفكر إلا بمصالح الأثرياء. السؤال هو عما إذا كان العرب يستوعبون هذه التغييرات والمتغيرات المترتبة عنها؟ لا نعتقد ذلك، فقد كانوا وسيظلون كمّا مهملا، وسوقا للسلاح، وقواعد عسكرية لحروب أمريكا.