احتمال قيام حرب في المنطقة كبير، واحتمال خسران الولاياتالمتحدة وإسرائيل فيها كبير إن شاء الله، هذا تقديري، وهاكم ما بنيته عليه: إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومؤسساته الأمنية والعسكرية يدركون أن إيران، وإن كانت لا تسعى إلى تملُّك قنبلة نووية مركبة على صاروخ وجاهزة للإطلاق بضغطة على زر، فإنها تسعى إلى تملك القدرة على تركيب قنبلة كهذه في أيام أو ساعات قليلة، وهم يدركون أن قدراتها هذه تتزايد مع الوقت وأن العقوبات الدولية عليها لن تجدي نفعا. ونتنياهو يعتبر أن امتلاك إيران لهذه القدرات يشكل تهديدا وجوديا لدولة إسرائيل. إن رئيس الوزراء يعلم بأن القنابل النووية لا تصنع لتستخدم، بل تصنع للردع؛ فوجود قدرة نووية لدى دولة ما، يمنع الدول الأخرى من التفكير في استخدام السلاح غير التقليدي، النووي أو الكيماوي أو البيولوجي ضدها، بل ربما يمنع الدول الأخرى من خوض حرب مباشرة ضدها أصلا، لأن أحدا لا يستطيع أن يسيطر على تطورات الحرب وما يمكن أن تؤول إليه من صراع بالسلاح غير التقليدي يجر الدمار الحتمي على طرفيها. بمعنى آخر، إن امتلاك إيران لمكونات السلاح النووي، حتى دون تركيب هذه المكونات، يمنع إسرائيل من استخدام أي سلاح غير تقليدي ضد إيران في المستقبل، بل ويمنعها حتى من التهديد باستخدامه. وحصر الصراع بين إسرائيل وأية دولة أخرى في السلاح التقليدي، أي في الدبابات والطائرات والسفن، يسمح لخصوم إسرائيل بأن يستفيدوا من مميزاتهم الاستراتيجية: كثرة العدد وامتداد الأرض ووفرة الموارد وصلابة الإرادة الشعبية في المقاومة. ونتنياهو يعلم بأن دولته تعاني من الضعف في كل هذه العناصر، فهي لا تقدر على الحروب الطويلة لقلة عدد سكانها، فجيش إسرائيل الدائم يتكون من مائتي ألف جندي، وعند استدعاء قوات الاحتياط يزيد عدده إلى ستمائة ألف جندي، أي عشرة في المائة من سكان إسرائيل اليهود، وهو ما يعادل ثمانية ملايين نسمة لو أن مصر مثلا حشدت نفس النسبة. وغنيّ عن الذكر أن هذه العشرة في المائة كفيلة بشلّ الحياة الاقتصادية في البلاد إذا طال انشغالها بالقتال. وإسرائيل لا تملك عمقا جغرافيا يسمح لها بالمناورة في الحرب، وقد كان ديفيد بنغوريون يقول إن العرب يمكن أن يُهزموا في ألف معركة ثم يكسبوا الحرب في النهاية، أما إسرائيل فإن هزيمتها الأولى ستكون الأخيرة. وأخيرا، فإن الجبهة الداخلية الإسرائيلية لا تخلو من هشاشة، فثراء المجتمع الإسرائيلي يجعل الهرب ممكنا، لأن الخوف يكلف مالا، يكلف تذكرة سفر وإقامة في فندق أو سيارة تنقل الهاربين من مدينة إلى أخرى. ولذلك ترى أن إسرائيل تقصف غزة أو جنين فيزداد أهلهما إصرارا على القتال لأنه لا مناص لهم منه، أما إذا سقط صاروخ على أرض خالية على أطراف حيفا أو عسقلان فإن ثلثي سكان المدينة من الإسرائيليين يغادرونها أو يبيتون في الملاجئ. باختصار، فإن نتنياهو يعلم بأن امتلاك إيران للقدرة النووية يجرد إسرائيل من ميزاتها العسكرية، ولهذا يشكل تهديدا حقيقيا لوجود إسرائيل. إلا أن هذا وحده غير كاف لتشن إسرائيل حربا على إيران، بل إن هناك سببا أكبر، وهو موقف الولاياتالمتحدة. إن الولاياتالمتحدة -التي تعاني أزمة مالية كبرى بسبب هزيمتيها في أفغانستان والعراق، والمقبلة على انتخابات رئاسية- ليست متحمسة للدخول في حرب مع إيران، والرئيس الأمريكي باراك أوباما، بعين على صندوق المال وعين على صندوق الانتخابات، يميل إلى سياسة الاحتواء لا المواجهة، وهو يحاول إضعاف إيران بإضعاف حلفائها، وبالعقوبات والحصار بدلا من الغارة والغزو. ونتنياهو يعلم بأن فرص أوباما في الفوز بفترة رئاسة ثانية كبير، وأنه إذا فاز فسيكون على نتنتياهو أن ينتظر سنة أو سنتين على الأقل قبل محاولة إقناعه بفكرة الحرب مرة أخرى، وهذا هو الوقت الكافي، في نظر تل أبيب، لكي تطور إيران قدراتها النووية. وعليه، فإنني لا أستبعد أن يفكر نتنياهو في شن حرب عاجلة على إيران ليضع أوباما في مأزق، فهو إن تورط في الحرب مساندا إسرائيل سينهك الاقتصاد الأمريكي أكثر، وإن لم يتورط في الحرب ظهر بمظهر المتخلى عن حلفائه، وكلا الأمرين يقلل من فرص فوزه في الانتخابات ويزيد من فرص منافسيه الجمهوريين. وهنا يجدر بنا أن نتذكر أن اليمين الإسرائيلي المتمثل في حزب نتنياهو، حزب الليكود، متحالف تاريخيا مع اليمين الأمريكي المتمثل في الحزب الجمهوري، ولذلك فمن مصلحة المحافظين الأمريكيين والإسرائيليين أن تدخل إسرائيل الحرب، ليتورط فيها أوباما وحزبه الديمقراطي ويتحملوا تبعاتها الاقتصادية والانتخابية، فتحظى إسرائيل بحليف ويحظى الجمهوريون بالسلطة. والأوضاع في المنطقة أيضا لا تبشر نتنياهو بالخير، فهو يعلم بأن المجلس العسكري في مصر لن يستطيع أن يفرض على أهلها بعد اليوم حلفا مع أمريكا وإسرائيل كما كان مبارك يفعل، وأن تزوير الانتخابات الرئاسية للإتيان بمبارك آخر سيشعل البلاد بمظاهرات لن تبقي ولن تذر، بل إن أصدقاء أمريكا القدامى في المؤسسات الأمنية والعسكرية المصرية رأوا كيف تخلت أمريكا عن أخلص حلفائها مبارك، وقليل منهم مستعد لتعريض رقبته للخطر ثقة بصداقة أمريكا. وعليه، فإن نتنياهو يعلم بأن الشعب المصري أقوى من حكامه، وأنه مهما بدا الوضع السياسي في مصر اليوم مرتبكا، فإن هذا الشعب يهدد إسرائيل مع كل طلعة شمس وكل نقشة على حائط وكل منشور يوزع أو هتاف يرفع. أما في سوريا، فقد علم نتنياهو بأن السيناريو العراقي لن يتكرر، فالأمريكيون غير متحمسين للغزو، ولا الأتراك، والسعوديون يحضرون لحرب استنزاف طويلة على الأراضي السورية لا يستطيعون حسمها لصالحهم في معركة فاصلة؛ ومهما يكن من أمر، فإن احتمال قيام سلطة في دمشق تكون صديقة لإسرائيل وعدوة لإيران لا يبدو وشيكا أو هو لا يبدو وشيكا بما يكفي لعرقلة المشروع النووي الإيراني. ولا يراهن نتنياهو كذلك على أن تأتي الانتخابات الإيرانية بإصلاحيين يهادنون الولاياتالمتحدة، لأن السلطة في إيران لم تعد تتداول بين المحافظين والإصلاحيين، بل بين المرشد والرئيس، بين خامنئي ونجاد، أي بين محافظ ومحافظ، كلاهما مصر على استكمال البرنامج النووي. لهذا كله، أظن أن نتنياهو يرى الحرب الآن خيرا له من الحرب غدا، لأن غدا سيكون في صالحنا لا صالحه. وأنا أقول إن إسرائيل إذا حاربت، اليوم أو غدا، ستخسر. أولا، لأن المشروع النووي الإيراني مشروع سياسي، لا يمكن وقفه إلا بتغيير النظام، فتدمير منشأة هنا أو هناك يمكن تعويضه إذا توفرت الإرادة السياسية لذلك. ولا يمكن تغيير النظام السياسي من الجو، والعراق وأفغانستان وليبيا خير دليل، إذ كان لا بد للأمريكيين أن ينزلوا إلى الأرض، أو أن يكون لهم حلفاء على الأرض ليغيروا النظام؛ ثانيا، لأن الحرب على إيران ستؤدي إلى زيادة جنونية فى أسعار البترول، خاصة إذا أغلق مضيق هرمز واشتعل الخليج كله، وهذا سيضر إسرائيل وأمريكا ودول الخليج أكثر من إيران، لأن طهران تستطيع تصدير بترولها إلى حلفائها الكبار إلى الشرق والشمال دون أن تحتاج الخليج في شيء، أما الكويت والبحرين وقطر والإمارات فلا منفذ لهم إلا من هرمز؛ ثالثا، إن الحرب إذا بدأتها إسرائيل فسيتعذر على العرب الاشتراك فيها حتى وإن اشتركت فيها القوات الأمريكية، وسيعرض هذا القواعد الأمريكية في الخليج إلى رد فعل إيراني فوري دون أن يستتبع ذلك بالضرورة مشاركة عربية في الحرب؛ رابعا، إن الهجوم على إيران يزيد من احتمال اشتعال الجبهة اللبنانية واشتعال جبهة غزة معا، مما سيفرض على إسرائيل تكرار حربي ألفين وستة وألفين وثمانية، وكلنا يعلم كيف أنهما انتهتا بفشل إسرائيلي واضح، واحتمال توسع الاشتباك اللبناني الإسرائيلي إلى الأراضي السورية وارد. والأهم من ذلك أن اشتعال حرب الجنوبين تلك، جنوب لبنان وجنوبفلسطين، ستبقي عددا كبيرا من القوات الإسرائيلية منشغلة عن الجبهة الكبرى مع إيران مرابطة في الجليل والجولان والنقب واللد وعسقلان؛ خامسا، إن حربا كهذه ستقوي النظامين الإيراني والسوري وستظهر معارضيهما بمظهر المتعاونين مع العدو، كما ستحسم موقف العراق الذي إما أن تنتهي علاقته بالولاياتالمتحدة فورا أو يعود إلى الحرب الأهلية، وهي أيضا ستحسم موقف مصر، فإن بقي حكامها على حلفهم مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل بينما إيران والعراق ولبنان وفلسطين، وربما سوريا، في حالة حرب فإنهم سيواجهون من الشارع المصري يوما عصيبا، وإن تغير موقفهم أو تغيروا هم وأبدل الله منهم سواهم فإن إسرائيل ستكون في وضع لا تحسد عليه إطلاقا. أقول، إن المنطقة كلها، بخيرها وشرها، ستجد في حرب إسرائيلية على إيران متنفسا لطاقات الغضب الكامنة فيها، ونتنياهو محق حين يرى أن مستقبل إسرائيل قاتم، ولكنه مخطئ حين لا يرى أن هذا المستقبل قد أصبح حاضرا فعلا، والله يفعل ما يشاء.