حين تتحول المدينة إلى مسبح كبير في يوم واحد من المطر، ويتحول ما كان يجب أن يكون فرحة الغيث الأول إلى بهجة مسمومة نتفرج فيها على أنفسنا ونحن نغطس أرجلنا في برك المياه والأوحال، ونرى الحفر تتعرى بدون خجل على الطرقات، ونتفرج كذلك على المذيعة المبتسمة تنقل إلينا خبر غرق شاحنة في وادٍ، سنقتنع حتما بأنه سيكون هناك دائما من ينغص على المغاربة فرحتهم بالمطر. لكن، ونحن نرى كل هذه المشاهد المحزنة التي نفتتح بها فصل الشتاء الذي يحل قريبا، هل يمكن أن نتخيل -نحن سكان المدن- الطقوس التي يستقبله بها المغاربة الذين يعيشون في قرى قد يصل علوها إلى أكثر من ثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر؟ هناك، الشتاءُ فصلٌ مختلف كثيرا، له تعقيدات لا تقارن مع ما نعيشه في المدن أو في قرى السهول.. تلك الأعالي التي لا يعرف عنها بعض المسؤولين شيئا، لأن حياتهم في المدن توهمهم بأن كل شيء على ما يرام في كل مكان. في الجبال، الشتاء لا يعني سوى أوقات عصيبة، آتية.. تبدأ بترميم الشقوق على أسقف وأسوار منازل الطين، وإصلاح العيوب التي تركها فصل البرد المنصرم. تلك المناطق التي من المخجل أن تجد أن الكثير من المغاربة، الذين يذهبون كل سنة في عطل خارج البلاد، لم يسمعوا عنها شيئا بالرغم من أنهم يتوفرون على كل الإمكانيات التي تتيح لهم زيارتها؛ وإذا حدث وأريت أحدهم صورة لتلك المناطق فإنه لا يجد حرجا في أن يسألك «هل هذه الأماكن الرائعة توجد في المغرب؟»، في حين قد تشعر بالخجل العميق حين تسمع أجنبيا يصف الطريق إليها مثلما يصف الطريق إلى بيته. فصل الشتاء في تلك الأماكن ليس عاديا، مثلما لا يمكن للحياة في مناطق وقرى يصل علوها حتى ثلاثة آلاف وخمسمائة أن تكون عادية، خصوصا في جبال الأطلس الكبير التي أعرف جيدا جزءا لا باس به منها؛ هناك لا فرق بين أن يكون فصل الشتاء ممطرا أو جافا، فهو في كلتا الحالتين فصل مخيف، تصبح الحياة خلاله صعبة جدا مع المسالك الرديئة الملتوية وغير الممهدة.. طرق خطتها البغال بحدسها الطبيعي، ومع ذلك لا يمكن الاستغناء عنها، ومع حلول موسم الثلوج قد تنقطع كليا، حينها لا يمكن لأحد أن يخمن كيف تصل إلى السكان مواد مثل الشاي والزيت والسكر وغيرها من المواد التي نراها اليوم تملأ كل ركن في متاجرنا. وربما بسبب تلك الطرق تصبح نادرة أحيانا، وغالية الثمن، خصوصا قنينات غاز البوتان. أما التدفئة فهي همّ ثقيل، لأنها في تلك القرى المعلقة بين السماء والأرض ليست ترفا، إنها تقف على قدم المساواة مع الأكل والشرب، وبدونها قد يهلك الناس، خصوصا حين يحل ذلك البرد القارس الذي قد يبكي المرء من فرط قسوته، برد لا تحمي منه بطانية ولا لباس ثقيل، فبدون التدفئة لن يقوى المرء حتى على إخراج يده من الغطاء، وإذا حدث وفعل فإنه يندم، لأن البرد يتسلل حتى آخر عظم في جسده ويسكنه طوال الليل. هناك، في تلك الأعالي، يجب أن يتسلح المرء بقدر عظيم من الصبر وحسن التأمل لكي ينصت لحكايات تشبه «مذكرات من نجا»، النجاة من فيضان نهر أو من موجة برد أو من سيل غامر يداهم على حين غفلة فيجرف كل ما يجده في طريقه.. شاحنة، سيارة، كوخا، شجرة، بهيمة شاردة،.. في الحقيقة، الجبل شكل آخر من الحياة، حكاية لا يتقن سردها سوى الذين خبروا العيش فيه. لن أكون مبالغة إذا قلت إنه في تلك الأعالي يوجد أكثر من سبب للشعور بالسعادة.. تلك السعادة التي لن تفقه أبدا من أين تتسرب، ربما من متعة التفرج على العالم من فوق، أو من أنك تلتقط خيوط الشمس قبل الجميع. أما الذين وصفت لهم تلك الأماكن ولا زالوا لا يصدقون، فأقول لهم: اذهبوا فقط إلى هناك وسترون أن الجمال ليس حكاية من نسج الخيال، هناك يمكن للمرء لأول مرة في حياته أن يتجرأ ويتخيل شكل الجنة. لكن لا تنسوا أن تحملوا معكم السكر والزيت والشاي والأغطية لكم ولأهلنا هناك، الجالية المغربية حارسة الأعالي.