في الذكرى الخمسينية لاغتيال عمر بنجلون..    كأس العرب 2025.. موقع الاتحاد الدولي لكرة القدم يشيد بتتويج المغرب باللقب    المندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان تنظم ورشة تحسيسية للصحفيين بالشمال حول تغطية التظاهرات الرياضية الكبرى واحترام حقوق الإنسان    ندالا يقود لقاء المغرب وجزر القمر    التشكيك في الحصيلة الرسمية لفيضانات آسفي يضع شابا في قبضة الأمن    تنظيم الدورة السابعة عشر من المهرجان الوطني لفيلم الهواة بسطات    بلمو يحيي امسيتين شعريتين بسلا    المغرب بطل العرب اليوم وبطل العالم غدا إن شاء الله    افتتاح «كان» المغرب... عرض فني باهر يزاوج بين الهوية المغربية والروح الإفريقية    حموشي يقرر ترقية شرطي مُتوفٍ    توقيف هولندي بميناء طنجة المدينة بموجب مذكرة بحث دولية    مجلس الحكومة يتدارس الدعم الاجتماعي ومشاريع مراسيم جديدة الثلاثاء المقبل    نقابات عمالية مغربية تنتقد الحد الأدنى للأجر في خضم الغلاء والتضخم    8 ملايين دولار القيمة الإجمالية لمشاريع وكالة بيت مال القدس الشريف برسم سنة 2025    حملة شتاء بمدينة شفشاون تواصل احتضان الأشخاص في وضعية الشارع لمواجهة موجة البرد    جلالة الملك يهنئ أبطال العرب ويشيد بالجماهير المغربية    تساقطات ثلجية وأمطار قوية أحيانا رعدية وطقس بارد من اليوم الجمعة إلى الاثنين المقبل بعدد من مناطق المملكة (نشرة إنذارية)    أخبار الساحة    المغرب يقترب من استكمال استيراد 280 ألف رأس من الأبقار مع نهاية 2025    دعوى أمام القضاء الإداري لحث أخنوش على إعلان آسفي "مدينة منكوبة" وتفعيل "صندوق الكوارث"    تكريم الوفد الأمني المغربي في قطر    أكديطال تستحوذ على مستشفى بمكة    إنفانتينو يهنئ المغرب بلقب كأس العرب    إحباط محاولة تهريب كمية مهمة من "المعسل" ومكملات غذائية بميناء طنجة المتوسط    رئاسة النيابة العامة تؤكد إلزامية إخضاع الأشخاص الموقوفين لفحص طبي تعزيزا للحقوق والحريات    بعد جدل منصة التتويج.. لاعب المنتخب الأردني سليم عبيد يعتذر لطارق السكتيوي    في أداء مالي غير مسبوق.. المحافظة العقارية تضخ 7.5 مليارات درهم لفائدة خزينة الدولة        تقلبات جوية وأجواء باردة تهم عدة جهات    وجدة .. انخفاض الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك    لحسن السعدي يترأس اجتماع مجلس إدارة مكتب تنمية التعاون    توقيف الأستاذة نزهة مجدي بمدينة أولاد تايمة لتنفيذ حكم حبسي مرتبط باحتجاجات "الأساتذة المتعاقدين"    الكاف يعلن عن شراكات بث أوروبية قياسية لكأس أمم إفريقيا    أسماء لمنور تضيء نهائي كأس العرب بأداء النشيد الوطني المغربي    العاصمة الألمانية تسجل أول إصابة بجدري القردة    كالحوت لا يجتمعون إلا في طاجين !    البورصة تبدأ التداولات على وقع الأخضر    الشرطة الأمريكية تعثر على جثة المشتبه به في تنفيذ عملية إطلاق النار بجامعة براون    "الصحة العالمية": أكثر من ألف مريض توفوا وهم ينتظرون إجلاءهم من غزة منذ منتصف 2024    زلزال بقوة 5.7 درجات يضرب أفغانستان    تقرير: المغرب من أكثر الدول المستفيدة من برنامج المعدات العسكرية الأمريكية الفائضة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    حمداوي: انخراط الدولة المغربية في مسار التطبيع يسير ضد "التاريخ" و"منطق الأشياء"    انخفاض الذهب والفضة بعد بيانات التضخم في الولايات المتحدة    هياكل علمية جديدة بأكاديمية المملكة    استمرار تراجع أسعار النفط للأسبوع الثاني على التوالي    البرلماني رفيق بناصر يسائل وزير الصحة حول العرض الصحي بمدينة أزمور والجماعات المجاورة    شبهة تضارب مصالح تُقصي إناث اتحاد طنجة لكرة اليد من قاعات التدريب    الدولة الاجتماعية والحكومة المغربية، أي تنزيل ؟    السعودية تمنع التصوير داخل الحرمين خلال الحج    من هم "الحشاشون" وما صحة الروايات التاريخية عنهم؟    منظمة الصحة العالمية تدق ناقوس انتشار سريع لسلالة جديدة من الإنفلونزا    7 طرق كي لا يتحوّل تدريس الأطفال إلى حرب يومية    سلالة إنفلونزا جديدة تجتاح نصف الكرة الشمالي... ومنظمة الصحة العالمية تطلق ناقوس الخطر    التحكم في السكر يقلل خطر الوفاة القلبية    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحدادي: بنكيران حكم علينا بمعيشة الصناع والباعة والمرحلة بكاملها منذورة للانهيار
أستاذ الفلسفة ل« المساء »: السياسي يسعى إلى تخدير الإدراك في حين أن الفيلسوف يسعى إلى إيقاظ العقل من سباته
نشر في المساء يوم 30 - 10 - 2012

قال الباحث المغربي والأستاذ الجامعي عزيز الحدادي، الذي سبق له الفوز بجائزة "سقراط" الدولية للفلسفة التي يمنحها سنويا المركز الدولي للفلسفة في جامعة كامبريدج البريطانية، في الحوار الذي أجرته معه "المساء"،
إن "إشكالية السياسة المقدسة الآن في المغرب والعالم العربي تجد تفسيرا لها في إشكالية التعليم والتربية، لأنه من الحكمة أن نعترف بأن فشل الروح يجعل الإنسان يتشبث بهويته الجريحة"، ويضيف أن "الفلسفة تقوم بفضح الجرائم، ولعل هذا ما يجعلها مضطهدة من قبل الأرواح الميكانيكية التي تعرقل تشييد الأرواح العلمية". وبخصوص نظرته إلى "التدبير السياسي" في المغرب بقيادة بنكيران، تساءل الحدادي: كيف يمكن لهذا التيار، الذي لا يملك ولو مفكرا سياسيا واحدا، أن يسيِّر البلاد ويتحدى همومها وآمالها ويجعلها تحت رحمته? واستخلص أن ما يجري الآن في المغرب هو مجرد تخدير للإدراك واصطياد لنفوس البشر. أما بالنسبة إلى التعليم في المغرب، فقد قال إنه يقيم بجوار الفشل وإن إسناد البحث العلمي إلى موظفين يعجل بانهياره.
- الفرد في المجتمع، هل هو في حاجة إلى يقينيات أم إلى شك وأسئلة تقوده إلى حقيقته كحيوان ناطق، حسب تعبير فلاسفة الماضي؟
إن حقيقة الإنسان تظهر في فكره، أما حينما يختفي الفكر وراء الحجاب ويغيب عند بزوغ الانكشاف فإن الإنسان يبتعد عن العقل ويظل في مرحلته الحسية الحيوانية. يقول ديكارت: «أنا أفكر إذن أنا موجود، أنا شيء يفكر». في التأمل الثالث من كتابه «تأملات ميتافيزيقية»، يتحدث ديكارت بثقة كبيرة عن نفسه كشيء يفكر وبإمكانه إثبات وجوده بواسطة الفكر، ولذلك نجده يقول: «أنا شيء يفكر، أي شيء يشك، يثبت، ينفي، يعرف أشياء قليلة، يجهل أشياء كثيرة، يحب، يبغض، يريد، لا يريد، يتخيل أيضا، ويحس»، لكن ما هو هذا الشيء الذي يفكر ويشك ويعرف ويجهل؟ وكيف أضحى بإمكانه أن يتأمل في حميمية التضاد؟ وأين تكمن أزمة الإنسان الآن، هل في الاقتصاد وحده أم في الفكر أيضا؟ وما الذي ينقص هذا العصر وأين يتجلى ضعفه؟
- بعد زمن من شبه إقصاء من المنظومة التعليمية، هل يمكن الآن القول بأن الفلسفة قد استعادت عافيتها؟
الواقع أن الفيلسوف ظل حزينا على مرض الفلسفة ويتمنى لها الشفاء والعودة من أجل تشييد عظمة الروح، لأن أقرب الأشياء إلى روح الإنسان هو محبته للحكمة، فكيف يمكن لهذه المحبة أن تظل بعيدة في الاغتراب؟ بهذا السؤال نكون قد اقتحمنا الفلسفة في غربتها وأصبحنا نستمع إلى ما تتحدث عنه ونتجه صوب ما تتجه نحوه، لأن هذا السؤال الجوهري يجعلها في النور، ذلك أن ما يجعل عصرنا عصرا عظيما هو امتلاكنا للفكر والحرية كما يقول هيجل؛ وأما ما يجعل عصرنا نحن عصرا بئيسا فهو أن الفلسفة تقيم في الهجران.
- الربيع العربي من منظور الفيلسوف، هل هو نتيجة الثورة على الواقع القدري الذي سلم به العربي لردح طويل من الزمن أم إنه نتيجة لعودته كإنسان يجادل ويسائل الأوضاع التي أجبر على العيش فيها؟
الفيلسوف يأمل أن يرى ذات يوم الشعب الذي يفكر وليس الشعب الذي يريد، لأن الإرادة أضعف من الفكر باعتباره أعمق ما في الإنسان، والشاهد على ذلك أن الشعب الذي يريد حوّل الثورات العربية من مسارها الحقيقي، أي كمبدعة للحرية والكرامة والديمقراطيةوالاختلاف الفكري، إلى صحوة إسلامية تسعى إلى حكم الأرض بخطاب السماء، ولذلك أضحى الإنسان لا يميز بين العقيدة والسياسة لأن التيارات الإسلامية حكمت عليه بالنوم في نعيم الهوية الجريحة إذا أراد أن يشكل كينونته. لقد كان ماركس يقول إن الثورة الفرنسية هي مجرد لعب للأطفال، وأنا أقول إن الثورات العربية هي رد فعل للتيارات الإسلامية ضد المجتمع الحداثي والحرية الفردية وملكية الفكر، لأن هذه التيارات لم تكن هي صاحبة الثورة بل قامت باستغلالها من أجل الوصول إلى السلطة؛ هكذا ستقوم بتأسيس ما يسميه الفارابي بسياسة الخسة، ويعني بها رئاسة الجهال أصحاب الشهوات والمال لأن السياسة كلما كانت مقدسة ابتعدت عن الإنسان.
- كيف تنظر إلى «التدبير السياسي» في المغرب بقيادة بنكيران.. ما الإضافات التي ترى أن التجربة جاءت بها، وما هي الإخفاقات؟
السياسة والإنسان من هما، ومن أين جاءا؟ هل من نفس الأصل، ولماذا يحكمهما التضاد؟ أسئلة قلقة من أجل مجتمع قلق يسعى إلى نسف حقيقة الإنسان الحداثية والرمي بها في حقيقته الوسطوية. مجتمع هادئ ومضطرب كالبحر يريد كل شيء أو لا شيء، فإلى أي اتجاه سيتجه؟ هل يعود إلى صمته أم يغامر ليكتشف قارة الحرية والسياسة المدنية باعتبارها أوفر حظا من البراءة، بيد أنها اعتقلت من قبل السياسة المقدسة، سياسة العوام الذين يضطهدون الخواص. لكن، ما طبيعة التدبير السياسي في المغرب الآن، هل يتم تدبيره بسياسة مدنية أم بمذهب فقهي؟ وهل بإمكان جماعة تنتمي إلى تيار إسلامي أن تسير مجتمعا متقلبا؟ وكيف يمكن لهذا التيار الذي لا يملك ولو مفكرا سياسيا واحدا أن يسير البلاد ويتحدى همومها وآمالها ويجعلها تحت رحمته? أنا واثق من أن ما يجري الآن في المغرب هو مجرد تخدير للإدراك واصطياد لنفوس البشر، مما يحكم على المرحلة بكاملها بالغروب أو الانهيار، ولذا تمنينا للدولة موقعا مثاليا، وذلك في يد الأقدار، إذ نعتبر هذه الأمور مما يسيطر عليه القدر. وأما كون الدولة فاضلة، فليس من صنع الأقدار وإنما من صنع العلم والإرادة الحرة. إلا أن الدولة تكون فاضلة بكون المواطنين المشتركين في السياسة «أفاضل». ويستحيل أن تبلغ السعادة في الدولة بدون سياسة الحكماء الحائزة على أناس فضلاء في الواقع، لا بالافتراض، وألا يعيشوا عيشة الصناع والباعة لأن مثل هذه المعيشة تخلو من النبل وتناقض الفضيلة، ولعل السيد رئيس الحكومة قد حكم علينا بمعيشة الصناع والباعة وجعلنا نتوجه بنداء إلى النداء.
- بعد الاكتساح الإسلامي لمواقع القيادة في العالم العربي، هل يمكن القول بأن ذلك هو خير حكم على اندحار العقلانية وغضب الجماهير منها؟
من المحتمل تفجير هذا السؤال في منارة الوضوح والتمييز لأن الأمة التي تعيش في المدينة الجاهلة تغلب عليها العواطف والوجدان ولا ترقى إلى العقل والفكر لأن العقل هو نور فطري يكتسب بالمعرفة والتعلم لأنه متأخر في الولادة عن الجسد، فإشكالية السياسة المقدسة الآن في المغرب والعالم العربي تجد تفسيرا لها في إشكالية التعليم والتربية لأنه من الحكمة أن نعترف بأن فشل الروح يجعل الإنسان يتشبث بهويته الجريحة وينام في نعيم كينونة الماضي، لأن الأمة بكاملها فقدت الثقة في الحاضر والمستقبل وعادت إلى الماضي من أجل أن تتمتع بالدعة والطمأنينة لأنها لا تريد ما يقلقها بل ما يفرحها؛ فهي ليست بحاجة إلى شيء آخر سوى العودة إلى الأصل الأول للعقيدة الإسلامية وجعلها في مكانة السياسة من أجل تسيير مشاكل الأرض بخطاب السماء، ومن الصعب أن يخضع هذا الخطاب للنقد إذا فشل في التسيير، هكذا يتم الخلط بين السياسة التي تخضع للمراقبة والمحاسبة وبين العقيدة التي ينبغي الإيمان بها فقط.
- لماذا يسعى المغربي، في رأيك، إلى الهروب من طرح الأسئلة في ما يتعلق بالسلطة والواقع السياسي؟ هل يعود ذلك إلى المرجعيات التي ترعرع فيها أم إن ذلك يرجع إلى خوف داخلي نما فيه نتيجة القمع الذي تعرض له على جميع المستويات؟
الواقع أن الأمة التي تخاف من الأسئلة أمة تتجه نحو الغروب لأن الأسئلة هي صياغة للعصر في فكر نقدي، والدليل على ذلك أن الذي يطرح السؤال يكون هو نفسه مندرجا في ذلك السؤال، مما يجعله بجوار العلم والمعرفة أمام الأجوبة.
عندما تصبح الأجوبة الجاهزة تلقن للأجيال في التعليم والتربية فإنها تحكم عليهم بالبلادة وتجعلهم مجرد تماثيل أو كائنات بدون روح، الأمر الذي دفع بالتيار المحافظ إلى اعتقال الفلسفة في سجن النسيان لأنها تحرض الناس على طرح الأسئلة وصياغة عصرهم في مفاهيم قلقة ومضطربة، كما أنها تتوجه إلى سياسة الخسة بالنقد لتظهر خدعتها للناس، ذلك أن السياسي يسعى إلى تخدير الإدراك في حين أن الفيلسوف يسعى إلى إيقاظ العقل من سباته الدوغمائي.
- بعد الإقرار بفشل التعليم في المغرب، ارتفع صوت إعطاء المتعلمين حق الانتقاد عوض اعتبارهم «كائنات اجترارية» تعيد البضائع إلى أصحابها. أمام هذا، هل ترى أن التعليم يمكن أن ينهض من «قبره» ويصنع لنفسه مسارا قويا في زمن الفشل؟
إن التعليم في المغرب يقيم بجوار الفشل، ولذلك فإن الإصلاح تحول إلى إصلاح للإصلاح، مما حكم على منظومة التربية والتعليم بالإقامة الإجبارية في عمق الانتظار، ولنا أن نتساءل بكل براءة: من الذي يقوم بإصلاح التعليم في المغرب.. هل هو أطر تقنية أم أطر سياسية؟ ولماذا لم يستفد التعليم من أخطائه ويتوجه نحو الصواب؟ فإذا كانت الأطر التقنية قد فشلت والأطر السياسية أيضا، فلماذا لا نتوجه إلى العلماء وأهل الفكر من أجل إنقاذ التعليم من هذا الموت البطيء؟
- كيف تنظر إلى التعليم الجامعي وأنت واحد من المؤطرين داخله؟ كثيرون يقولون إنه في تراجع دائم؟ أين يوجد الخلل؟
في الحقيقة، التعليم الجامعي لا ينفصل عن التعليم بشكل عام، بيد أن الممارسة اليومية داخل الجامعة تجعل الإنسان يصدر حكما صائبا، ويمكن صياغة هذا الحكم في سؤال قوي وعنيف: أين يكمن ضعف الجامعة في المغرب؟ وأين يكمن فشلها؟ ومن المسؤول عن هذا القدر الحزين الذي وصلت إليه؟
بإمكاننا أن نجيب عن هذا السؤال بأن الذي يدبر الجامعات والكليات يحتاج إلى مدبر لأن إسناد البحث العلمي إلى غير العلماء، أي إلى موظفين، يعجّل بانهياره ويجعله في يد الأقدار، ولذلك فإن الفلسفة تقوم بفضح هذه الجرائم. ولعل هذا ما يجعلها مضطهدة من قبل الأرواح الميكانيكية التي تعرقل تشييد الأرواح العلمية لأنها تتكئ على عكائز من قصب، فبإمكانها ارتكاب الشر العام من أجل تحقيق السلطة والمال، الأمر الذي يجعل الأستاذ المربي في الجامعة محاصرا بهذه القوة الثالثة، كما كان يسميها الجابري، فلا هو يسلم على نفسه ولا هو يقوم بعمله في أحسن الظروف، وخاصة إذا كان يدرس محبة الحكمة لأنها أشرف العلوم، ولكنها مرعبة للإنسان الذي لم يحقق بعد مرحلة الإنسانية، أي لم يصل إلى العقل، هكذا تظل حقيقة الجامعة محجوبة عن السياسة عبر تاريخها ابتداء من يوم تأسيسها إلى يومنا هذا. كان هناك أمل في أن تصبح الجامعة مصدر تنمية المجتمع المغربي، وبالفعل ساهمت في تنميته وجعله يرقى من مستوى إلى مستوى، بيد أن تسلم سلطة التسيير من قبل هذه القوة حكم على الجامعة بالتراجع شيئا فشيئا، ومع ذلك فإن الأمل يظل دائما مرتبطا بالمستقبل.
- أين يتجلى الخلل في التعليم المغربي عموما، وهل ترى أن وزيرا بتلك العقلية «المثيرة للجدل» قادر على معالجة مشاكله؟ كيف؟
إذا أردنا أن نشير إلى الخلل في التعليم المغربي والمنظومة التربوية بصفة عامة، لا بد من صياغته في أسئلة راهنية: من المسؤول عن أزمة التعليم في المغرب؟ هل يمكن اعتبار المسؤول هو السياسة أم الدولة أم المجتمع؟ بعبارة أخرى، هل يتعلق الأمر بأزمة يمكن علاجها من قبل السياسيين أم من قبل التكنوقراطيين؟
إذا أجزنا لهذه الأسئلة أن تمعن النظر في حقيقتها فإنها ستوجهنا إلى ذلك الطريق الذي سلكته السياسة في المغرب تجاه التعليم وإصلاح التعليم، خاصة وأن حقيبة وزارة التعليم لم تكن تسلم إلى العلماء وأهل الفكر بل كانت تسلم إلى الحزب من أجل إرضائه، هكذا يصبح الوزير يسعى إلى إرضاء الحزب الذي ينتمي إليه ولا يهمه مصير التعليم. وهذه المغالطة هي التي جعلت أسمى ما في الروح يدور في دائرة مغلقة، وإذا واجهناه بسؤال: كيف يمكن إخراج التعليم من هذه المتاهة؟ ومن هو المنقذ من الضلال؟ فإنه لا يملك إجابة مقنعة تستند إلى البرهان واليقين وليس إلى الخطابة والسفسطة.
- هل لا يزال هناك مكان للفلسفة داخل المجتمعات العربية، وضمنها المغرب؟ كيف؟
«لا بد لتفكيرنا أن يصبح أكثر تفكيرا في عصره.. وأسمى غاية للعلم هي المعرفة الفلسفية».
من ذا الذي لا يزال بإمكانه أن يفكر في حقيقة الوجود وماهية الإنسان؟ يضعنا هذا السؤال في قلب النسيان الذي أصبح مستقَرا لحقيقة الوجود، يهدد بنسف ماهية الإنسان، ويجعلها تفقد قدرتها على التفكير بفقدانها لإرادة المعرفة التي تستطيع أن تفتح ممرا للفكر من أجل الالتحاق بالميتافيزيقا: «لأنه طالما كان الإنسان حيوانا ناطقا، كان أيضا حيوانا ميتافيزيقيا، وطالما كان الإنسان يفهم نفسه بوصفه حيوانا ناطقا فالميتافيزيقا تتعلق بطبيعة الإنسان، كما قال كانط»، لكن كيف يمكن للإنسان أن يكون حيوانا ميتافيزيقيا ويرفض الاعتراف بطبيعته الميتافيزيقية؟ وما الذي يجعل هجران الفكر مرتبطا بهجران الميتافيزيقا، هل لأنها تشكل جذر شجرة الفلسفة، أم لأنها مستقر لحقيقة الوجود؟ وما الذي يحدث لو أن عصرنا بكامله يتم تحديده بغياب هذه العلاقة وبنسيان هذا الغياب؟
- كيف ذلك؟ حبذا لو توضح الأمر أكثر.
الواقع أن غياب الفكر أغرق الإنسان في التفاهة وحوّله إلى كائن بدون جذور غارقا في نسيان الوجود، وملقى في الموجود يستهلكه بشراسة. ولعل هذا هو السر في مرض الميتافيزيقا، وضعف الفكر، مما حكم على المعرفة بالقطيعة مع إرادة المعرفة. هكذا، توقفت الأشياء على الحركة وأضحى الإنسان جارا للعدم، وفي حميميته ينتظر غروبه. فما الذي يجعل الفكر نعمة للفنانين مثل ثمار شجرة الفلسفة؟
في رسالته إلى مترجم كتابه «مبادئ الفلسفة»، يقول ديكارت: «الفلسفة كلها شجرة، جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا، والفروع التي تتفرع من الجذع هي سائر العلوم الأخرى»، فبأي أرض تنبت هذه الشجرة؟ ومن هو الذي يستفيد من ثمارها؟ وهل هي نفسها شجرة المعرفة التي أكل منها آدم وحكم عليه بعقوبة النزول إلى الأرض ليعيش تجربة الألم والموت؟ وهل بإمكان هذه الشجرة أن تنبت في المغرب؟



أين موقع الفلسفة اليوم؟
لقد كانت الفلسفة عند عشاقها هي المحراب الأكثر حميمية للروح، لأنها مملكة الحقيقة الخالصة، حيث إن روح الإنسان تستطيع تحقيق أقصى مراتب نقاء الفكر، ولذلك فإنه إذا كانت الفلسفة لا تركز انتباهها على أساسها، تترك دائما أساسها، تتركه يفضل الميتافيزيقا، فإنها تحرص على العناية بثمارها، لا من أجل ذاتها، بل من أجل الإنسان الذي يحيى بالقرب من المنكشف والمنفتح، حيث تستقر الميتافيزيقا، لأنها تتغذى من فكره، بوصفها جذرا لشجرة الفلسفة. وكلما كان الفكر ضعيفا مرضت الميتافيزيقا وذبلت شجرة الفلسفة وسقطت منها الثمار قبل أن تنضج. لكن لماذا اختار الإنسان هذا القدر الحزين؟ وأين تكمن أزمته؟ هل في الاقتصاد وحده أم في الكفر أيضا؟ بل أكثر من ذلك، ما الذي ينقص هذا العصر؟ وأين يتجلى ضعفه؟
لا يمكن أن نخفي الحقيقة على من ينتظرها بشغف، على الرغم من أنها مؤلمة وعنيفة بحيث قد تتجرأ على قتل نفسها، حين تتعرف على الوهم كأساس لها، ولذلك سنتركها تمزق الحجاب عن وجهها وتكشف عن ماهيتها، لأن الاحتجاب يغيب عند بزوغ الانكشاف، ويختفي من أجل المنكشف الذي يظهر في صورة الموجود. بيد أن الحقيقة لا تشعر بالأمان والحميمية إلا عندما ترافقها الميتافيزيقا في موكبها، بل إنها لا تظهر حقيقتها بعيدا عن نور الميتافيزيقا، لأنهما يتوحدان في ماهية الإنسان. لكن أي اغتراب هذا الذي يهدد الإنسان المعاصر، على الرغم من أنه يسكن في صميم الحقيقة والميتافيزيقا؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.