مديرية الموارد البشرية في وزارة التربية الوطنية هي الكيان الأكثر حيوية في كل جهاز الدولة، نظرا إلى إشرافه المباشر على المسار المهنيّ لأكبر نسبة من موظفي الدولة، والبالغ عددهم نحو 300 ألف موظف، وهو العدد الذي يوازي موظفي قطاعات العدل والأمن والصحة مجتمعة.. وعندما نقول «المسار المهنيّ»، فإن سلطة الجهاز تبدأ من التكوين وصولا إلى سن التقاعد، لتشمل كل العمليات التكوينية والإدارية والمالية والقانونية والوظيفية التي تهمّ مسار موظفي التربية والتكوين، والموزعين على ست فئات، هي هيئة التدريس، هيئة التأطير والمراقبة التربوية، هيئة التخطيط والتوجيه، هيئة التسيير المادي والمالي، هيئة الدعم الإداري والاجتماعي والتربوي، ثم هيئة الأطر المشتركة الإدارية والتقنية بين الوزارات. فإذا كان رهان الدولة اليوم على قطاع التعليم يفرض عليها إيلاءَ العنصر البشري أهمية كبرى، نظرا إلى كون مشاريع الإصلاح الحالية والمستقبلية متعلقة ومشروطة به، فإن الاهتمام بمديرية بهذه الأهمية يُعتبَر أوْلى، نظرا إلى طابعها الاجتماعيّ المحض. إن أي استقراء لأغلب الشكايات التي تتلقاها الوزارة عبر خدمة «إنصات» أو إلى أي من المشاكل التي تعتمل بين الموظفين والوزارة وبين الوزارة والنقابات في كل ربوع المملكة، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، تحيل كلها إلى بناية واحدة في مدينة «العرفان».. إنها البناية الأشهر في كل بنايات الوزارة، والموزعة على العاصمة، فمن ضمن نحو 20 مديرية مركزية، رسمية وغير رسمية، تتوجه كل أنظار رجال التعليم، والموزعين على 16 أكاديمية و82 نيابة إقليمية، وعلى أزيدَ من 9 آلاف مؤسسة تعليمية ثانوية و13 ألف مجموعة مدرسية، تتوجه كلها إلى هذه البناية، في التوظيفات والترسيمات والترقيات والتأديبات والرخص والاستيداعات والعويضات وصولا إلى التقاعد.. ولا تتوقف حدود هذه الأهمية الحيوية للمديرية عند الموظفين، بل عند الوزير أيضا، فعندما أراد هذا الأخير تذويب «جبل الجليد» الذي تراكم -على امتداد سنوات- بين الوزراء وهذا الجهاز وتقليص الفاتورة السياسية التي يمكن أن يدفعها هو شخصيا نتيجة بعض أخطاء الجهاز، لم يرَ بُدا من التوجه، هو أيضا، وشخصيا، إلى مدينة العرفان، تماما كأي موظف في أسّا أو تاوريرت أو غيرهما من مناطق المغرب، فمشاكل التواصل بين مقر «باب الرواح» ومقر «العرفان» لا يمكن أن تُحلّ بالسلطة التي تعطيها الدولة للأول، بل تُحل بالتنازل عن أعراف بائدة في التواصل الإداري.. وبالتواصل والعرفان.. إن زيارة وزير بنى «نجوميته» بخرجات إعلامية غير مألوفة من مسؤول على قطاع التعليم في المغرب لهذه المديرية، قبل أسبوعين تقريبا، هي خطوة رأى فيها كثيرون اعترافا بالدور الحيويّ لهذا الجهاز وطريقة جديدة في التواصل، فمن الأكيد أن الوزير تلقى مئات الشكايات، تدور كلها في فلك الموارد البشرية، وكان من السّهل أن يصدر أوامر «فوقية» للنظر فيها، لكنّ خطوة «غير تواصلية» كهذه لن تستطيع أن تمنع مسؤولا عن قسم أو عن مصلحة أو عن مكتب في المديرية من «خرق» القانون لو أراد ذلك، لكنّ الذي يستطيع أن يمنعه، حتما، هو الاعتراف والتواصل والإشراك.. وهذه رسالة تلقاها، على الفور، كل العاملين في المديرية وينتظرون أن تتحول إلى «تقليد» يحرص عليه كل وزير.. إن لهذا اللقاء التواصلي، الذي جمع الوزير بمسؤولي المديرية، أكثر َمن دلالة، تحتاج كل منها إلى نظر خاص ومطوّل، ففضلا على الاعتراف بأهمية الموارد البشرية بشكل عامّ، خصوصا في لحظة تاريخية مهمة يمر منها القطاع، والمتمثلة في بداية ما بعد البرنامج الاستعجالي، هذه الزيارة هي اعتراف صريح، أيضا، بكون مشروع الجهوية واللاتمركز، والذي تم تبنيه منذ عشرية الإصلاح، ما يزال في بدايته، فالقرارات التدبيرية الكبرى ما تزال ممركزة على مستوى الإدارة المركزية في العاصمة.. صحيحٌ أن تجربة الأكاديميات الجهوية تعتبر رائدة قياسا إلى باقي القطاعات الحكومية الأخرى، خصوصا على مستوى التدبير المالي وجزء من مستوى الخدمات الإدارية اليومية للموظفين، لكنّ سلطة المسؤول الجهويّ والإقليمي في الوزارة لم تصل بعدُ إلى مستوى الاستقلالية الحقيقية في اتخاذ القرار المناسب لكل إقليم أو جهة، وهذا مشروع ضخم يمكن أن يكون قاطرة لحل مشاكل كبيرة، تتعلق بتدبير الموارد البشرية وتدريس الأمازيغية والحياة المدرسية وانفتاح المدرسة على المحيط.. وهي رهانات تم رفعها على مستوى المركز، منذ ظهور الميثاق الوطني للتربية والتكوين، لكنّ تحقيق هذه الرهانات يمر، حتما، عبر مدخل تفعيل الجهوية.. وبدل أن «يحجّ» الموظفون من كل فج عميق إلى «العرفان»، في عاصمة المملكة، سيكون عليهم أن يزوروا فقط عاصمة جهتهم للبتّ في كل الملفات التي يتم حلها مركزيا..