يعود كتاب «آل ستراوس كان» لكل من رفائيل باكي وأراين شومان إلى الغوص في أسرار الحياة الخاصة لإحدى أشهر الزيجات في تاريخ فرنسا. يرجعان إلى الإرهاصات الأولى لميلاد هذا الثنائي. يرصدان كل صغيرة وكبيرة في أولى خطواتهما. يسلطان الضوء على مناطق الظل في حياة مذيعة حسناء واشتراكي كان قاب قوسين من قصر الإليزي. وأخيرا، يكشفان أسرار المغامرات الجنسية للمدير السابق لصندوق النقد الدولي التي دقت المسامير الأخيرة في نعش علاقة آن وسانكلير. قليلون يعلمون تفاصيل السهرات الخاصة التي أقامها ستراوس كان بمعية أصدقاء له في مدن فرنسية مختلفة قبل أن ينتقل إلى واشنطن، عقب تعيينه على رأس صندوق النقد الدولي، ليواصل مغامراته في بلاد «العم سام»، التي وضعت نقطة نهاية لمسيرته السياسية. الواقع أن ستراوس كان أحس بغربة شديدة في مقر صندوق النقد الدولي بالعاصمة الأمريكية. غربة لم يخفف من وقعها سوى تواصله المستمر مع صديقه بازكوفسكي، الذي ينعت بالمخطط الرئيس للمغامرات التي قضت على ستراوس كان. أول لقاء دخل بازكوفسكي حياة ستراوس كان بهدوء حذر. لم يستطع أول الأمر اختراق الدائرة الأكثر قربا من القيادي الاشتراكي الفرنسي، ولم يكن على معرفة بآن سنكلير. لم يبادر أي شخص من المقربين من ستراوس كان إلى السؤال عن اسمه العائلي ولا طلب معلومات عنه طيلة فترة امتدت من سنة 2001، تاريخ أول لقاء بين ستراوس كان وبازكوفسكي، إلى لحظة انفجار فضيحة كارلتون. لم يفطن أحد إلى أن هذا المقاول الشاب صار من أكثر الناس قربا من ستراوس كان. كان بكل تأكيد أقل شياكة وأناقة من روبير بادينتي، لكنه لم يكن يقل عنه وفاء. ولم يدر بخلد أحد أنه رجل ظل يصحب دومنيك ستراوس كان في جميع مغامراته، بما فيها الأكثر غموضا. تولدت علاقة الصداقة بين ستراوس كان وبازكوفسكي في سنة 2001 خلال حملة الانتخابات الجماعية بفرنسا. في تلك الحملة تنقل القيادي الاشتراكي إلى مدينة بيتون لدعم ترشيح جاك ميليك، الذي خاض تلك الانتخابات بعيد تورطه في فضيحة عرفت إعلاميا باسم «أوم-فا». كان بازكوفسكي مقربا من المرشح الاشتراكي، خصوصا من أولاده، ولذلك كلف باستقبال ستراوس كان في محطة القطار وملازمته طيلة المدة التي سيقضيها في بيتون. استلطف ستراوس كان الشاب بازكوفسكي وتبادل الاثنان أرقامهما الهاتفية. يذكر بازكوفسكي أن ستراوس كان قاله يومها: «أنت نموذج للأشخاص الذين أبحث عنهم. مقاولون شباب ومتحمسون».كما انخرط جاك ميليك الابن في حملة لتقوية موقع ستراوس كان على الصعيدين المحلي والأوربي. ورغم أن بازكوفسكي لم يكن مثقفا، ولم يكن يهتم على الإطلاق بالسياسة، فقد كان على استعداد كبير لدخول هذا الميدان إكراما لصديقه ستراوس كان. في زيارته التالية للمنطقة، هاتف ستراوس كان بازكوفسكي فور وصوله إلى مدينة بيتون ليدعوه إلى «سهرة خاصة»، فاكتشف، لأول مرة، عالم السهرات الخاصة والحفلات الماجنة لستراوس كان. لم يستلطف ذلك في البداية، لكنه استمتع بحديث جانبي مع ستراوس كان غابت فيه السياسة وحضرت النساء والمتعة. اعترف بازكوفسكي لمقربين منه بأنه اندهش يومها للشخصية القوية للوزير السابق وذكر لهم أقوالا لستراوس كان يقول فيها إنه يفصل بين الحب والجنس. بعد تلك الليلة، أصبح بازكوفسكي يلازم الخبير الاقتصادي الفرنسي في كل سهراته الخاصة. كان حاضرا في سهرات خاصة ببلجيكا، لا سيما في العاصمة بروكسيل. أبرزها أقيم باستوديو تسجيلات مرموق، لا تقتصر شهرته على جودة الصوت في تسجيلاته. كما نظمت سهرات خاصة أخرى في العاصمة الفرنسية. الحياة الجديدة تغيرت حياة بازكوفسكي جذريا، فقد استغل مرافقته لستراوس كان من أجل التقرب من مشاهير الفن والسينما والسياسة والإعلام من قبيل بيير موسكوفيتشي وجون كريستوف كامباديليس وجون ماري لوغين. انتقل المقاول الشاب من عالم إلى عالم آخر لم يكن يتصور وجوده قبل أن يلتقي بستراوس كان. كما ارتفعت مداخيله بشكل صاروخي وأصبحت تناهز 25 ألف أورو في الشهر، وصار كثير التردد على أماكن بالعاصمة الفرنسية باريس يرتادها المشاهير بكثرة. وعندما يعود إلى الشمال، لم يكن يتردد في التعبير عن التباهي بعلاقته بستراوس كان أمام زملاء له يعملون في أوراش البناء. كان يكثر من الحديث عن علاقة الصداقة التي تجمعه بوزير المالية الفرنسي السابق، ويروي قصصا لا يصدقها كثيرون عن مغامراته مع القيادي الاشتراكي وعدد من مشاهير فرنسا. وفي هذا السياق، يحكي بازكوفسكي كيف أن ستراوس كان وفرانسوا ميتران طلبا في رحلة إلى أندونيسيا خدمات فتيات شابات عكس لونيل جوسبان، الوزير الفرنسي السابق، الذي لم ينقل عنه أي شيء خلال تلك الرحلة. كما تحدث بازكوفسكي عن المكالمات الهاتفية والرسائل القصيرة الكثيرة التي بعث بها كل من ستراوس كان وميتران من أجل اصطياد فتاة أندونيسية. لم يكن كثيرون من المقربين من بازكوفسكي يصدقون ما ينقل إليهم من أخبار عن الدائرة المحيطة بالقيادي الاشتراكي الفرنسي. غير أن المحققين توصلوا أخيرا إلى نماذج من تلك المكالمات والرسائل الهاتفيتين في ذاكرة هاتف ستراوس كان بعثها إلى بازكوفسكي جاء فيها: «سأصحب شابة إلى إحدى العلب الليلية بالعاصمة النمساوية فيينا. هل تريد أن ترافق أخرى وتصحبني إلى هناك؟». نموذج آخر: «هل تريد أن تصحبني إلى مدريد لنكتشف هناك عالم علبة ليلية فريدة من نوعها». كان بازكوفسكي على يقين بأن ستراوس كان سيتولى قيادة فرنسا في غضون سنوات قليلة، ولذلك كان يحاول أن يقدم إسهامه في سبيل بلوغ هذا الهدف. وقد كان لدراسته الحقوق لمدة سنتين وقضائه سنتين أخريين في دراسة الصيدلة ومتاجرته في المواد شبه الطبية دور كبير في توصله إلى آلاف الأفكار في مجال الصحة. إذ أشرف على إعداد دليل خاص بالأدوية الجنيسة، واقترح أن تتبع فرنسا السياسة ذاتها التي تنهجها الولاياتالمتحدةالأمريكية في هذا الميدان. كانت له أيضا وجهة نظر في الأشخاص الذين يمكن أن يعتمد عليهم ستراوس كان للاستعداد لخوض غمار الانتخابات الرئاسية الفرنسية. اعتقد أنه سيكون لكل شخص دور يقوم به في ميدان تخصصه. وضع في طليعة المطلوبة خدماتهم ما يعرف ب»الإخوان»، جون كريستوف لاكارد والمساعد السابق بمدينة ليون ميشال نيير، الذي أصبح المسؤول الأول عن الأمن في منطقة الشمال. قرر بازكوفسكي توجيه الدعوة إلى نيير لمقاسمة ستراوس كان مأدبة غداء إلى جانب «أخ» آخر من منطقة الشرق الكبير يدعى دافيد روكي، وكان يشرف على إدارة إحدى شركات «إيفاج». سأل بازكوفسكي روكي عما إذا كان يعرف فتيات، أملا منه في تقديم خدمة «متعة» لصديقه دومنيك. رد روكي كان سريعا. إذ أجرى على الفور اتصالا بمقرب من أبيه، وكان أبوه يشغل منصب مدير العلاقات العامة ب»كارلتون»، يدعى روني كوجفير. هذا الأخير وفر لستراوس كان أولى المومسات وأجر له شقته الخاصة. كان روني و بازكوفسكي يعتقدان بأن لا شيء يمكن أن يخدش صورة صديقهما الوزير السابق الموعود بتسلم مفاتيح قصر الإليزي من يد نيكولا ساركوزي. غير أن نبأ مغامرات ستراوس كان وحفلاته الخاصة سيتسرب من تلك الغرفة المغلقة في ذلك الملهى غير المثير للشبهات لتتناقله الألسن بشوارع وأزقة مدينة ليل. هنا أيضا لجأ روني إلى حيلة مضادة. كان يتعمد أن يتحدث بالسوء عن ستراوس كان أمام أصدقائه من رجال الأمن وبعض بائعات الهوى المقربات من كبار المسؤولين الأمنيين على الصعيد المحلي. كان روني ينعت دونيك ب»المريض» درءا للشبهات. ونهج دافيد روكي الأسلوب ذاته في محاولة لثني الأعين المتلصصة عن تتبع أخبار صديقه دومنيك، ولم يدر بخلد روني وروكي أن المعلومات المتعلقة بالمرشح الاشتراكي للانتخابات الرئاسية تتراكم فوق مكاتب المسؤولين الأمنيين. لكن فجأة تقرر إقصاء بيا من الحفلات الخاصة لدومنيك بسبب الاشتباه في تورطها في تسريب معلومات عن مغامرات وزير المالية الفرنسي سابقا. لم يكن لإقصاء هذه الفتاة، التي كانت طرفا رئيسيا في المغامرات من قبل، أي تأثير سلبي على المجموعة التي قررت نقل سهراتها الخاصة من ليل إلى العاصمة باريس. تكلف روكي في سرية تامة بالبحث عن فتيات لتنشيط سهرة خاصة بأحد فنادق مدينة الأنوار، وفق إفادة فتاة شاركت في تلك السهرة، تدعى مونية. انتقلت هذه الفتاة، التي انقطعت عن عالم السهرات الخاصة بعد ارتدائها الحجاب، في تلك السهرة، من مدينة ليل إلى باريس رفقة كل من دافيد روكي نفسه وجون كريستوف لاكارد. ضرب الجميع موعدا في ساحة مورون القريبة من محل إقامة ستراوس كان بالعاصمة الفرنسية. وكان بازكوفسكي تكلف بالتفاوض مع الفندق حول سعر الغرفة ونوعية الأكلات التي سيتم تقديمها للمشاركين في هذه السهرة الخاصة، التي اختير لها أن تقام في جناح في الطابق الأخير يتوفر على مسبح خاص به. لم تكن المغربية مونية الوحيدة في تلك السهرة الخاصة جدا. إذ غادرت الفندق في تمام الساعة الحادية عشرة ليلا منتعشة بمبلغ 900 أورو. وقد رافقها عند الخروج أصدقاء دومنيك الثلاثة، تاركين هذا الأخير في الفندق برفقة ثلاث فتيات أخريات، واحدة منهن على الأقل من أصل مغاربي. بعد هذه السهرة، تدبر بازكوفسكي أمر سهرة أخرى في المكان ذاته. غير أن ستراوس تكلف بنفسه بالبحث عن فتاة لتنشيط السهرة، في حين عمد بازكوفسكي إلى استدعاء صديقته على وجه السرعة ليقاسم صديقه دومنيك هذه السهرة. وكذلك كان. بعد هذه السهرة قرر دومنيك ومجموعته التقليل من السهرات الخاصة، مع اعتماد تدابير احتياطية تتمثل بالأساس في تنويع أماكن السهرات الخاصة لكي لا ترصد المجموعة من لدن المسؤولين الأمنيين أو تسقط في شراك «البابارادزي»، خصوصا أن ستراوس كان ليس فقط قياديا اشتراكيا يطمح إلى الإطاحة بنيكولا ساركوزي من رئاسة الجمهورية الفرنسية، وإنما يتربع أيضا على رأس صندوق النقد الدولي، مما يجعله مادة دسمة للصحافة العالمية كلها، وليس الفرنسية أو الأوربية فقط. وفي ظل هذه التغيرات، برمجت المجموعة سهرة خاصة في يوليوز 2010 بمدينة سان تروبيز، لكنها ألغتها في آخر لحظة لأسباب غير معلومة. ولكن كان واضحا أن المجموعة تأثرت بضيق وقت المدير العام لصندوق النقد الدولي، وضيق هامش حرية الحركة المتاح أمامه. كما أن زوجته آن سينكلار أكدت له أنها ستلازمه كظله بعد افتضاح أمره في القضية التي اشتهرت إعلاميا باسم «بيروسكا». ولم تكن أجهزة صندوق النقد الدولي لتغفل عن مراقبة المسؤول الأول عن الصندوق. ونتيجة لهذه المراقبة متعددة المصادر، سجل تغير في مزاج ستراوس كان تحدث عنه أحد أعضاء مجموعته بالقول: «كانت سهراته مع أصدقائه من الشمال مصدر أوكسجين بالنسبة إليه». كان لزاما أن ترفع «مجموعة المتع» درجة الحذر إلى حدودها القصوى مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية. وهكذا قرر بازكوفسكي الانتقال شخصيا إلى العاصمة الأمريكيةواشنطن. إذ حل بالأراضي الأمريكية ثلاث مرات وفي تواريخ متباعدة: دجنبر 2010، وفبراير وماي الماضيين. وفي كل مرة، كان يصحب معه فتاتين جديدتين، وكانت الفتيات يبدين سعادة كبيرة بإتاحة الفرصة لهن للتنقل إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية من أجل التسوق ولقاء المدير العام لصندوق النقد الدولي. كانت كل واحدة منهن تحصل على 1200 أورو. مقربون من ستراوس كان أكدوا أنه لم يستلطف قط المومسات، وإنما كان يفضل فتيات من الطبقة البورجوازية، فهل كان دومنيك يعلم أن صديقه بازكوفسكي يقدم له مومسات وليس بوجوازيات؟ تحت المراقبة تلقى دومنيك ستراوس، المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي، خبر شروع الإدارة المركزي للاستعلامات الداخلية الفرنسية في دراسة حالته والنبش في المعلومات الواردة عليها عن سهراته الخاصة في مقر الصندوق بالعاصمة الأمريكيةواشنطن. علم ذلك من صديقه، عميد الشرطة جون كريستوف لاكارد، على هامش مأدبة غداء جمعت الاثنين بمقر الصندوق في 12 ماي الماضي. لاكاد أكد لصديقه الحميم أن جميع خطوطه الهاتفية مراقبة، وأن رسائله القصيرة أيضا وضعت تحت المراقبة. نزل الخبر كالصاعقة على ستراوس كان. في المساء التقى الصديقان في فندق قريب من البيت الأبيض، فوجدا في انتظارهما فتاتين قضتا معهما تلك الليلة مقابل 1200 دولار لكل واحدة منهما. تم تقديم الفتاتين على أنهما كاتبتين في الشركة التي يديرها دافيد روكي. غير أن إحداهما لم تكن سوى فتاة أمريكية تتحدث الفرنسية بطلاقة، ولم تكن مواطنة فرنسية مثلما أُوهم بذلك المدير العام لصندوق النقد الدولي. وكانت تلك آخر مغامرة لستراوس كان على الأراضي الأمريكية. إذ بعد ثلاثة أيام سيستيقظ بازكوفسكي على خبر إيقاف صديقه الحميم، المدير العام لصندوق النقد الدولي، من قبل الشرطة الأمريكية. دب الخوف والذعر في نفوس أصدقائه الفرنسيين، فعمدوا إلى مسح جميع رسائلهم القصيرة والأرقام الهاتفية المثيرة للشبهات. أرسل بازكوفسكي رسالة دعم ومواساة إلى صديقه الحميم، ثم هاتفه بمجرد رجوعه إلى الأراضي الفرنسية في أكتوبر، حيث التقيا وتناولا معا وجبة غداء وتواعدا على اللقاء من جديد في أقرب فرصة ممكنة. لكن يبدو أن كل شيء انتهى بين الصديقين.
غربة ستراوس كان في واشنطن لم يكن دومنيك ستراوس كان، المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي، سعيدا على الإطلاق في العاصمة الأمريكيةواشنطن. وبعد وصوله إلى هناك بشهور تولد لديه إحساس بأن توليته هذا المنصب نفي من الوطن فرنسا وإبعاد له أكثر منه تشريفا. اعترف دومنيك ستراوس كان بهذا الشعور، الذي كان يتقوى لديه كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية، إلى صديق له يدعى فابريس بازكوفسكي. كان هذا المقاول الفرنسي ذو الأصول البولونية يلازم ستراوس كان كظله، وأصبح يقدم على أنه صديق مقرب من المدير العام لصندوق النقد الدولي، الذي كان يستعد لتسلم مفاتيح الإليزي من نيكولا ساركوزي. وذات يوم فاجأ ستراوس كان صديقه باعتراف صادم: «أنا أموت ببطء هنا. حتى «موسكو» لا تهتم بوجودي ولا يكلف الروس أنفسهم مشاق المجيء إلى هنا» يقول المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي لصديقه قبل أشهر قليلة من انفجار فضيحته المدوية. بوح لم يدل به ستراوس كان لأي شخص آخر عدا هذا المقاول الشاب، وهو ما يبين الثقة الكبيرة بين الاثنين.