يعود كتاب «آل ستراوس كان» لكل من رفائيل باكي وأراين شومان إلى الغوص في أسرار الحياة الخاصة لإحدى أشهر الزيجات في تاريخ فرنسا. يرجعان إلى الإرهاصات الأولى لميلاد هذا الثنائي. يرصدان كل صغيرة وكبيرة في أولى خطواتهما. يسلطان الضوء على مناطق الظل في حياة مذيعة حسناء واشتراكي كان قاب قوسين من قصر الإليزي. وأخيرا، يكشفان أسرار المغامرات الجنسية للمدير السابق لصندوق النقد الدولي التي دقت المسامير الأخيرة في نعش علاقة آن وسانكلير. كان «التكتم» كلمة السر التي أوصي بها المدعوون إلى حفل زفاف القيادي الاشتراكي والاقتصادي البارز دومنيك ستراوس كان، ومعشوقة الجماهير، الصحافية آن سانكلير، ذات يوم من شهر يوليوز 1992. ضرب الجميع موعدا في مقهى هادئ بمدينة باريس. تم تحذير الجميع في بطاقات الدعوة من مغبة التوجه جماعات إلى المقهى. كل إخلال بالتعليمات قد يؤدي إلى إلغاء حفل الزفاف، الذي طال انتظاره. بطاقة الدعوة لم تتضمن أدنى إشارة إلى هوية الحفل وأصحابه، ولم تتضمن أدنى علامة يمكن أن تقود إلى التنبؤ بمكان إقامته. مناورة اجتمع جميع المدعوين في وقت مبكر من ذلك اليوم، رغم أن مراسيم الزفاف لن تبدأ قبل غروب الشمس. كان ذلك اليوم مشهودا في حياة الوزير الاشتراكي الصاعد ونجمة جماهير التلفزيون. ففيه سيكملان عدة ارتباطهما بإعلانهما زوجة وزوجها في قداس ديني يقام في إحدى كنائس باريس بعد مرور بضعة أشهر على إبرامهما عقد الزواج في المقاطعة السادسة عشرة بالعاصمة الفرنسية باريس. كان الثناني، الذي شغلت أخباره الناس في ذلك الصيف، يأمل في أن ينجح في تحويل أعين رجال الإعلام، خاصة المصورين الصحافيين، عن حفل زفافهما المنتظر، تماما مثل نجاحهما في مباغتة الجميع بعد أن توجها في غفلة من الجميع نحو المقاطعة الباريسية 16 لإبرام عقد زواجها. يومها لم تتمكن أي صحيفة من الحصول على صورة لهما أثناء وجودهما في تلك المقاطعة لتحرير عقد الزواج.إذ اتخذ الثنائي، الصحافية والاقتصادي البارز، العارفان جيدا بمناورات رجال الإعلام، كل الاحتياطات الضرورية لكي لا تتسرب أي معلومات عن عزمهما توثيق زواجهما. وقد تبين في وقت لاحق أن موظفي المقاطعة نفسها لم يكونوا يعلمون بأن مقاطعتهم تستعد لاستقبال أشهر ثنائي وقتها في فرنسا كلها. ثنائي تجاوزت أخباره الحدود الفرنسية وباتت مثار اهتمام في مناطق متفرقة من العالم. كانت الصحف مستعدة لأداء مبالغ مالية خيالية من أجل الحصول على صورة الثنائي وهو يلج باب المقاطعة من أجل توثيق عقد الزواج. ولهذه الأسباب، اتخذت آن قرارا حاسما فيما يتعلق بتصوير أحداث الزفاف ومختلف تنقلاتها بمعية دومنيك ستراوس كان في مختلف مراحل الاحتفال بالزفاف. ويتمثل هذا القرار في إسناد هذه المهمة لصديقتها المقربة ميشلين بيليتيير. «ستقام مراسيم الزفاف في سرية تامة» بهذه الجملة ذيل الثنائي آن سانكلير ودومنيك ستراوس كان الدعوة التي وجهاها إلى أصدقائهما المقربين لحضور مراسيم زفافهما. غربت شمس ذلك اليوم ببطء شديد. وانتظر المدعوون ساعات طويلة في ذلك اليوم الصيفي قبل أن يكتشفوا أن مراسيم الزفاف لن تقام في فندق فخم أو حتى في قاعة حفلات متواضعة، بل ستقام فوق سطح العمارة التي تقيم فيها آن سانكلير. لم يتجاوز عدد المدعوين 100 شخص، أكثر من ثلثيهم شخصيات معروفة. كان ضمنهم وزراء ومثقفون مرموقون وصحافيون، بالإضافة إلى أصدقاء القيادي الاشتراكي البارز. المحظوظون الذين أتيحت لهم فرصة حضور حفل الزفاف، أكدوا أنه الأرقى من حيث الوجوه الحاضرة فيه منذ حفل زفاف برنار كوشنير، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الفرنسي السابق، وكريستين أوكرينت. الحاضرون أيضا أكدوا أن آن سانكلير وصلت إلى مكان العرس متأبطة ذراع برنار هنري ليفي، الذي كان يرتدي بذلة جعلته أشبه بحاجب ملكي من عصر النهضة الفرنسي. اللقاء الأول يعود أول لقاء بين آن ودومنيك إلى سنة 1977. كان ستراوس كان وقتها يتلمس خطواته الأولى على درب الصالونات الأدبية الباريسية. كثيرون تنبؤوا له وقتها بمستقبل باهر في صناعة القرار الثقافي في فرنسا. وكان مميزا بلحية تضفي على ملامح وجهه طابعا أكثر إنسانية. تؤكد آن أنها أحست بشيء تجاه هذا الشاب منذ أول لقاء لهما. لا تزال تحتفظ بذكرى جميلة عن هذا اللقاء، رغم أن دومنيك لم يغب قط عن حياتها منذ تلك اللحظة التي تعارفا فيها. يعود الفضل لسانكلير في أول إطلالة تلفزيونية لستراوس كان على الجمهور الفرنسي. الواقع أن دومنيك عرف كيف يستغل هذه الفرصة بشكل جيد ويترك فيها أثرا طيبا في نفوس الفرنسيين. مرة أخرى استطاع ستراوس كان أن ينتزع توقعات بمستقبل واعد في صناعة القرار الثقافي والسياسي والاقتصادي في فرنسا بعد أن عرب بشكل صريح عن إيمانه العميق بالاشتراكية على الطريقة الماوية، حتى إن حماسه لهذه الإيديولوجيا جعله يتنبأ لها بلعب دور ريادي في الحياة السياسية الفرنسية. بعد مرور 15 سنة على أول إطلالة تلفزيونية له ، أصبح دومنيك ستراوس كان اسما بارزا في صفوف الحزب الاشتراكي الفرنسي. إذ بدأت صورته تلتصق تدريجيا بصورة الصحافية اللامعة آن سانكلير، التي كانت برامجها تسجل وقتها نسب متابعة قياسية. ولا غرابة أن اقتران الصورتين منح ستراوس كان حظوظا إضافية في التقدم على كثير من الشخصيات الاشتراكية في ميزان الشعبية. فقد استطاعت آن منذ الفترة التي نشطت فيها برنامجا سياسيا حواريا بشكل يومي على شاشة القناة الفرنسية الأولى أن تقتحم دائرة صناع القرار في باريس، مدعومة بالحظوة التي تمتعت بها لدى الجمهور الفرنسي. صناع القرار، من الساسة والاقتصاديين، لم يكونوا يستطيعون رفض تلبية دعوتها، لعلمهم بأن صد الأبواب في وجهها سيكلفهم غاليا في سلم الشعبية. كانت الصحف الفرنسية تتناقل بكثافة أخبار آن سانكلير، التي أيقنت بأنها تحولت إلى سيدة مجتمع. أخبار عديدة تحدثت عن إقدام النساء على توقيف مذيعتهم المحبوبة في الشارع من أجل التقاط صور معها والحصول على توقيع منها للذكرى. مقالات أخرى حكت كيف طلب منها رجال كثر السماح لهم بمجرد لمس مذيعتهم المفضلة ذات العينين الزرقاوين. ومع تواتر هذه الأخبار، وتنامي حضور آن سانكلير في الصحافة الفرنسية، تقوى حضورها لدى الشخصيات البارزة في صناعة القرار الفرنسي، حتى أصبحت تعرف في هذه الأوساط ب»الرأي العام»، لسبب بسيط، يكمن في حرصها في مجموع حواراتها على طرح الأسئلة التي تدور في خلد عموم الجمهور بكل بساطة وبدون تعقيدات. كان ستراوس كان وقتها وزيرا للصناعة في حكومة يرأسها ميشال روكار. هذا الأخير، لم يكن يجد حرجا، رغم أنه الوزير الأول، في الاعتراف علنا بأن آن سانكلير هي «نجمة الجماهير الحقيقية». دومنيك وزيرا لم يكن دومنيك يوم عين وزيرا للصناعة في حكومة روكار شخصية «نكرة». إذ كان قد خطف الأضواء في تدريس الاقتصاد في كراسي الجامعة وشد إليه أنظار الفرنسيين بتدخلاته الجريئة وأفكاره المتجددة في مختلف مشاركاته التلفزيونية. روكار نفسه خبره عن قرب في علاقة صداقة وثيقة دامت أزيد من 10 سنوات قبل أن يقدم له «هدية العمر» ويفتح أمامه أبواب الاستوزار. روكار لم يتردد في التصريح في أكثر من مناسبة بأنه يتطلع إلى مشاهدة ما يمكن أن يقوم به الأستاذ الجامعي اللامع في تدبير شؤون قطاع اقتصادي هام بحجم الصناعة وفق التوجهات الرئيسية لحكومة اشتراكية. كان الوزير الفرنسي وقتها يحتفظ بصورة مثالية عن وزيره في الصناعة. يروق له أن يصفه ب»الشاب الاشتراكي» المتميز. ذلك أن دومنيك كان عملة نادرة في صفوف الحزب الاشتراكي الفرنسي لكونه يحمل في آن واحد شهادة المدرسة العليا للدراسات التجارية وشهادة مماثلة من الجامعة، شعبة العلوم السياسية. بدا للرأي العام الفرنسي، ومعه قادة الحزب الاشتراكي وقتها، أن ستراوس كان يتمتع، فضلا عن كل هذه الميزات، بصفة خاصة تكاد تكون منعدمة لدى معظم السياسيين: الصراحة. إذ لم يكن يجد حرجا في الاعتراف بفشله في ولوج المدرسة الوطنية للإدارة، التي تخرج منها ثلث الشخصيات التي كونت فريق روكار الحكومي. في الواقع، انضم دومنيك ستراوس كان إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي في سن السابعة والعشرين، وتحديدا في سنة 1976. كان عضوا في فريق القيادي الاشتراكي جون بيير شوفينمون. وما لبث أن نفر من المعارك الإيديولوجية التي كان يعيشها الحزب الاشتراكي الفرنسي. معارك كان يؤكد أنها خاسرة مسبقا، ومن ثمة لا يرى داعيا للخوض فيها ولا جدوى في نصرة طرف فيها على الآخر. كلا الطرفين، من وجهة نظر دومنيك الشاب، يهدر جهده في أشياء لا تنفع وقد تضر بالحزب. كان دومنيك يحرص على تقديم نفسه في صورة الخبير الاقتصادي المحنك الزاهد في إقحام نفسه في معارك إديولوجية لا فائدة ترجى منها. ومع ذلك، لم يستطع أن يظفر بتقدير الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران. الرئيس الفرنسي الراحل رفع في أكثر من مرة الفيتو في وجه استوزار ستراوس كان قبل أن يعدل عن موقفه تحت إصرار روكار. كان ميتيران يعيب على دومنيك قربه الشديد من أرباب العمل، وهو ما يتعارض من وجهة نظره مع توجهات الحزب الاشتراكي، غير أن الوزير الأول، روكار، كان يعتبر هذا القرب ميزة إضافية تزكي حظوظ دومنيك للاستوزار. والواقع أن روكار لم ينجح في تحقيق أمنية ستراوس كان في الاستوزار إلا بعد سنوات من المحاولات الفاشلة، بعضها معلوم وبعضها الآخر أجهض في المهد. ورغم خلافاتهما الهامشية، كان ستراوس كان يثق كثيرا في روكار، وكان يبني عليه كذلك آمالا كثيرة لإدخاله إلى عالم تدبير الشأن العام من أوسع الأبواب، خصوصا أنهما تمتعا بوجهات نظر متقاربة في العديد من القضايا، لاسيما الاقتصادية منها. في حكومة روكار الأولى، مني ستراوس كان بخيبة أمل كبيرة، إذ أحس أول الأمر بأن صديقه روكار طعنه أو باع له الوهم. غير أن روكار نفسه سيتدارك الأمر بتصريحات صحافية حمل فيها المسؤولية ضمنيا للرئيس الفرنسي ميتيران، الذي لم يكن يخفي «مقته» لدومنيك. وقال روكار في أحد تصريحاته الصحافية: «لم أملك زمام القرار سوى في ثمانية وزراء من أصل أربعين اسما. ألتمس منكم ألا تعاتبوني على شيء لا طاقة لي به». ورغم أن حلم الاستوزار تأخرا كثيرا، فإن تحققه كان هو الأهم بالنسبة إلى دومنيك وآن. هذه الأخيرة لم تخف وقت إبرام عقد زواجها بدومنيك فخرها واعتزازها بالاقتران بوزير واقتصادي بارز. ذلك أنها كان معتزة أيما اعتزاز بتولي رفيق دربها منصب وزير الصناعة. عودة إلى مراسيم الزفاف، الغريب أن مالك العمارة التي أقيم فيها حفل الزفاف نفسه لم يحط علما بعزم آن ودومنيك إقامة مراسيم زفافهما في سطح عمارته. جميع الذين تمكنوا من الولوج إلى مكان الحفل، لم يعرفوا لحظة وصولهم إلى باب العمارة الأسباب الثاوية وراء دعوتهم إلى الصعود في سرية تامة إلى سطحها. بعد أن اكتمل عقد المدعوين إلى الحفل، وانتهت «لعبة التخفي» في إيصالهم إلى مكان الحفل دون إثارة أي شبهة قد تعصف بجهود العريسين طيلة أسابيع لإقامة ليلة عمرهما في سرية تامة بعيدا عن أعين المتلصصين وعدسات صحافيي «البابارادزي»، أصبح اهتمام الحاضرين موجها صوب العريس لمعرفة الشخصيتين اللتين سيكون لهما حظ الشهادة على عقد زواج الثنائي المحبوب لدى الرأي العام الفرنسي. وقد جاءت اللحظة المنتظرة وأعلن دومنيك أنه اختار ليونيل جوسبان، الذي سيتولى لاحقا منصب الوزير الأول في عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك، على عهد التعايش السياسي بين الأغلبية اليمينية والمعارضة الاشتراكية في الثلث الأخير من تسعينيات القرن الماضي، شاهدا أولا، وأباه جيلبير ستراوس كان شاهدا ثانيا. بعد لحظات، انطلقت رسميا مراسيم الزفاف، وأعلن دومنيك ستراوس كان، وزير الصناعة البارز، وآن سانكلير، الصحافية التلفزيونية محبوبة الجماهير، زوجا وزوجة. في صباح اليوم الموالي، ذاع الخبر في كل أرجاء فرنسا. وتنبأ الجميع للثنائي بالنجاح الباهر، شخصيا ومهنيا. فقد توفرت لدومنيك وآن جميع متطلبات النجاح، لا سيما أنهما نجحا في تدبير مرحلة الزفاف باقتدار ونضج. لم تستطع أي وسيلة إعلامية، مكتوبة كانت أو سمعية بصرية، أن تحصل على صور أو حتى صورة واحدة لحفل زفاف الثنائي الشهير. وقد ظلت هذه الصور الهدف الأبرز لمختلف وسائل الإعلام في فرنسا. الصحافيون كانوا يعلمون بأن الجمهور الفرنسي يتوق إلى مطالعة صور وزيره في الصناعة، الذي استطاع أن يسرق معشوقة الجماهير، في أهم ليلة من حياتهما كلها. باءت جميع محاولات الوصول إلى صورة تروي عطش الجمهور الفرنسي بالفشل، وكان على الفرنسيين انتظار آخر عدد من مجلة «باري ماتش» الشهيرة لسنة 1991، والذي صادف الاحتفال بأعياد الميلاد للسنة الموالية، ليقرر دومنيك وآن فتح أرشيف صورهما لهذه المجلة.
المرأة التي غيرت حياة ستراوس كان تغيرت حياة دومنيك ستراوس كان بعذ زواجه من آن سانكلير في كل شيء. إذ سهلت له الصعب ويسرت له العسير وقربت له البعيد. باتت جميع الأهداف في متناوله، بفضل الشخصية القوية التي تتمتع بها زوجته. أصبحت حياته أيضا أكثر تنظيما من ذي قبل. يتوجه في الشتاء إلى سهول سويسرا ليتنزه في المحطات السياحية ويمارس رياضة التزحلق على الجليد. وفي فصل الربيع، يتنقل إلى إسبانيا ليستمتع بأجوائها الرائعة. وفي الصيف، يشد الثنائي الرحال نحو الصين أو المكسيك. وإذا لم يتوفر لهما الوقت يتوجهان إلى أفضل الشواطئ في حوض البحر الأبيض المتوسط. صارت المسافات البعيدة قريبة أيضا. كان دومنيك وآن يقضيان في بعض الأحيان عطلة نهاية الأسبوع في مدينة نيويورك، التي يقيم فيها والد آن، روبير شوارتز، منذ سنة 1941، بعد أن لاذ إليها إثر سقوط فرنسا في قبضة النازيين في الحرب العالمية الثانية. والملاحظ أن والد آن غير اسمه بعد وصوله إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى شوارتز، وتخلى بذلك عن اسمه الحركي سانكلير. أحيانا كان الثنائي يعرج على كندا لقضاء أوقات ممتعة عند صديقيهما جون ودانييلا فريدمان. لقد فتح الاقتران بآن سانكلير أبواب عوالم جديدة في وجه الوزير الشاب. إذ جعلت هذه المذيعة التلفزيونية الحسناء القيادي الاشتراكي يتذوق طعم رغد العيش.