هناك سؤال يتكرر على أكثر من لسان، وخاصة إزاء الأزمات والمشاكل التي تظل معلقة دون قرار، وهذا السؤال هو: من يتخذ القرار؟ هناك إحساس عام في الدولة بأن القرار الاستراتيجي موزع اليوم على أكثر من جهة، وأن التردد والتأخر الحاصلين في ما يخص العديد من الملفات، يرجعان إلى هذا العطب المتمثل في تعدد مصادر القرار... في كل الأنظمة الديمقراطية وغير الديمقراطية هناك مراكز عدة لصنع القرار، لكن هناك جهة أو جهات محددة ومعروفة وواضحة لاتخاذ القرار. طبعا لا يوجد حاكم، سواء في نظام ديمقراطي أو دكتاتوري، لا يأخذ بعين الاعتبار مصالح وآراء ومواقع عدة قبل اتخاذ أي قرار. الفرق أن الحاكم الديمقراطي مطوق بالدستور والقانون والمؤسسات التي لا تسمح له بحرية كاملة في اتخاذ القرار، أما الحاكم السلطوي فلا قانون ولا مؤسسات ولا أعراف تقف في وجهه، بل فقط مصالح حكمه هي التي تتحكم في اتخاذه للقرار... منذ مدة والفاعلون السياسيون والاقتصاديون والإعلاميون والإداريون... يشعرون بأن القرارات الكبرى في البلاد موزعة على أكثر من شخص في محيط القصر، وأن أسلوب الملك محمد السادس في الحكم وكثرة تنقلاته واهتمامه الأول بالملف الاجتماعي أعطى صلاحيات كبيرة لعدد من عناصر محيطه لاتخاذ قرارات هامة وخطيرة وبأساليب معقدة، منها ما هو ظاهر ومنها ما هو خفي، وهذا شيء جديد على النظام السياسي في المغرب كما وضعه الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان يمسك بزمام المبادرة والقرار بين يديه، ولم يسمح إلا في ما ندر لغيره بممارسة صلاحياته. شخصان فقط، وفي ظرفية محددة، كانا يقتطعان من جغرافية القرار أقساطا كبيرة لصالحهما، أحدهما هو الجنرال الدموي محمد أوفقير في بداية حكم الراحل الحسن الثاني، حيث استفاد من ثقة الملك الراحل فيه ومن ظروف المواجهة مع اليسار، حيث كان يقتسم القرار تقريبا مع الجالس على العرش، وهذا ما أدى به إلى خوض انقلابين فاشلين كادا يغيرا من تاريخ المغرب المعاصر، وانتهت هاتان المغامرتان بمقتل الجنرال على أبواب القصر سنة 1972 بعد فشل طائرات أوفقير في إسقاط طائرة الملك. الشخص الثاني الذي تمتع بصلاحيات كبيرة كان هو إدريس البصري، الخادم الوفي للعرش في المدة الفاصلة ما بين مرض الحسن الثاني وموته، أي ما بين 1995 و1999. لقد استطاع البصري بدهائه الأمني وليس السياسي أن يشارك الحسن الثاني في عدد من القرارات بناء على نوع المعلومات التي كان يضعها بين يديه، مستغلا مرض الملك وقلة نشاطه ووفاة عدد من مستشاريه الأقربين (رضا اكديرة وإدريس السلاوي)، وبعد آخرين وعلى رأسهم المستشار عبد الهادي بوطالب... في هذه الفترة، كان البصري شبه «نائب للملك» يتصرف بثقة كبيرة، ومع ذلك لم يستطع أن يمنع آخر صفقة سياسية وقعها الملك الراحل قبل وفاته، وهي استدعاء زعيم المعارضة للمشاركة في الحكومة رغم أن وزير داخليته كان مرتابا في الاشتراكيين. لا أحد يدعو إلى إعادة إنتاج أسلوب الحسن الثاني في الحكم، لأن حصيلته كانت كارثية، فأرقام وإحصائيات الخصاص في كل شيء تثبت أن نظام إدارته للدولة –مع أخذ كل الظروف بعين الاعتبار- كان فاشلا، لكن في نفس الوقت لا بد من الحذر إزاء «مخططات» تفتيت القرار في الدولة وتقوية «مراكز النفوذ» المالي والسياسي والإداري والأمني. فباسم الدفاع عن الملكية وهيبة القصر واستقرار البلاد، يتقدم الكثير من الأشخاص المعروفين بعدائهم للديمقراطية وحرية الصحافة، واحتقارهم للمؤسسات ولدولة الحق والقانون من أجل شغل مناصب حساسة، وبناء شبكات مصالح معقدة من أجل «تخويف» القصر من كل عملية إصلاح كبيرة تُمكن البلد من الخروج من «القوالب الحديدية» التي توقف نموه الديمقراطي والحداثي... إن «ملكية برلمانية»، ولو عبر مسار تدريجي، تهدد مصالح عدة فئات ربطت قطارات مصالحها ومناصبها ونفوذها وسلطتها وامتيازاتها بملكية «تنفيذية» تقليدية لا تلعب فيها الواجهات الديمقراطية سوى أدوار الكومبارس... على الملكية أن تتخفف من الوزن الزائد الذي يحدثه هؤلاء الذين لا يعول عليهم غدا في الدفاع عن أي شيء لا يقع ضمن دائرتهم «المصلحية».