يتتبع الرأي العام الوطني، باهتمام كبير، إقدام قاضي التحقيق بالغرفة الثالثة في محكمة الاستئناف بمراكش على وضع المستشار البرلماني ورئيس المجلس البلدي السابق تحت المراقبة القضائية واتخاذ الإجراء الاحترازي بسحب جواز سفر في شأن ملف التحقيق عدد 2012/8، والمحال عليه بعد تحريك النيابة العامة للدعوى العمومية من طرف الوكيل العام للملك، وذلك بعدما أنهى المكتب الوطني لمكافحة الجرائم المالية والاقتصادية التابع للفرقة الوطنية للشرطة القضائية تقريره المتعلق بالخروقات المتعددة في مجال تدبير وتسيير بلدية المنارة جليز، وعلى رأسها قضية ما أضحى يعرف وطنيا ب«كازينو السعدي» وغيرها من ملفات اختلاسات المال العام. ويواجه الرئيس السابق للمجلس البلدي بمراكش -مع 12 متهما آخر، منهم أعضاء في المجلس الجماعي الحالي والسابق ومجموعة من المقاولين- تسع تهم رئيسية، هي: الرشوة، وتبديد أموال عمومية، واستغلال النفوذ، والتزوير في محررات رسمية، والإرشاء، واستعمال محررات رسمية مزورة، والمشاركة في استغلال النفوذ، والمشاركة في تبديد أموال عمومية، وتسليم رخص إدارية عن طريق الإدلاء ببيانات غير صحيحة. وقد أمر الوكيل العام للملك، قبل شهر، بإيداع المستشار البرلماني السابق والرئيس السابق لغرفة الصناعة التقليدية في مراكش السجن، تنفيذا لحكم قضائي بالسجن النافذ لمدة سنتين ونصف، وهو الحكم الذي صدر في حقه قبل سنوات بتهمة النصب والتزوير. ربما تدفع هذه المؤشرات إلى إعادة الثقة إلى المواطنين والرأي العام الوطني في الآليات القضائية لحماية المال العام، وهو ما يجسد انخراط القضاء في دينامية تنزيل الوثيقة الدستورية وتفعيل السياسة العمومية في مجال معالجة اختلالات تخليق الحياة العامة. فتحريك آليات المتابعة الجنائية في ملفات جرائم الفساد المالي والاقتصادي المتعلقة بتدبير الشأن العام هي السبيل الوحيد لتكريس مبدأ عدم الإفلات من العقاب في سياق سيادة القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية والدفع بالدولة إلى وضع قواعد جديدة لعمل المؤسسات، تروم تأصيل المساءلة في نطاق القانون وتخضع لرقابة السلطتين القضائية والتشريعية؛ فالضمانات الدستورية لمبدأي فصل السلط واستقلالية القضاء تخول للجهاز القضائي، اليوم أكثر من أي وقت مضى، المساهمة بشكل فعال ومؤثر في الحكامة الاقتصادية من خلال إعمال آليات تخليق الحياة العامة والمساءلة في قضايا الجرائم الاقتصادية، وفتح تحقيق شامل في جميع ملفات الاختلاس وإهدار المال العام داخل المؤسسات العمومية والمجالس الجماعية ومجالس الوصاية التي تتناقلها وسائل الإعلام من حين إلى آخر، خصوصا وأن الدولة المغربية تتعرض للعديد من الانتقادات الدولية في مجال الحكامة الاقتصادية رغم المصادقة على اتفاقية الأممالمتحدة ضد الرشوة. السلطة القضائية وتفعيل آليات المساءلة المتعلقة بالمال العام إن دسترة آليات تخليق الحياة العامة في الوثيقة الدستورية الجديدة تحمل دلالات عميقة تروم جعل الدستور الجديد، كأسمى قانون في البلد، مرجعية لاستراتيجية واضحة وشفافة لتفعيل آليات المراقبة الإدارية والمالية والمساءلة في المسؤولية العمومية، والقطيعة مع سلوكيات الفساد المالي والاقتصادي وإهدار المال العام، مما سينعكس بشكل إيجابي على الاقتصاد الوطني والإدارة المغربية اللذين أبانا عن عجز بنيوي في الإقلاع والانخراط في دينامية الدفع بالعملية التنموية في بلادنا. فحتى وقت قريب، كان القضاء يفتقر إلى مرجعية دستورية لتأصيل مبدأ الاستقلالية، وهو ما دفع بجهات ولوبيات نافذة متعددة إلى التدخل في صميم سلطانه الداخلي، وتعطيل دوره كأداة فعالة لتكريس العدالة الاجتماعية وتطبيق القانون، رغم أن التشريع الجنائي المغربي ينص على الجزاءات في حالة ارتكاب الجرائم الاقتصادية، ولكن اعتبار الملك في خطابه التاريخي لتاسع مارس «آليات تخليق الحياة العامة مرتكزا للتعديل الدستوري» هو تعبير عن دعم صريح من الملك لإرساء دعائم المحاسبة والمساءلة والشفافية والحد من تدخل السلطة التنفيذية في جهاز القضاء من أجل تأهيله لمواجهة الجرائم الاقتصادية. وسيرا على هدي التوجيهات الملكية، قامت الحكومة المغربية منذ 2003 بالتصديق على اتفاقية الأممالمتحدة الخاصة بمناهضة الفساد؛ وبعدها أصدر المشرع المغربي قوانين محاربة تبييض الأموال ونهب المال العام وقانون التصريح بالممتلكات. ولكن دسترة مبدأ المساءلة في مجال تخليق الحياة العامة هو الضامن الرئيسي لتفعيل دور القضاء في مواجهة جميع أوجه الفساد السياسي والاقتصادية؛ ذلك أن عرض قضايا نهب واختلاس المال العام أمام القضاء وتحريك آليات المتابعة الجنائية في حق المفسدين هي وحدها الكفيلة برد الاعتبار، أولا، إلى جميع آليات المراقبة المالية والإدارية؛ وثانيا، ملامسة الجدوى من إصدار المشرع لقوانين مكافحة الفساد والجرائم المالية ووضع الدولة لبرامج الإصلاحات الإدارية والجبائية والاقتصادية لمناهضة الإفلات من العقاب في حالة التملص الضريبي واستغلال النفوذ والإثراء غير المشروع وتفويت الصفقات العمومية، وذلك بإعمال المراجعة القبلية والبعدية لمالية المسؤولين الممارسين لمختلف المهام الوزارية والإدارية ومجالس الوصاية والمنتخبين في المجالس الجماعية والبلدية والبرلمانيين. ومن هذا المنطلق، فظاهرة وضع اليد على المال العام في إطار الجريمة المنظمة أضحت أمرا مستفحلا وشائعا، حيث يبدو، من خلال الملفات المعروضة على القضاء، أن الأشخاص المتابعين يلجؤون إلى طرق ومناهج مدروسة بعناية للتحايل أو خرق القانون لاختلاس المال العام واستغلال النفوذ والاستفادة من شروط إبرام صفقات الدولة أو القواعد المتعلقة بتدبيرها ومراقبتها أو صياغة طرق محبوكة للحصول على الامتيازات التي تمنحها الدولة بشكل غير مستحق؛ وهو ما يستدعي التفكير في إحداث قضاء مختص في مجال مكافحة الجرائم المالية، حتى يتمكن من تجاوز محدودية غرف الأموال المحدثة في محاكم الاستئناف، على اعتبار أن هذا النوع من جرائم المال العام يستوجب تكوينا خاصا للقضاة من أجل تقوية مناعة السلطة القضائية في مواجهة الفساد المالي، خصوصا وأن دسترة استقلال القضاء ستقوي، لا محالة، من دورها في إعمال سيادة القانون ومناهضة إفلات مرتكبي الجرائم الاقتصادية من العقاب. العلاقة السببية بين استفحال جرائم المال العام وظاهرة الإفلات من العقاب إن أزمة تخليق الحياة العامة هي ظاهرة سوسيو-اقتصادية مرتبطة بالإفلات من العقاب، ويوجد نوع من الترابط العضوي بين جرائم المال العام وجميع أشكال الفساد، سواء السياسي أو المالي أو الإداري، لارتباطها بالزبونية والمحسوبية واستغلال النفوذ والتهافت على المواقع وتعطيل سبل المساءلة وطرق المحاسبة من أجل الاغتناء على حساب الدولة وتعطيل المشاريع التنموية للمجتمع. فالآثار الاقتصادية المباشرة لإهدار واختلاس المال العام، والتي تقدر بحوالي 242 مليارا والتي لم تستطيع الدولة أن ترجع منها إلا 40 مليارا، تتجلى في عجز الميزانية وغياب التوازن المالي والدفع بالدولة نحو الاعتماد على القروض والخوصصة، إضافة إلى التأثير السلبي على توزيع الثروات داخل المجتمع. لقد أكدت مجموعة من التقارير الدولية على تصنيف المغرب في المراتب المتدنية في مؤشر التنمية بفعل ارتفاع جرائم الرشوة ونهب المال وتبييض الأموال وعدم التصريح بالممتلكات، حيث أضحت بعض المؤسسات العمومية والمجالس الجماعية المنتخبة مجالا لسوء التدبير والفساد المالي والإداري والتلاعب بالأموال العمومية واستنزاف الموارد وتهريب الصفقات وإنشاء مقاولات وهمية للاستحواذ على المشاريع والاستفادة من الإعفاءات الضريبية، مما أدى إلى تعطيل العديد من القطاعات الحيوية العمومية من خلال تعقيد المساطر الإدارية وفتح المجال لسلطة الرشوة والزبونية والمحسوبية واستغلال النفوذ، وهو ما قد يؤدي إلى إقصاء الكفاءات المهنية والعلمية أو هجرتها إلى الخارج. ويصعب تقديم أرقام حقيقية ومعطيات دقيقة عن حجم تبذير المال العام والاختلاسات ومختلف الجرائم الاقتصادية في السابق لعدم عرض العديد من الملفات الخاصة بالجرائم الاقتصادية على المحاكم المغربية وإفلات المسؤوليين عن الاختلاسات وإهدار وتبذير المال العام من العقاب حتى وقت قريب وعدم إصدار أحكام سالبة للحرية في حق المتورطين في ملفات الاختلاسات أو مصادرة الأموال المنقولة والعقارات المحصلة من الاختلاس والنهب في المال العام. هذا في حين أن تقارير اللجان البرلمانية للتقصي والحقائق أكدت أن حجم الأموال المختلسة بلغت -من خلال القيام بعملية الافتحاص لمجموعة من المؤسسات العمومية، مثل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ب115 مليار درهم، وبنك القرض العقاري والسياحي ب8 ملايير درهم، والقرض الفلاحي ب846 مليون درهم، والبنك الشعبي ب30 مليون درهم، والمكتب الشريف للفوسفاط ب10 ملايير درهم، وشركة كوماناف للنقل البحري ب400 مليون درهم، والمكتب الوطني للنقل ب20 مليون درهم، وشركة الخطوط الجوية الملكية التي اتهم مدير سابق لها باختلاس مليار سنتيم، إضافة إلى تبذير مبالغ مهمة على صيانة الطائرات في الخارج، والمكتب الوطني للصيد البحري لأزيد من 70 في المائة من الإنتاج المغربي للثروة السمكية يباع بطرق غير قانونية، ومكتب التكوين المهني الذي اختلست منه 7 ملايير سنتيم في إطار برنامج العقود الخاصة للتكوين. وقد تؤدي الجرائم الاقتصادية إلى التوزيع السيئ للثروات وتعطيل حركية التنمية الاقتصادية والمشروع المجتمعي الحداثي من خلال فقدان الثقة في العلاقة التي تجمع الدولة بالمواطنين بعد تفاقم انتشار الرشوة والإختلاسات في المؤسسات العمومية والمجالس الجماعية في ظل ضبابية استراتيجية تفعيل آليات المراقبة الإدارية والمالية والمساءلة الجنائية من طرف الدولة. أستاذ القانون الدولي في جامعة القاضي عياض/مراكش