قد يكون لنا تقدير إيجابي أو سلبي لشخص الأستاذ حميد شباط ولمدى أهليته القيادية ولنوعية خطابه وشرعية طموحاته؛ قد يكون لنا اقتناع بحصول تدخل من جهات ما لتسهيل فوز الرجل بالأمانة العامة لحزب الاستقلال أو بعدم حصول مثل هذا التدخل؛ قد يقع بيننا اختلاف في تحديد الأوساط التي لها مصلحة في استلام شباط مهامه الجديدة، وفي نوعية الآثار التي ستترتب عن اقتراع الأحد 23 شتنبر 2012 بالصخيرات، واحتمال تضرر صورة حزب الاستقلال أو عدم تضررها نتيجة الحدث. لكن، في جميع الأحوال، علينا أن نعترف بأن ما وقع يمثل مؤشرا على دخول الحزب مرحلة تغير في قواعد اللعب داخله. حزب الاستقلال يعيش تحولا تنظيميا عميقا، وملامح الصورة التي ظلت ملازمة للحزب على مدى عقود يلحقها تعديل بارز، والأسس التي شكلت شخصية الحزب التنظيمية والسياسية تتعرض، في جوانب عدة منها، للتحوير والتبديل، وتتوارى بعض العناصر المكونة قديما لتلك الشخصية لتحل محلها عناصر جديدة. طبيعة التحول الذي يعيشه حزب الاستقلال، تعيشه تقريبا جميع الأحزاب التقليدية الكبرى في المغرب، بدرجات متفاوتة، ويؤدي إلى سيادة قواعد جديدة في التدبير والعمل. وقبل أن نستعرض بعض مظاهر التحول، نريد أولا أن نلخص مقومات الهوية الحزبية الاستقلالية كما عهدناها في الماضي، وذلك من خلال الإشارات السريعة التالية: - حزب الاستقلال قدم تضحيات جسيمة وناضل نضالا مريرا من أجل استقلال المغرب، ودفاعا عن الشخصية الوطنية المتحررة؛ - خاض كفاحات مشهودة من أجل احترام الحريات العامة وحرمة الاقتراع، ومارس ضغوطا على الملكية من أجل الدخول بالمغرب مرحلة الحياة الدستورية، وأنجب العديد من الأطر المقتدرة، ومثلث جريدة «العلم» صوتا عاليا للتنديد بالقمع والتزوير وفضح الظلم والفساد؛ - لا ينازع الحزب في بعض قواعد النظام التقليدي، ويعتبر أن ثوابت المملكة يجب أن تحظى بمكانة خاصة ولو على حساب بعض قواعد الديمقراطية، وأن هدفه الأسمى هو تجديد تعاقد الملكية مع الحركة الوطنية؛ - حزب الاستقلال حمل بعض مواصفات الحزب الإسلامي، وذلك قبل ظهور حزب العدالة والتنمية؛ - يتعايش في إطار الحزب، بصورة ودية، حزبان: «حزب الفروع» و«حزب المركز».. الأول يستعمل وسائل تقليدية لا تنتمي إلى صنف المعترف به مركزيا. أعيان الفروع يمدون القادة السياسيين للمركز برصيد قابل للتحويل إلى حقائب وزارية وبأدوات الدفاع «عن هيبة» الحزب. هناك وحدات حزبية، تعمل كل وحدة منها وفق منطقها الداخلي، وتتمتع بمجال حرية عمل واسع، فهي الأعرف بشؤونها بما لا يتعارض مع مصلحة الحزب؛ - الصورة النمطية للأمين العام تقوم على وجود علاقة سابقة بالقصر أو سبق القيام بمهمة لدى المخزن ضمانا للثقة، وعلى الانتماء إلى عائلة كبرى، وامتلاك تكوين عال، والتزام التبصر في الخطاب. كان النظام ربما يعتبر أن من حقه منح تزكية للشخص الذي سيتولى الأمانة العامة، ولم يكن التنافس مفتوحا، فحتى وإن ظهر مرشح منافس للاسم الذي تم التوافق عليه، وخاصة من طرف «القيادة التاريخية»، فإن هذا المرشح ينتهي بسحب ترشيحه (حالة ذ.امحمد الخليفة)؛ - يتوفر الحزب على شبه حصانة ضد الانشقاقات (بعد انشقاق 1959 لم يعرف الحزب سوى حالة واحدة لانسحاب مجموعة صغيرة من مثقفي الحزب وتأسيس حزب جديد)؛ - يعرف حزب الاستقلال حياة تنظيمية حقيقية، تتجلى أولا وقبل كل شيء في انتظامية اجتماع الأجهزة الوطنية، بما فيها المؤتمر الوطني العادي، بالإضافة إلى سابقة عقد مؤتمر استثنائي للحسم في قضية المشاركة في حكومة ربيع 1998؛ - للحزب قدرة مذهلة على التكيف مع وضع المشاركة ووضع المعارضة معا، والاستفادة من كلا الوضعين. إذا كان خارج الحكومة، يحاول نوعا ما أن يكون «قريبا منها» من خلال احتلال مناصب حساسة في جهاز الدولة، وإذا كان داخل الحكومة فإن قوته الانتخابية لا تتأثر بذلك كثيرا؛ - تلتزم مختلف حساسيات ومكونات وفئات الحزب بدرجة عالية من التضامن وتحركها حمية حزبية، وتعتبر في العادة أن تناقضاتها لا يجب أن تصل إلى حد الإضرار بالمصلحة العليا للحزب؛ - الإعلام الحزبي لا يتناول المشاكل الداخلية للحزب ومشاكل الأحزاب الحليفة، ويتمسك بقدر من الحذر والحكمة (في مرحلة من المراحل، كانت افتتاحيات «العلم» من أجمل الكتابات السياسية للمغرب المستقل)؛ - للحزب أعيان أوفياء له، يتحكمون في شبكات انتخابية ضخمة، ومشاكل الانتخابات يتم تدبيرها في الأصل بدون خسارات كبرى، وهناك اقتناع استقلالي دائم بأن الترشيح يقتضي التوفر على مؤهلات استثنائية، وأعضاء الحزب يتوزعون إلى أعضاء مرتبطين بأعيان وأعضاء مرتبطين بمؤسسات الحزب؛ - المجلس الوطني جهاز وطني ضخم (من 700 إلى ألف عضو تقريبا)، شبه مفتوح، يضم عمليا أغلب «النشطاء» الفعليين المرتبطين بالآلة الحزبية، ويمثلون نواة تدور في فلكها بقية الأعضاء، والعضوية لا تقابلها التزامات يومية كثيفة وشاقة؛ - يعمل الحزب بمبدأ «مكافأة» المناضلين على نضالهم، والاهتمام بمشاكلهم ومسارهم المهني، ولا يتركهم يواجهون مصيرهم وحدهم؛ - رغم الطابع التقليدي المحافظ للحزب، فهو يخلق المفاجآت أحيانا، ويعطي إشارات في اتجاه التجديد، ولا أدل على ذلك من كونه أول حزب يمتنع أمينه العام تلقائيا عن الاستمرار على رأس الحزب، وكونه نجح في إبراز وجوه شابة، حقق بها جزءا من متطلبات قاعدة تداول النخب؛ - باشر الحزب توزير كفاءات «تكنوقراطية» جلبها من الوسط العائلي لقادة تاريخيين للحزب، بدون أن تكون لتلك الكفاءات روابط تنظيمية وطيدة بالحزب؛ - يتمتع نظام المفتشين بهيبة وقدرة على التدخل الناجع، ويُحاط القادة التاريخيون للحزب بمظاهر الاحتفاء والتبجيل والاحترام؛ - تعتمد قوة الحزب أيضا على قوة تنظيماته الموازية وشبيبته ونقابته وجمعياته وروابطه، فهو ليس مجرد «حزب الأطر»، بل يتبنى صيغة أقرب إلى «حزب الجماهير»؛ - يتميز الحزب باستقلالية نسبية عن النظام، تكبر أو تصغر حسب الظروف، ولكن الحزب ليس حزبا إداريا، وليس أداة طيعة في يد الملكية، بل إنه عانى من ضغوطها عليه، وعانت من ضغوطه عليها. ومع ذلك فحزب الاستقلال ليس من طينة الأحزاب الديمقراطية اليسارية المغربية، بل هو «حالة خاصة» أصبحت تمارس إغراءً على كافة الأحزاب. واليوم، فإن المسار الذي اتخذته عملية صعود شباط إلى الأمانة العامة لحزب الاستقلال، يوحي بأن هناك تغييرا يطال عددا من القواعد المشار إليها سابقا، ومن ذلك، مثلا، أن: - إسلامية الحزب أصبح لها أيضا معنى جديد، يعني الدفاع عن ورود فاس في حديث نبوي، ومحاربة مرشح للأمانة العامة تارك للصلاة.. إلخ؛ - التناقضات بين مكونات الحزب ومختلف حساسياته تُحسم بالقوة العددية وليس بالتوافق أو الحرص على التوازن أو تدخل القادة التاريخيين؛ - الوحدات المكونة للحزب لم تعد تقبل بالدور الذي يُوكل إليها من طرف القيادة المركزية، بل تعتبر أن مكانتها يجب أن تتحدد على ضوء ما تجلبه للحزب من منافع؛ - صورة الأمين العام تغيرت، والتنافس انفتح أمام «الجميع» بدون أي انشغال بوجود «تزكية خارجية»، والتأهيل الحقيقي أصبح هو القوة الانتخابية على الأرض (الانتخابات العامة)، و«القرب من الشعب»، والتحكم في الذراع النقابية، أيا كانت أدوات الدعاية والحشد والتعبئة كتقديم ترشيح ما باعتباره معركة ضد الكفر وضد عائلة بذاتها؛ - حصول احتداد في السباق نحو المسؤوليات الحزبية، وتوسع مثير في الوسائل المستعملة في الصراع الداخلي، وتقلص في درجة التمييز بين منافس داخل الحزب ومنافس خارجه، واستباحة التجريح؛ - تراجعت درجة التعايش بين مكونات الحزب، وأصبح تدبير التناقضات الداخلية أكثر صعوبة، وضَعُفَ التضامن الحزبي الداخلي، وغدا الرهان على استرجاعه متوقفا على صياغة اتفاقات جديدة وتسويات جديدة، وهو ما قد يحتاج إلى بعض الوقت؛ - شرع إعلام الحزب في عرض المشاكل والخلافات الداخلية ونقل الاتهامات المتبادلة رغم حدتها (قضية تدخل أياد خارجية لترجيح انتخاب شباط)؛ - ظهر أعيان جدد، يتجاوزون المستوى الذي كان عليه طموح الأعيان القدامى، ويتوقون إلى لعب أدوار سياسية «أصلية» وليست «تبعية»، والمساهمة في قيادة سفينة الحزب وتدبير شؤونه الوطنية؛ - فرضت الظروف الجديدة تدقيق العضوية بالمجلس الوطني، وعدم التسامح حيال الشروط التي تنص عليها قوانين وأنظمة الحزب؛ - طريقة «مكافأة» المناضلين لم تعد تتوقف على أريحية القيادة المركزية؛ - برزت نية العمل مستقبلا ربما على توسيع دائرة «العائلات الاستقلالية» التي يتم توزير أبنائها باسم الحزب؛ - نظام المفتشين لم يعد قادرا لوحده على ضبط الحزب وفق قواعد العمل التاريخية؛ - تراجع نفوذ وهيبة القادة التاريخيين للحزب.