رغم أن كثيرين يعتبرون أن لبعض المناطق في طنجة «عداوة تاريخية» مع «المخزن»، فلم يسبق لسكان هاته المدينة أن عاشوا على وقع حرب طاحنة بين قوات الأمن العمومي وأهالي الأحياء الشعبية كتلك التي عاشتها عدة أحياء في مقاطعة بني مكادة أول أمس الثلاثاء، والتي عادت بعدها جحافل الشرطة والقوات المساعدة وقوات مكافحة الشغب، وهي تجر أذيال الخيبة، بعدما أحكمت «كتائب» من سكان المنطقة سيطرتها على مداخل ومخارج عدة أحياء، بعد معركة تحولت فيها «بني مكادة» إلى ساحة وغى، وواجهت فيها هراوات وحجارة ونيران المحتجين قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي. يقال إن معظم النار يشب من مستصغر الشرر، ولا يبدو أن أحداث «حي أرض الدولة» كما باتت تسمى شذت عن هاته القاعدة، ف»الانتفاضة»، التي شبت نيرانها في مقاطعة بأكملها وهددت بالانتقال إلى أحياء شعبية أخرى، كانت بدايتها بتضامن من طرف السكان مع إحدى السيدات التي قضت المحكمة بإفراغها من منزلها. وحسب رواية سكان المنطقة، فإن زوج السيدة كان شريكا لشقيقتيه في منزل يقع في أحد أزقة حي أرض الدولة، وقد قررت الأختان بيع نصيبهما لسيدة تجاور مسكنهما، لكنهما ووجهتا برفض الأخ، لتستغلا بعد ذلك قضاءه عقوبة حبسية واستصدرتا حكما قضائيا بأحقيتهما في بيع المنزل، غير أن زوجة الأخ رفضت ترك البيت، مما دفع المالكة الجديدة إلى الضغط عليها بكافة الوسائل، كان آخرها استصدار حكم بالإفراغ باستخدام القوة العمومية. وتضيف رواية سكان المنطقة أن أهالي الحي عبروا عن تضامنهم مع السيدة المحكوم عليها بالإفراغ لكون المشترية استخدمت «وسائل غير مشروعة» لإفراغها، من بينها تحريض «بلطجية» على الاعتداء على أبنائها، وتلفيق تهم لهم بمساعدة أمنيين. غير أن النقطة التي أفاضت الكأس كانت التجاؤها إلى القوات العمومية لإفراغ السيدة وزوجها المتواري عن الأنظار منذ خروجه من السجن، بسبب إصابته بالسرطان. وكانت القوات العمومية قد شرعت في عملية إفراغ الأسرة بالقوة يوم الاثنين الأخير، لكن الأمر لم يكن سوى عملية جس نبض استمرت فترة لم تتجاوز ربع ساعة، اتضح خلالها أن سكان المنطقة عازمون على الدفاع عما اعتبروه «حق الأسرة في البقاء في منزلها»، معتبرين أن الحكم القضائي الصادر في حقها «معتمد على وثائق مزورة»، وقد دفع إصرار السكانِ عناصرَ الأمن الوطني والقوات العمومية إلى الانسحاب.غير أن هذه القوات ستعود في اليوم الموالي (الثلاثاء) مرفوقة بعناصر مكافحة الشغب، وهي مدججة، هاته المرة، بقنابل الغاز المسيل للدموع والهراوات، فيما استقبلها السكان بالحجارة والعصي والنيران، لتنطلق وقائع واحدة من أشد المواجهات بين الأمن والمحتجين في تاريخ مدينة طنجة. «دوي» البداية كانت الساعة تشير إلى حوالي الحادية عشرة صباحا عندما بلغت استعدادات سكان عدة أحياء شعبية في مقاطعة بني مكادة، وفي مقدمتهم سكان حي أرض الدولة، ذروتها، بعد تسريب أخبار مفادها أن عناصر الأمن والقوات المساعدة تستعد للقيام بعملية إنزال مكثفة لتنفيذ حكم الإفراغ بالقوة، حتى لو اضطرت إلى الاصطدام بالسكان، فاضطرت أغلب المحلات التجارية إلى إغلاق أبوابها، كما انسحب الأهالي إلى بيوتهم خوفا من أعمال عنف مرتقبة. معلومات سكان المنطقة كانت على درجة كبيرة من الدقة، فلم تمر سوى ساعة حتى بدأت إرهاصات يوم عصيب تبدو في الأفق، عندما قدمت «جحافل» من عناصر الأمن والقوات المساعدة، وقامت أكثر من 20 شاحنة أمن، حسب رواية شهود عيان، بتطويق المنطقة والسماح فقط للقوات العمومية بالوصول إلى المنزل المقصود قصد إفراغه بالقوة، وهي العملية التي كان من المفروض أن تتم في دقائق. وحسب رواية بعض من حضروا العملية، فإن ما دفع السكان إلى الهيجان كانت تصرفات قوات الأمن ضد الأسرة المحكوم عليها بالإفراغ، حيث «اعتدى» أفراد منها على ربة البيت لدرجة أنهم انهالوا عليها بالضرب بواسطة العصي، قبل أن يسحلوها وهم يطؤون بطنها بأحذيتهم، مما تسبب في فقدانها الوعي. السيناريو نفسه تكرر مع باقي أفراد الأسرة الذين اقتيدوا إلى وجهة مجهولة، حسب شهادات أهالي المنطقة. وأمام هاته المشاهد، قال عدد ممن شاركوا في المواجهات إنهم شعروا بالاستفزاز بسبب «القمع والحكرة» التي تتعامل بها عناصر الأمن مع أهالي مقاطعة بني مكادة الشعبية، والتي بدأت منذ التسعينيات وتكررت خلال الحراك السياسي والاجتماعي لحركة 20 فبراير، التي اتخذت من أحياء بني مكادة منطلقا لمسيراتها، ثم استمرت خلال أحداث البناء العشوائي في مناطق العوامة وسيدي إدريس الشبه حضرية، وكانت ذروتها في أحداث «الثلاثاء الأسود»، الذي قرر فيه سكان المنطقة التصدي بالقوة لعناصر الأمن. تفاصيل يوم دامٍ بمجرد ما لاحظ سكان المنطقة الطريقة التي عومل بها أفراد الأسرة المحكوم عليها بالإفراغ، والتي وصفت ب»العنيفة» و»القمعية»، حتى حاولوا بالقوة منع عناصر القوات العمومية من تنفيذ حكم الإفراغ، وظلوا يرددون شعارات تصف «المخزن» ب»القمعي». تطورت الاحتجاجات بسرعة لتنتقل من الشعارات إلى الاشتباك بالأيدي، وما هي إلا دقائق حتى تحولت المنطقة إلى ساحة معركة واجه فيها المحتجون القوات العمومية بوابل من الحجارة التي انهالت عليهم من كل حدب وصوب بعدما أفلح المحتجون في تطويق «المخازنية» كما يوصفون، من عدة جهات. ويبدو أن عناصر القوات العمومية كانت تتوقع مثل هذا السيناريو، فبسرعة حضرت سيارات عناصر مكافحة الشغب، واتخذت المعارك منعطفا جديدا بعدما تحولت إلى اشتباكات مباشرة استخدم فيها المحتجون الهراوات والقضبان الحديدية، فيما حاولت عناصر مكافحة الشغب تفريق المتظاهرين باستخدام قنابل الغاز المسيل للدموع، التي أدت إلى اختناق العشرات من سكان المنطقة، بمن فيهم أولئك الذين لم يشاركوا في الاشتباكات، وخاصة النساء والأطفال، بل إن حالات الاختناق، حسب سكان المنطقة، طالت أولئك الذين ظلوا داخل منازلهم، بسبب كثافة الدخان الناتج عن الاستخدام «المفرط» لقنابل الغاز المسيل للدموع. بسرعة توسع نطاق المعارك ليتجاوز حي أرض الدولة، حيث وصل إلى ساحة تافيلالت وحي مبروكة و»حومة 12» ومحيط سوق بئر الشعيري، ثم توسعت دائرة الاشتباكات بقوة لتصل إلى ساحة بني مكادة، ومنها إلى حي الجيراري، البعيد نسبيا عن بؤرة الحدث. ولمدة 5 ساعات ونصف متواصلة استمرت عمليات الكرّ والفرّ بين المحتجين وعناصر مكافحة الشغب، الذين اصطدموا بمقاومة غير مسبوقة من طرف المحتجين، الذين ما فتئ عددهم يتزايد وأتاهم الدعم البشري و»اللوجيستي»، إن صح أن يساق هذا الوصف على الهراوات والحجارة، من أحياء شعبية أخرى. ومع بداية انقضاء فترة العصر بات واضحا أن عناصر الأمن تتكبد خسائر لم تتعود عليها، حيث أصيب العشرات من عناصرها، وأحرقت 5 من سياراتها على الأقل، واضطرت في الساعة الخامسة عصرا إلى بدء الانسحاب، تاركة المنطقة في حالة من الخراب، فيما بدأ ملثمون وسلفيون وتجار متجولون يحكمون قبضتهم على مداخل ومخارج الأحياء، واضعين حواجز من صناديق القمامة وكراسي الحدائق العمومية. وحسب الحصيلة غير النهائية، فإن المواجهات أفضت إلى جرح أزيد من 25 من عناصر الأمن والقوات المساعدة وأفراد قوات مكافحة الشغب، الذين نالوا نصيب الأسد من الإصابات. ومعظم إصابات «المخازنية» كان سببها الحجارة أو الضرب بواسطة الهراوات، فيما تجاوزت حصيلة المصابين من سكان الحي المائة، منهم المصابون بنزيف في الرأس أو كسور في أنحاء متفرقة من الجسد، إلى جانب إصابات بالرصاص المطاطي، وعدد كبير منهم لم يتمكن من الوصول إلى المستشفى بسبب الطوق المضروب على مداخل ومخارج المنطقة، وقد اكتفى هؤلاء بتلقي الإسعافات الأولية في عين المكان، في حين أصيبت أزيد من 50 امرأة وطفلا، حسب روايات شهود عيان، بالاختناق الناتج عن «الاستخدام المفرط» لقنابل الغاز المسيل للدموع، خاصة في أحياء أرض الدولة ومبروكة وبئر الشعيري. كما تم إلقاء القبض على 10 أشخاص على الأقل، دون أن يصدر أي تأكيد رسمي لرقم الموقوفين. دور «مخز» للمستشفى والمدرسة سيذكر سكان أحياء بني مكادة لمسؤولي مستوصف الحي تصرفهم في أحداث «الثلاثاء الأسود»، وهو التصرف الذي وصفوه ب»المخزي»، وأبدوا حنقا كبيرا على أحد ممرضي المستوصف الذي كان وراء إغلاق أبوابه بعدما أصر على طرد أزيد من 20 سيدة معظمهن كن رفقة أطفالهم في عز الاشتباكات بين عناصر الأمن والمحتجين. وأكد أحد سكان المنطقة ل»المساء» أن زوجته، التي انتقلت إلى المستوصف صباحا لإجراء فحص لابنها المريض، تعرضت للطرد منه قبل أن تجد نفسها وابنها في مواجهة القنابل المسيلة للدموع. ويضيف المتحدث أن زوجته وابنه تعرضا لاختناق كاد يفقدهما حياتهما، مطالبا جميع السكان بتنظيم وقفة احتجاجية أمام المستوصف وأمام مندوبية الصحة احتجاجا على ما وصفه ب»التصرف اللامسؤول» من طرف مسؤولي المستوصف. ولم يكن تصرف إدارتا مدرستي خديجة أم المؤمنين وولادة بنت المستكفي الابتدائيتين، اللتين تقعا بالقرب من بؤرة الحدث، أكثر «حكمة». إذ بمجرد توصلهما بقرار من مندوبية التعليم بإيقاف التدريس، حتى شرع مسؤولوها في إخراج التلاميذ من المدرستين، رغم أن كل التلاميذ أطفال تقل أعمار جلهم عن 12 سنة. وبحكم أن التلاميذ وجدوا أنفسهم أمام مشهد مقتطع من فيلم مرعب، فقد تفرقوا مذعورين بين الأزقة نجاة بأنفسهم. وقد أكدت عدة أمهات أن أطفالهن اختفوا وسط هاته الأحداث، فيما تؤكد أخريات أن أبناءهن تعرضوا للضرب على يد عناصر الأمن. مشاهد من بؤرة الأحداث مشهد لا يشبه ما سبقه ذاك الذي صارت عليه أحياء بني مكادة بعد انسحاب عناصر الأمن والقوات المساعدة، والذي وقفت عليه «المساء». إذ بمجرد الوصول إلى ساحة بني مكادة يُستقبل الزائر بركام من الحجارة التي استخدمت في المواجهات، وبالوصول إلى سوق بئر الشعيري يلاحظ أن أغلب التجار فضلوا عدم المغامرة بفتح محلاتهم، رغم انتهاء المعارك، حيث إن سكان المنطقة شبه متأكدين بأن عناصر الأمن ستعود في أي لحظة وبقوة أكبر لتستعيد سيطرتها على أحياء بني مكادة. وعند الوصول إلى الشارع المؤدي إلى بؤرة الأحداث، في ساحة تافيلالت وحي أرض الدولة، تبدأ ملامح منطقة منكوبة ومحاصرة في الظهور، فعلى امتداد الشارع تنتشر أكوام الحجارة والأخشاب وصناديق القمامة المشتعلة، قاطعة الطريق على السيارات، بأسلوب شبيه ب»اللجان الشعبية» في مصر وليبيا خلال الثورة، حيث يتحكم ملثمون وبعض من حملة الهراوات على طول الشارع. وعند الوصول إلى ساحة تافيلات يظهر بأن الحذر يبلغ مداه، فالمنطقة محاطة بكراسي الساحات العمومية المحترقة، وأمامها يصطف شبان مسلحون بالحصى يراقبون الوضع، وهناك يمنع التصوير بشكل كلي، حيث إن أي شخص يستخدم كاميرا الهاتف أو آلة تصوير رقمية لالتقاط صورة لما يجري يتعرض لتحذير شديد اللهجة «اجْمَعْ دِيكْ الكاميرا احْسْن ما ياخْدُوهَا لك». وبالولوج إلى الحي الذي شهد انطلاقة المعارك، أي حي «أرض الدولة»، يتضح أن مزيجا من الرعب والحنق يلف نفسية سكان المنطقة، الذين خرجوا من منازلهم بعد انسحاب قوات الأمن، ووقفوا على أبواب منازلهم منتظرين عودة عناصر مكافحة الشغب ل»الانتقام»، وما هي إلا دقائق حتى سمع صراخ أحدهم، محذرا من قدوم العشرات من سيارات الأمن. هذا التحذير كان كفيلا بجعل سكان المنطقة يركضون في كل اتجاه، راسمين صورة مماثلة لتلك التي تعودوا على مشاهدتها في نشرات الأخبار التي تتحدث عن الوضع السوري. ورغم أن الأمر لم يكن يعدو أن يكون مجرد إشاعة أطلقها أحد الأطفال، فإن الذعر قلب كيان الحي بأكمله. عند اقترابنا من المنزل الذي كان شرارة هذا الصراع، بدا سكان المنطقة يحيطون به من كل جانب، بهدف الحماية ربما، أو بدافع الفضول فقط، ويقول بعض السكان إن مصير أفراد الأسرة لا يزال مجهولا. وكما هو الحال في احتجاجات سابقة، فإن العشرات حاولوا استغلال الوضع للقيام بأعمال تخريب ونهب، حيث حاولوا اقتحام «قباضة بني مكادة» ووكالة بنكية، اللتين تعرضت واجهتهما للأضرار، فيما حاول آخرون اقتحام محلات تجارية، لكن سكان المنطقة تمكنوا من التصدي لهم، حسب رواية شهود عيان. صمت رسمي ذكرت مصادر مطلعة أن وزير الداخلية امحند العنصر، والمدير العام للإدارة العامة للدراسات والمستندات (لادجيد) محمد ياسين المنصوري، وكذا بوشعيب الرميل، المدير العام للأمن الوطني، وصلوا إلى طنجة في حوالي الساعة السادسة من مساء أول أمس للاطلاع على الوضع. وذكرت المصادر ذاتها أن أوامر صارمة أعطيت لمسؤولي الداخلية والأمن في طنجة بعدم إعطاء أي تصريحات حول الموضوع لغير وسائل الإعلام الرسمية، وهذا ما يفسر اختيار الكاتب العام لولاية طنجة مصطفى الغنوشي ومسؤولين أمنيين في ولاية أمن طنجة إقفال هواتفهم أو عدم الرد على الاتصالات منذ بدء الاشتباكات. وفي الميدان، ساد هدوء حذر أحياء مقاطعة بني مكادة صباح الأربعاء، في حين ينتظر السكان عودة محتملة في أي وقت لعناصر الأمن، وهو ما قد يؤدي إلى تجدد المواجهات، لذا فضلت محلات عديدة الاستمرار في إقفال أبوابها.