في الدخول السياسي الجديد، وعلى عهد حكومة المغرب الجديدة/القديمة، تتبادر إلى الذهن العشرات من الأسئلة المتصلة بمعضلة الفساد التي يدعي حزب العدالة والتنمية أنها الموضوع الأساس في برنامجه الحكومي، ولربما في وصوله إلى السلطة. من يكافح من، هل العدالة والتنمية هي التي تكافح الفساد أم العكس؟ ومن سينتصر على من، هل الفساد هو الذي سينتصر في النهاية على حكومة بنكيران أم العكس؟ السياسة، في كل الأجواء والمناخات والمفاهيم، تظل كلمة ذات إشعاع براق ومخيف في نفس الآن؛ فهي الوسيلة التي يصل بواسطتها ممارسوها إما إلى الأعلى أو إلى الأسفل، إما إلى السلطة والحكم أو إلى الحضيض... وطالما أنها بهذا الحجم من الثقل والخطورة، فهي تسكن عقول العقلاء والبلداء، تسكن الاهتمامات والتطلعات في كل شبر من الأرض. وخارج مفاهيمها الواسعة والمبهرة، تبقى السياسة على صلة وثيقة بالتسلط والاستبداد والقمع وفرض الإرادة على العدل والمساواة والحقوق؛ فهي القدرة على الفعل، سلبا وإيجابيا، وهي القدرة على الريادة والسيادة، وهي الغاية التي تبرر الوسيلة، وهي نضالات ومراوغات وحروب وصراعات ودسائس، وهي المحصلة التفاعلية لكل التيارات المذهبية والإيديولوجية، وبالتالي هي فن الممكن في كل زمان ومكان. يعني ذلك أن السياسية تمتد، في كل الأزمنة وفي مختلف الأمكنة، إلى العقول والمصالح والإرادات؛ لكن ذلك لا يعني البتة أن السياسة تهدف دائما إلى تحقيق المصالح العامة، فقد تكون المصالح الخاصة هي ما يتحكم في سلوكيات وتصرفات الفاعلين السياسيين الذين يحركون الأدوات السياسية، فكثيرا ما يتم، عند بعض السياسيين، الركوب على المصالح العامة لتحقيق المصالح الخاصة، لأن النخبة السياسية تشكل باستمرار موقع القرار في دواليب الدولة، كما في الأحزاب والمنظمات والمؤسسات المنتخبة. وغالبا ما تكون هذه النخبة في الدول المتخلفة والدول المستضعفة هي منبع الفساد ومرجعيته الأساسية، لما تملكه من حق القرار والمبادرة. وفي نظر العديد من المحللين، فإن السياسة كانت باستمرار هي منبع الأزمة التي ضربت/تضرب القطاعات المالية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية، في بلادنا، وفي العديد من بلدان العالم المتخلف؛ إنها أزمة تعود بالأساس إلى الضعف الذي تظهره الفاعلية السياسية أمام الإغراءات المالية وإغراءات السلطة والامتيازات التي تمنحها أنظمة هذه الدول للفاعلين السياسيين، من أجل لعب الدور الذي عليهم أن يلعبوه في الزمان والمكان. إن ما حدث خلال العقود الأخيرة في جهات عديدة من العالم العربي، من انهيارات مالية وسياسية وعقائدية وأخلاقية، يؤكد «مسؤوليات» النخب السياسية الجسيمة في تكريس الفساد والتخلف؛ فالقدافي وصالح ومبارك والأسد وبن علي نماذج تنتمي إلى هذه النخب، احترفت السياسة وجعلت منها وسيلة للاغتناء اللامشروع والتسلط ونشر ثقافة الفساد بين الأجهزة والمؤسسات، حيث تحول عندها الفعل السياسي إلى مسٍّ من الشيطان، وهو ما جعل هذا الفعل يتجه بها إلى التكيف، بشكل خادع وبراق وفارغ، مع التحولات العالمية ومتطلباتها السياسية والاقتصادية، مما أدى بها إلى السقوط والانهيار في اللحظات الأخيرة من حياتها. السياسة، حسب المحللين والخبراء والسياسيين أنفسهم، لا تروم الأخلاق إلا التي تخدم منها الحكم والسلطة، فهي فن يمكن البقاء السياسي رائدا في السياسة، إذ إن الغاية تبرر الوسيلة (كما جاء عند «ميكافيلي»)، فهي عكس «العدل» الذي تشكل الأخلاق كنهه وعموده الفقري وشرطا من شروطه الأساسية، وهو ما يجعله في الأنظمة الديمقراطية مستقلا، مفصولا عن السياسة والسلطة. معنى ذلك أن السياسة لا تهدف دائما إلى المصلحة العامة، حتى وإن كان روادها من الملتحين، بل قد تكون هذه المصلحة هي ما يدعو السياسيين إلى استغلال مواهبهم ومراكزهم وذكائهم لتحقيق مصالحهم، فكثيرا ما تم، في المغرب، الركوب على النضال السياسي أو على القيم الدينية أو على العقائد السياسية من أجل الوصول إلى غايات هي أبعد ما تكون عن المصلحة العامة، بل تحولت عند العديد منهم إلى النقيض الكامل لهذه المصلحة. ولنا في التاريخ المغربي المعاصر/ الحديث ما يكفي من الأمثلة الدالة على ذلك. ولأن السياسة في أصولها الفلسفية والعلمية هي تنظيم للحياة العامة، فقد أصبحت المشاركة بأحزابها ومنظماتها وتجمعاتها حقا من حقوق المواطنة؛ فهي حق المواطن في التفاعل مع الفكر السياسي للانخراط في عملية صنع القرارات السياسية ومراقبتها بالتقويم والضبط عقب صدورها من جانب الحاكم، وبالتالي فهي ربط المواطن العادي بالشؤون العامة لوطن هو دولته. إن السياسة حقل مفتوح للجميع، للشباب والكهول والشيوخ، للنساء والرجال، للفلاحين والعمال والأساتذة والمعلمين والموظفين، لسكان القرى والمدن، شريطة أن تكون ذات مصداقية، تؤمن حقا بالمواطنة والتغيير والإصلاح، فهي ليست علما تخصصيا قد يستعصي على غير المتخصصين، لذلك فهي حق مشاع، يفرضه الوعي بقيم المواطنة والوعي بحقوقها. فلماذا، إذن، ترفض غالبية المواطنين المغاربة الانخراط في العمل السياسي؟ ولماذا تبتعد عن المشاركة؟ هل يعود ذلك إلى انخفاض الوعي السياسي لدى المواطنين أم إلى صدماتهم وخيبات أملهم المتكررة؟ هل يعود ذلك إلى نقص الخبرات وغياب القيادات السياسية المسؤولة والقادرة على الاستقطاب والتأثير أم إلى ضعف التنظيمات السياسية ونخبها الغائبة عن هموم الجماهير وتطلعاتها... أم إلى ربط السياسة بالفساد وبنتائجه الحارقة؟ ما الذي يفسر نفور المواطنين من هذه المشاركة؟ أهو غياب الإطار السياسي الملتزم الذي يستجيب لمتطلبات المرحلة أم إن أخلاق وثقافة نخب المرحلة السياسية الراهنة ومخاضاتها هي التي تدفع بالجماهير خارج «الملاعب» السياسية؟ ثم ما هي مسؤولية «أصحاب» التفريخ والاستنساخ التي تعرضت لها «المؤسسة الحزبية/السياسية» على يد «المخزن» وأدواته خلال العقود الأربعة الماضية في هذا النفور الذي أخذ يستهدف السياسة، كفكر وممارسة، بقوة في الحياة المغربية؟... وما هي مسؤولية منظومة الفساد السياسي في ابتعاد المواطنين عن السياسة، وفي تلطيخ مفاهيمها بالفساد؟ وما هو دور الحملات القمعية الشرسة التي قامت بها السلطات ضد المناضلين السياسيين في المغرب الحديث، والتي أدت إلى آلاف الضحايا، وبالتالي إلى نفور الجماهير الواسعة من السياسة وأفكارها ونضالاتها ومؤسساتها المختلفة؟ محمد أديب السلاوي