في الأسبوع الماضي، كتبت أناشد السياسيين التخلص من نزعات الزعامة والأنانية، وأنادي التيارات السياسية «المدنية» بضم صفوفها والاندماج أو التحالف في تنظيمات كبرى، يضم كل منها الأحزاب والقوى التي تتقارب أهدافها، بحيث يكون لدينا في النهاية تجمع يضم الأحزاب الوسطية، وآخر يضم أحزاب اليسار، وثالث يضم الأحزاب المحافظة، إضافة إلى التيار الديني السياسي الذي لا يزال حتى الآن الأحكم تنظيما والأكثر تأثيرا رغم التباين بين مكوناته.. يبني كثيرون في التيار المدني معركتهم مع التيار الديني على مقاومة «أخونة الدولة»، ويسوقون تدليلا على ذلك في المقام الأول الهجمات على حرية التعبير وحرية الإعلام بصفة خاصة.. من ذلك إغلاق القنوات التلفزيونية، ومصادرة الصحف، والقضايا المرفوعة ضد الصحفيين والإعلاميين، وتعيين رؤساء تحرير ورؤساء مجالس إدارات جدد في دور الصحف، وإعادة تشكيل المجلس الأعلى للصحافة.. هناك أيضا الخشية من الرقابة على الفنون وتوجيهها، التي أذكاها تحريض شيوخ الفتنة على بعض الفنانين وإحالة بعضهم الآخر إلى المحاكم.. وهناك، وربما هذا هو الأهم، السيطرة على مفاصل الدولة، بتعيين أقطاب الإخوان في مناصب حاكمة ابتداء بالوزارات ومرورا بالفريق الرئاسي، حتى وصلنا إلى شركة مثل «المقاولون العرب» التي استبعد من المرشحين لرئاستها عشرات من قدامى العاملين فيها، ليتولى المنصب أستاذ هندسة ربما كان أرفع مؤهلاته أنه عضو بارز في الجماعة.. مع ذلك كله، يمكن القول إن «الأخونة» تجري حتى الآن في حدود.. نحن في النهاية أمام تيار حصد أغلبية واضحة في الانتخابات البرلمانية وفاز بكرسي الرئاسة.. صحيح أن الكرسي جاءه بفارق ضئيل وعلى اعتبار أنه يمثل الثورة بكل أطيافها ولا يمثل نفسه وحده، إلا أنه كان من حقه إذا أراد أن يشكل الحكومة.. رغم ذلك فأي محام عن الإخوان يمكنه أن يدفع بأن الحكومة ليست إخوانية، وأن وزارات السيادة فيها، باستثناء الإعلام، راحت إلى شخصيات مستقلة أبرزها قطب حركة استقلال القضاء أحمد مكي، وزير العدل.. أما المنصب الأهم في الدولة بعد منصب الرئيس فقد تولاه قطب آخر من الحركة ذاتها، مستقل هو الآخر، المستشار محمود مكي.. وذهب منصب حساس كذلك، هو رئاسة الجهاز المركزي للمحاسبات، إلى قطب الحركة الثالث المستقل المستشار هشام جنينة.. فإذا جئنا بعد ذلك إلى الفريق الرئاسي، فسوف نجد أنه رغم قصوره -مقارنة بما تعهد به الرئيس في «إعلان فيرمونت»- فإنه ليس إخوانيا خالصا، وكان من المقدر له أن يضم عناصر أكثر تنوعا لو لم يحجم عدد من شباب الثورة ومن الشخصيات اليسارية البارزة عن المشاركة.. تخوف القوى المدنية من أخونة الإعلام والثقافة والفنون هو الآخر قد يكون مبالغا فيه رغم كل القرارات المقلقة التي صدرت والتي لم يكن لها داع في هذا التوقيت بالذات.. وإذا أردنا تفنيد هذا التخوف لقلنا، مثلا، إن قلة قليلة من رؤساء مجالس إدارات ورؤساء تحرير الصحف الذين تم تعيينهم مؤخرا تنتمي إلى جماعة الإخوان، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أعضاء المجلس الأعلى للصحافة (مأساة تشكيله الحقيقية هي ضآلة القامات وعدم لياقتها للمهمة).. ورغم استهجاننا للدعاوى المرفوعة ضد الصحفيين والإعلاميين فإن بعض ما نشروه في صحفهم أو أذاعوه في قنواتهم يصعب الدفاع عنه.. أما تشويه سمعة الفنانين وإحالتهم على المحاكم فليس شيئا جديدا، ويمكنني أن أضرب عشرات الأمثلة مما حدث من ملاحقات وإساءات إليهم أثناء العهد البائد.. هذا أمر يعكس الشرخ الثقافي في المجتمع في ما يتعلق بالنظرة إلى الفن. وفي كل الأحوال، فلا الإخوان ولا غيرهم قادرون في النهاية على حصار الإعلام والثقافة في الوقت الذي يحميهما فيه القطاع الأكبر من الجمهور العام وتقودهما تاريخيا القوى الليبرالية والقومية واليسارية، ولا هم قادرون على تغيير طبيعة المجتمع بخلطته الفريدة التي قاومت قرونا كل محاولات الدس والتطويع والهيمنة والانغلاق.. الخوف، إذن، مبالغ فيه.. لكن لا بأس.. بعض المؤشرات لا تريح، والحذر مطلوب، خاصة في ما يتعلق بوضع الدستور الجديد الذي ظلت جمعيته التأسيسية على تشكيلها المنحاز، واستنهاض كل القوى لمواجهة هجمات الاستحواذ المحتملة من التيار الديني السياسي يجب أن يتصدر واجبات القوى «المدنية».. سواء كان هذا هو الدافع الأهم أو لم يكن للجهود التي رأيناها في الأسبوع الماضي للاندماج أو التحالف بين هذه القوى، فلا بد لنا من أن نبارك هذا الاتجاه.. تفيد الأخبار بقيام تحالف باسم «الجبهة الوطنية المصرية» يضم «التيار الشعبي» وأحزاب «الدستور» و«المصري الديمقراطي» والأحزاب الاشتراكية والقومية، يتزعمه الدكتور البرادعي وحمدين صباحي، وينسق له الدكتور محمد غنيم.. وهناك تحالف «المؤتمر المصري» الذي يندمج فيه 15 حزبا، بينها «الجبهة الديمقراطية» و«المصريون الأحرار» و«غد الثورة»، وهو يمثل التيار الليبرالي، ويقوده عمرو موسى.. ومن المقرر أن ينشأ تحالف ثالث يمثل قوى الوسط ذات النكهة الإسلامية، مثل حزب «مصر القوية»، الذي سيعلن د. عبد المنعم أبو الفتوح قيامه خلال أسابيع ويعلن بعده الاندماج مع «التيار المصري»، وربما التحالف مع حزبي «الوسط» و«الحضارة» وغيرهما.. عندما تعلن هذه التحالفات رسميا، خلال هذا الشهر على الأرجح، تكون خريطة المشهد السياسي قد اتضحت كثيرا.. يبقى بعد ذلك مدى النجاح الذي سيحققه كل تحالف في التنسيق بين مكوناته، وفي تنظيم صفوفه، وفي توفير الموارد المالية اللازمة، وفي الوصول إلى الجماهير، وفي الاستعداد لانتخابات البرلمان والمحليات.. كل هذه تحديات ليست هينة.. لكني أظن أن التحدي الأكبر هو مواجهة التقدير المتزايد لأداء الرئيس محمد مرسي.. دعونا نعترف بأنه حتى ولو كانت الثقة منعدمة في استطلاعات الرأي التي تجرى في مصر، فالملاحظ، على نحو أو آخر، أن الدكتور مرسي يكتسب شعبية في الشارع المصري تنمو يوما بعد يوم.. والأرجح أن إقصاءه للجيش عن الحياة السياسية بمشرط جراح بارع كان علامة فارقة.. وهو لم يكتف بذلك، بل أتبعه بنشاط متدفق على جبهات عديدة، خاصة لاستعادة مكانة مصر الإقليمية والدولية.. وفى الجبهة الداخلية، ناور عدة مناورات، لعل آخرها كان ترجيحه ميزان أهل الفن في كفته، بعد أن كانوا قد تربصوا به؛ وهناك جهود واضحة لإقرار الأمن وإقرار العدالة، وكذلك لجذب الاستثمارات الأجنبية (رغم عدم إقرار سياسة اقتصادية واضحة تستهدف العدالة الاجتماعية).. ثم إن الرئيس ربما يكون قد نجح في تجريد القوى «المدنية» من سلاحها الأساسي عندما أكد في أكثر من مناسبة أن مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة.. التحالفات السياسية الجديدة قد تكون أمامها آفاق واسعة لمبارزة «الحرية والعدالة» في معركة الانتخابات البرلمانية القادمة، اعتمادا على اعتقادها أن المزاج المصري العام ليس إخوانيا، لكن من المؤكد في الوقت ذاته أن في طريقها عوائق تزداد مع الانتخابات الرئاسية، أهمها رئيس الجمهورية ذاته.. التيار الديني السياسي سيتقدم إلى المعركة خلف مرسي، فمن يا ترى ذلك الذي سيحمل الراية ويتقدم ليقود التيار المدني، ويصمد في قيادته، ويستطيع أن ينتصر به على مرسى في النهاية؟..