اليوم (يقصد الخميس) تنتهي الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة المصرية، بعد أن تكون أغلبية الخمسين مليونا من المصريين، الذين يحق لهم التصويت، قد أدلت بأصواتها. هذا حدث غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث، وسيترك أثرا عميقا على مستقبل مصر، مستقبل العرب جميعا، وعلى معنى السياسة ودلالاتها في هذا المشرق العربي الإسلامي. في مصر، يعيش ثلث العرب، وبالرغم من تراجع دور مصر وتأثيرها العربي خلال العقود القليلة الماضية، فإن هناك شعورا عربيا طاغيا بأن مصير حركة الثورة العربية يتعلق، إلى حد كبير، بمصير مسيرة التغيير السياسي في مصر. ما يجب تذكره، على أية حال، أن انتخاب الرئيس المصري، سواء تم ذلك من الجولة الأولى أو تطلب جولةً ثانيةً، تَقرَّر أن تُجرى في منتصف يونيو المقبل، لا يعني اكتمال عملية الانتقال إلى حكم مدني، حر، وديمقراطي. حجم مصر وطبيعة الصراع المحتدم على مستقبلها يجعلان المرحلة الانتقالية المصرية أكثر تعقيدا، ويتركان عقبات متتالية في الطريق. ولكن الانتخابات الرئاسية تظل ثاني أهم محطة على هذا الطريق، بعد الانتخابات التشريعية التي أجريت في مطلع هذا العام. وبالرغم من أن الأغلبية العظمى من القوى السياسية، وحتى من مرشحي الرئاسة، تتفق على ضرورة تغيير بنية الحكم والدولة ووضع نهاية للنظام الرئاسي، الذي استندت إليه الجمهورية المصرية منذ ولادتها قبل أكثر من نصف قرن، فإن الصراع على موقع الرئاسة وبرامج المرشحين لا توحي بانحدار أو تراجع في تصور المصريين لرئاسة جمهوريتهم. هناك ثلاثة عشر مرشحا يتنافسون على الفوز بمقعد الرئيس، ولكن الانطباع العام أن عدد المرشحين الجادين بينهم لا يتجاوز الخمسة: محمد مرسي، مرشح حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين؛ عبد المنعم أبو الفتوح، المرشح الإسلامي المستقل والقيادي الإخواني السابق؛ عمرو موسى، وزير الخارجية المصرية الأسبق والأمين العام السابق للجامعة العربية؛ أحمد شفيق، قائد سلاح الجو الأسبق والوزير وآخر رؤساء الوزراء في عهد مبارك؛ وحمدين صباحي، السياسي القومي-الناصري والنائب السابق في مجلس الشعب. كل المؤشرات تدل على أن المرشحين الآخرين لم يستطيعوا تحقيق تقدم ما، وأن حجم التصويت لأي منهم سيكون ضئيلا، بالرغم من وجود شخصيات بارزة ومؤهلة بينهم. على نحو، يمكن تقسيم المرشحين الرئيسيين الخمسة إلى معسكرين: الأول، ويضم الثلاثة غير الإسلاميين: عمرو موسى، أحمد شفيق، وحمدين صباحي. هناك، بالطبع، من يرفض وضع هؤلاء معا، على اعتبار أن موسى وشفيق ينتميان إلى النظام السابق، بينما اعتبر صباحي دائما من معارضي نظام مبارك وينظر إليه اليوم باعتباره أحد مرشحي الثورة. ما يستدعي وضع الثلاثة معا ليس الموقف من الثورة بالضرورة، بل طبيعة الفئات التصويتية التي يستهدفونها وطبيعة الجدل الدائر حول مستقبل البلاد السياسي، وموقف كل منهم في هذا الجدل. ويضم المعسكر الثاني المرشحين الإسلاميين، مرسي وأبو الفتوح، بالرغم من أن الأخير يحرص على تقديم نفسه باعتباره مرشحا وطنيا وليس إسلاميا وحسب. يستهدف معسكر المرشحين غير الإسلاميين فئات تصويتية متنوعة. يعمل كل من عمرو موسى وشفيق على إقناع أنصار النظام السابق بأنه المرشح الأفضل لإعادة الاستقرار واسترداد هيبة الدولة وحماية حقوقهم وامتيازاتهم؛ كما يسعى كل منهم إلى كسب تأييد الشارع المصري غير المسيس، ولاسيما أولئك الذين ينتابهم القلق على وضع البلاد الاقتصادي والمعيشي؛ إضافة إلى الكتلة التي تخشى سيطرة الإسلاميين على نظام الحكم والدولة. حمدين صباحي، من جهة أخرى، يرى نفسه مرشحا ثوريا، وإلى جانب محاولته استلهام ذكرى عبد الناصر وإقناع الشارع المصري بأنه الأحرص على النهوض بالبلاد واستعادة موقعها ودورها، فإن كتلته التصويتية الأكبر ستكون بلا شك تلك المعارضة للإسلاميين، بدون أن يكون لديها الاستعداد الأخلاقي للتصويت لشخصيات من النظام السابق، مثل موسى وشفيق. وفي الجانب الآخر من المنافسة، يبذل كل من مرسي وأبو الفتوح جهودا هائلة لحسم الكتلة التصويتية الإسلامية لصالحه. تستند حملة مرسي الانتخابية، بالرغم من كونه آخر المرشحين وفودا إلى ساحة التنافس، إلى الآلة الانتخابية الإخوانية الهائلة، واسعة الانتشار، المنظمة، والخبيرة إلى حد ملموس. والواضح أن الصوت الإخواني، بما في ذلك أعضاء الجماعة ومن هم حولهم، سيقف بصلابة خلف مرسي، بعد أن تراجعت حظوظ أبو الفتوح في كسب قطاع معتبر من الصوت الإخواني، إضافة إلى قطاعات أخرى من المصريين، تتعاطف مع الإخوان أو ترغب في رؤية رئيس إسلامي التوجه. أما أبو الفتوح فيستهدف فئات متعددة، آملا أن ينظر إليه كمرشح للتيار الوطني الوسطي بكل توجهاته أو حتى أولئك الذين لا يحملون توجها سياسيا إيديولوجيا ما. المرشحان الإسلاميان هما بلا شك الأكثر إثارة ومدعاة للجدل. أولا، لأن مرسي وأبو الفتوح باتا المرشحين الأقرب إلى تحقيق الفوز في الجولة الأولى، ليس فوزا نهائيا بالضرورة، ولكن الفوز الذي يؤهلهما لجولة الحسم التالية. أهم هذه المؤشرات كانت نتائج تصويت المصريين في الخارج، التي وضعت مرسي على رأس القائمة، يليه أبو الفتوح. وبالنظر إلى أن مئات الألوف من المغتربين أدلوا بأصواتهم، وأن الجاليتين المصريتين في الكويت والسعودية تعتبران الأقرب إلى تكوين المجتمع المصري، فإن أصوات الخارج ذات دلالة بالغة الأهمية، ولا بد من أخذها على محمل الجدية، وليس كما يقول بعض الإعلاميين والسياسيين المصريين من أنها غير ذات دلالة؛ وثانيا، لأن ترشح أبو الفتوح ومرسي قد أظهر حجم التباينات في الساحة السياسية الإسلامية المصرية (أظهر ولم يؤسس). تقف الجماعة الإسلامية السياسية الأم، الإخوان المسلمون، خلف مرسي، ومعها قطاع ملموس من القوى السلفية، الجديدة منها، مثل حزب الأصالة وأغلب سلفيي الهيئة الشرعية للإصلاح، والتقليدية منها، مثل أنصار السنة والجمعية الشرعية؛ إضافة إلى قطاع كبير من العلماء الأزهريين؛ ويقف خلف أبو الفتوح حزبا الوسط والبناء والتنمية (الحزب السياسي للجماعة الإسلامية) الصغيران، حزب النور، أكبر الأحزاب السلفية، وعدد من شيوخ التيار السلفي البارزين، إضافة إلى مجموعات النشطين الشبان التي تركت جماعة الإخوان المسلمين، أو أخرجت منها، خلال الشهور التالية لانتصار الثورة المصرية. كان انقسام التيار السلفي حول المرشحين الإسلاميين الرئيسيين هو ما صنع عناوين الصحف؛ ولكن الحقيقة أن انقسام الساحة الإسلامية في انتخابات الرئاسة أوسع بكثير من التيار السلفي. ولأن هذه هي أول انتخابات رئاسية مصرية حرة، وأنها تأتي في ظل صعود إسلامي سياسي ملموس في دول الثورات العربية، وينظر إليها كمحدد رئيس لمستقبل الدولة العربية الأكبر، فقد شغلت برامج المرشحين الإسلاميين، واللغة التي استخدماها في حملتيهما، قطاعا واسعا من مراقبي الشأن المصري السياسي. إلى أي حد، مثلا، يخطط مرسي وأبو الفتوح لأسلمة مصر، وهل يمكن أن تتحول حاجة كل منهما الملحة إلى أصوات السلفيين وأنصارهما إلى عامل ضغط على أسلوب وتوجهات الرئيس المقبل لمصر؟ أي منهما الأكثر إسلامية من الآخر، وأي منهما المرشح لدفع مصر على طريق «تطبيق الشريعة»؟ وفي النهاية، ومهما كانت برامج مرسي وأبو الفتوح، ما الذي يعنيه هذا الصعود الإسلامي السياسي لمستقبل مصر وعلاقاتها بالعالم من حولها؟ كنت لاحظت من قبل، في دراستي المنشورة للتيار الإسلامي السياسي بعنوان «الإسلاميون»، أن قوى هذا التيار لم تعد، منذ منتصف السبعينيات، تنضوي في إطار مرجعي واحد. في مرحلة ما قبل السبعينيات، تمثل التيار الإسلامي السياسي في عدد محدود من القوى: الإخوان المسلمون بفروعهم المختلفة في المجال العربي؛ جماعة إسلاميين في شبه القارة الهندية وجوارها؛ إضافة إلى حزب التحرير، محدود النفوذ والانتشار. القوى الإسلامية السياسية الأخرى أصغر بكثير، وتقتصر في تأثيرها على بلد إسلامي واحد، مثل ماليزيا وتركيا، وتفتقر إلى الاستمرارية. منذ السبعينيات، ستشهد الساحة الإسلامية السياسية تعددية غير مسبوقة في عدد القوى ومرجعياتها الفكرية واستراتيجيات عملها، من الإسلام السياسي الديمقراطي إلى الإسلام السياسي المسلح. وما إن بدأت المؤثرات السلفية في الانتشار من العربية السعودية إلى كافة أرجاء المجال العربي، وما خلفه، حتى أضيفت روافد جديدة للخارطة الإسلامية السياسية. هذا لا يعني أن هناك تكافؤا في حجم وتأثير وانتشار هذه القوى المختلفة؛ ولكن حتى الجماعات أو التنظيمات الأصغر لا تعدم التأثير، سيما في مناخ سياسي تعددي، ديمقراطي وحر، عندما تصبح للأصوات حساباتها. وهذا بالتأكيد ما جعل مرشحين بحجم محمد مرسي وعبد المنعم أبو الفتوح يسعيان إلى كل صوت ممكن من القوى السياسية المختلفة، والإسلامية منها على وجه الخصوص. الملاحظة الثانية، بالغة الأهمية في هذا المشهد، أن من مضيعة الوقت البحث عن تباينات الخطاب الإسلامي ومدلولات اللغة في حملة انتخابية مثل تلك التي شهدتها مصر في الأشهر والأسابيع القليلة الماضية. ما عاشته مصر في هذه الحملة الانتخابية كان السياسة في أبلغ تجلياتها؛ وفي حمى التدافع، ليس من الغريب أن يستخدم السياسيون كل حنكة متوفرة وكل حيلة ممكنة لتحقيق الانتصار، الانتصار السياسي. لا مرسي ولا أبو الفتوح سيقودان دولة الشريعة بمعناها الإيراني أو الطالباني، أو حتى السوداني. هذا زمن «ما بعد تطبيق الشريعة»، وصعود الإسلاميين إلى موقع الحكم لا يعني بالضرورة سيطرة إيديولوجيا الستينيات والسبعينيات على توجهات الحكم، التشريعية أو السياسية. ما يحسم هذه القضية، أو ما حسمها، ليس الجدل الإيديولوجي بين الإسلاميين وقواهم المختلفة، ولكن الواقع. في مواجهة الواقع، وفي التعامل معه، تغير الإسلاميون كثيرا خلال العقدين الماضيين، ولن يتوقفوا عن التغيير في المستقبل. ولن يقتصر التغيير على التيار العام للإسلام السياسي في المجال العربي، تيار الإخوان المسلمين، بل سيطال كل القوى والجماعات الأخرى، بما في ذلك أعتى السلفيات، تلك التي لجأت من قبل إلى السلاح أو التي اختارت الهامش السياسي؛ وليس ثمة من حدود لهذا التغيير.