يحيلنا فشل البرنامج الاستعجالي على فكرتين أساسيتين: أولا فشل المقاربة التقنوية والمحاسباتية في بلورة حل جذري لقطاع يعتمد على العنصر البشري، بما هو حرية وإبداع وتضحية، وهي خصائص حيوية في الطبيعة البشرية لا تتحكم فيها المذكرات والقرارات الوزارية، المبنية على حسابات تقنوقراط أجانب لم تطأ أقدامهم الفصول الدراسية وإدارات المؤسسات التعليمية العمومية قط، تقنوقراط لا تتجاوز أفكارهم عن المغرب عتبة الرؤية الانثروبولوجية.. ثانيا: ضرورة محاسبة ومساءلة فئة من «الخبراء»، معروفةٌ أسماؤهم، شاركوا، كل حسب قدرته، على «شهادة الزور» في تكريس أزمة القطاع، عندما نصّبوا أنفسَهم «حواريين» ليسوعيي «مكاتب الخبرات الأجنبية»، فأقصَوا وهمّشوا كل العقول الحرة التي انتقدت ما يجري، ثم لمشاركتهم، بطريقة أقرب إلى «كومبرادورية الحروب»، في نهب أكثر من ثلاثة آلاف مليار سنتيم، تبخرت في ثلاث سنوات، من خلال نهج أسلوب «المخاتلة» في التخطيط للصفقات المبرمجة والدفاع «الغوغائي» عن برامج مستورَدة دون تمحيص، ناهيك عن مسؤوليتهم المباشرة في تسميم العلاقات المهنية داخل القطاع، بين مختلف مكونات الجسم التربوي وإدخاله في فتنة «فئوية» مدروسة، تنتهي دوما ب»تعليق» المدرّس وتحميله مسؤولية كل شيء.. ولعل الرقم القياسي «العالمي» الذي حققته وزارة التربية الوطنية في عدد المذكرات التي أصدرتها إبان البرنامج الاستعجالي، والتي تعد بالمئات، خيرُ دليل على تورط هؤلاء في المآلات التي انتهى إليها البرنامج.. إذا كان الوزيران الحاليان قد أنصتا إلى الخطاب الملكي الأخير جيدا، والذي تحدّث عن «التحلي بالنزاهة الفكرية» وعن ضرورة «الانكباب الجادّ على هذه المنظومة»، فإنهما سيستنتجان، بالبداهة، أن النزاهة الفكرية تقتضي الإنصات إلى الجميع وعدم السقوط في مطب الانفعالات الظرفية ضد محتلف مكونات الجسم التربوي، وتعني، أيضا، الإنصات إلى المثقفين و المفكرين، والذين تم تهميشهم تماما إبان البرنامج الإصلاحي السابق.. وعندما نتكلم عن المثقفين والمفكرين، فإننا نتكلم عن العقول الحرة والنقدية والوطنية، والتي لا تنقص هذا البلد.. فإصلاح قطاع التربية لن يكون على يد السياسي، الحزبي، المهووس بالحسابات الانتخابية.. ولن يكون على يد التقني، «الخبير» في تزوير الأرقام وتضخيمها، إنما سيكون الإصلاح بالعقول الحرة والمتحررة من إكراهات البيروقراطية.. وهذه رسالتنا إلى الوزير الوفا: احرص على حرية رجال التربية والتكوين في اختيار أساليب عملهم وحفّزْهم على الإبداع والتفكير، ولا تنصت كثيرا إلى رهط «الخبراء» المحيطين بك، فسيتخلّون عنك في أقرب تعديل وزاري، كما تخلّوا عمّن سبقوك.. عندها، سيسجل التاريخ في صفحتك أنتَ سيئاتهم وأخطاءَهم.. فخطوة مثل «الرقم الأخضر» لتلقي الشكاوى ضد المدرسين، والتي تبنتها وزارة التربية الوطنية هي خطوة تكرّس المنطق ذاته الذي رسّخه «فاشلو» البرنامج الاستعجالي، فالمطلوب اليوم هو ضمان حرية المدرّس وليس التضييق عليه ومراقبة أنفاسه، المطلوب اليوم هو تكوينه وضمان تكوينه، مهنيا ومعرفيا، عبر السماح له بحق استكمال التكوين الجامعي وتحفيز المجتهدين من الأساتذة الجامعيين، عبر مراجعة أنظمة الدراسة التي تم تبنيها في الجامعات، والتي أرهقت قدراتهم في أعمال تقويمية رتيبة.. النزاهة الفكرية تقتضي، أيضا، تقديم التقارير التي صاغها المجلس الأعلى للحسابات بخصوص مجموعة من المصالح المركزية والجهوية إلى القضاء، والتي أثبتت اختلالات كبيرة لا يمكن، بأي حال، أن تدخل في مجال الخطأ العفوي البسيط.. بل هي اختلالات تدخل في مجال الفساد الإداري والمالي المُبين!.. صحيح أن خلف كل مستفيد لوبيّ، قد يكون حزبيا أو نقابيا أو عائليا.. لكنّ النزاهة الفكرية تقتضي تغليب مصلحة القطاع، ترسيخا لمبدأ المحاسبة التي تنقصنا في هذا البلد.. وتقتضي، أيضا، عدم رهن مستقبل هذه الأمة بالاعتبارات الخاصة، فإذا كان الجميع يعلمون أن ضعف الانخراط في مجهود الإصلاح كان السببَ في فشل البرنامج الاستعجالي، فإن استرجاع همة رجال التربية والتكوين في إصلاح منظومتهم تتم حتما عبر التخلي عن ذهنية «المخزن» في التعاطي مع ملفاتهم.. فبعد ظهور البرنامج الاستعجالي قيل الكثير عن علل هذا الضعف، بين متشائم وجد الفرصة سانحة لترسيخ تشاؤمه، وبين متفائل انخرط بدون شروط في البرنامج الاستعجالي، باعتباره النسخة الثانية من الإصلاح.. غير أنه في غمرة القيل والقال عن أسباب تعثر الإصلاح، نسيّ الكثيرون أنه عندما تهبّ رياح العدمية وثقافة اليأس، سواء كانت مؤسسة تأسيسا نظريا، كما هو الحال عند بعض الأحزاب والتيارات المتطرفة، أو كانت عفوية، كما هو الحال عند قطاع واسع من رجال التربية والتكوين المنتمين إلى مختلف الأسلاك، فإن أي إصلاح -مهْما كانت نوايا واضعيه أو الإمكانات المرصودة له- يبقى مجرّدَ لغو وعود أبديّ.. والآن، بعد الإعلان الرسمي عن فشل البرنامج، عادت دوّامة العدمية إلى العمل من جديد، ولأن مستقبل الأمم تصنعه العقول المؤمنة بالمستقبل إيمانا مطلقا، فإنه يتوجب، باسم الانتماء إلى هذا المستقبل، أن يصنع الوزيران أملا جديدا للعاملين في القطاع، بعيدا عن منطق ردود الأفعال والتشنجات، والتي لا يمكنها إلا أن توسع من تيار العدمية.. فالحل يكمن في تحرير الطاقات واحترام المكانة الاعتبارية لرجال التربية والتكوين..