خلافي مع الدكتور البرادعي قديم يرجع إلى ما بعد عودته إلى مصر في 2010 بشهر واحد.. وهو خلاف لا ينتقص من تقديري له واعترافي بدوره كواحد من كبار رموز ثورة يناير، إن لم يكن رمزها الأشهر، ولا يمكن بحال أن يؤثر على موقفي من حزبه الجديد «الدستور» ولا علاقتي بقيادات الحزب، وبعضهم من أقرب الأصدقاء إليّ: د. علاء الأسواني ود. حسام عيسى والأستاذ جورج إسحق والسفير شكري فؤاد ود. أحمد دراج، وآخرون لهم عندي تقدير خاص مثل د. أحمد حرارة، والأستاذة جميلة إسماعيل، ود. شادي الغزالي حرب. مع ذلك، فالمصارحة تقتضي مني أن أقول، بلا تحفظ، إنني فوجئت بأن الحزب تقدم بالفعل، في الأسبوع الماضي، بأوراق تأسيسه إلى لجنة شؤون الأحزاب.. صحيح أن الاستعدادات بدأت لذلك منذ شهور بعقد الاجتماعات التمهيدية والمؤتمرات الصحفية وسيل الأخبار التي أغرقت وسائل الإعلام بسبب ثقل المؤسسين للحزب وكتلة الشباب النشطة المنضمة إليه، لكنه كانت هناك في الوقت ذاته إشارات خفية ومعلنة توحي بأن العزم لم ينعقد تماما على إعلان الحزب.. هناك الغياب المألوف للدكتور البرادعي عن الساحة إلا من تغريدات على «تويتر» تنشط في أوقات وتختفي في أخرى، وهناك خلافات منذ اللحظة الأولى حول ما إذا كان الأكثر حكمة صياغة التنظيم في حزب أو حركة أكثر شمولا وسيولة، وهناك تنبؤات متفاوتة حول ما يمكن أن يحظى به الحزب من مكانة على الساحة مقارنة بأحزاب أخرى.. إضافة إلى ذلك كله، كانت أنباء الصراعات والانشقاقات، خاصة بين القيادات، قد بدأت تجد طريقها إلى صفحات الصحف. كل هذا مألوف في الحياة الحزبية، وكل هذا لم يكن السبب في أنني فوجئت بأن الحزب اتخذ خطوة جادة لإعلان قيامه.. السؤال الذي شغلني منذ البداية: لماذا «الدستور»؟.. والسؤال لا يعني اعتراضي على الحزب بذاته، وإنما اندهاشي من التوالد المرضي للأحزاب بعد ثورة يناير.. سبق أن كتبت في هذا أتعجب من ائتلافات شباب الثورة التي انشطر بعضها وتم تصنيع أخرى على أيدي العسكر وقوى النظام السابق وغيرها، حتى بلغت أكثر من مائتي كيان، بعضها ينحصر أعضاؤه في أفراد أسرة أو بعض الجيران.. لكن العدوى بعد ذلك انتقلت إلى الأحزاب حتى لم يعد الباحثون السياسيون أنفسهم يحيطون بعدد الأحزاب ولا بأهدافها، خاصة تلك التي قامت أو أعلن عن النية لإشهارها بعد الثورة. يقال الآن إن الأحزاب المصرية يفوق عددها الخمسين، أكثر من نصفها نشأ بعد 25 يناير.. أنا لست متأكدا من الأرقام تماما.. لكن، لا بأس.. هذا أمر معتاد في الدول التي حدث بها تحول ديمقراطي.. كثيرا ما يكون هناك شعور بأن تعدد الأحزاب يعني الديمقراطية رغم أن قيام الأحزاب بل حتى قيام الثورة ذاتها لا يعني ذلك.. في مصر كان هناك دافع إضافي إلى قيام أحزاب جديدة، خاصة تلك التي تسعى إلى دولة مدنية تحفظ حقوق المواطنة وتضمن الحريات الشخصية والعامة، هو التخوف من زحف تيار الإسلام السياسي الذي استحوذ على الأغلبية في البرلمان ووصل مرشحه في النهاية إلى كرسي الرئاسة.. ربما يكون هذا الدافع هو العامل الموضوعي الرئيسي الذي أدى إلى قيام العديد من الأحزاب المدنية، رغم أن قادتها عادة ما يعلنون خلاف ذلك.. وربما تكون هذه الأحزاب قد استقطبت مزيدا من الأعضاء بسبب هذا التحدي، لكن هذا لم يضمن لها حتى الآن ولن يضمن لها في النهاية التفوق على تيار الإسلام السياسي. السبب هو التشرذم.. هذا ما رأيناه في الانتخابات الرئاسية.. وهذا ما نراه حتى اليوم.. المقولة الرائجة هذه الأيام هي أن القوى المدنية عازمة على التنسيق في ما بينها وعلى إقامة تحالفات لخوض المعارك الانتخابية، سواء بالنسبة إلى البرلمان أو إلى المحليات.. كثير من الزعماء السياسيين يقولون ذلك.. وبعضهم تنقل إلينا عدسات التصوير صورهم وهم مجتمعون رغم اختلافاتهم حول مائدة واحدة.. وهناك ما يمكن أن يسمى «حمى التيارات»، بعضها باسم «التيار الشعبي» والبعض باسم «التيار الثالث»، بخلاف ما قد يستجد، وهي حمى محمودة في كل حال.. وهناك أخبار عن اجتماعات بين البرادعي وحمدين صباحي تتحدث عن حشد جهودهما معا.. وفي يوم الجمعة الماضي حضرت المؤتمر العام الأول للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، حيث أشار رئيسه الراهب في محراب الثورة محمد أبو الغار إلى التنسيق مع القوى التي تنتمي إلى نفس الفصيل السياسي، وقال صراحة إن «الدستور» هو أقربها إلى حزبه. تذكرت وقتها «الدستور»، وعادت الأسئلة تتدافع: لماذا كل هذا الجهد لقيام حزب جديد، وهناك حزب يرفع الشعارات نفسها هو المصري الديمقراطي؟.. لماذا وقد جمعت بين أعضاء الحزبين معارك مشتركة وصداقات وثيقة؟.. يصرح الأستاذ جورج إسحق بأنه يرحب باندماج أي حزب داخل «الدستور».. سؤالي هو: ولماذا لم يندمج «الدستور» في أي حزب آخر يتفق معه في الأهداف بدلا من عناء قيام حزب جديد؟.. كيف فات هذا الدكتورَ محمد غنيم، وهو الصديق المقرب من كل من الدكتور البرادعي والدكتور أبو الغار، أو على الأصح: لماذا لم ينجح في تحقيقه؟.. ليس مهما من ينضم إلى من أو ما هو الحزب الذي يندمج في الآخر.. المهم أن تلمس الجماهير المؤمنة بدولة مدنية أن قادتها مخلصون حقا في تحقيق هذا الهدف، وأولى علامات هذا الإخلاص الإيثار والتخلص من نزعات الزعامة والأنانية. لا «الدستور» ولا غيره هو المقصود في ذاته.. «الدستور» مجرد مثال.. والمقصود أن تسعى التيارات المدنية باختلاف توجهاتها إلى ضم صفوفها.. لا أحد يمكن أن يغالي فينادي بتنظيم مدني واحد، لكننا على الأقل نطمع في أن نرى تجمعا ما يضم الأحزاب الوسطية، وآخر يضم أحزاب اليسار، وثالثا يضم الأحزاب المحافظة، بدلا من أن تتبعثر هذه القوى بين أكثر من عشرين حزبا.. ولو انسقنا في الطمع فسوف نطالبها في النهاية بصيغة ما من التحالف في المواقف الفارقة.. بغير ذلك، ندعوهم إلى التوقف عن خداعنا بالتصريحات المعسولة والتوقف عن خداع أنفسهم بإلقاء تبعة فشلهم على الإخوان المسلمين وحلفائهم.