لقد أبهرتني الانتخابات الأمريكية الأخيرة.. وتلك مفارقة لم أستسغها بعد، ربما لأنني كأغلب الناس الكارهين للسياسة الأمريكية، كجيل عايش الغطرسة الأمريكية منذ حرب الخليج الأولى إلى الحرب على العراق وأفغانستان، تلك الغطرسة التي لم تدع في قلوبنا ولا في عقولنا فسحة من حب أو تقدير لأمريكا، عدوة الشعوب ومثيرة الحروب، كما نردد ذلك مرارا في الشعار المعلوم. لكن أخلاق القوة تجبر كل ذي عقل أن يقف احتراما لعدو ما ترك لأي منا الخيار، فاكرهه إن شئت، أو ابغضه ما شئت، لكن ليس لك بد من أن تلقي السمع وتقلب النظر في حدث تاريخي بكل المقاييس. أمريكا اليوم أصبحت تحت سماء جديدة، وتحت أشعة شمس لم تعهدها من قبل، شمس قوة الديمقراطية التي لن يحجبها غربال أو أكثر، غربال حقد أو كره أو رغبة في التخلص من «شيطان» ملأ الدنيا وشغل الناس وقتل كثيرا منهم، أمريكا تعيش منذ انتخاب باراك أوباما انقلابا أبيض بلون أسود سيشكل دون شك علامة فارقة في تاريخ البشرية جمعاء.. فلنتأمل.. عندما ألقى زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ خطابه الشهير »لدي حلم» في 28 غشت 1963، كان عمر باراك أوباما حينها سنتين و24 يوما، كان طفلا صغيرا، لا يعرفه أحد، فقد تركه أبوه الكيني للتو مع أمه الأمريكيةالبيضاء، ليعود أدراجه إلى بلده الأصلي كينيا، تركه ليعيش قدره وليصبح، وهو في سن السابعة والأربعين، الرئيس ال44 للولايات المتحدة، وأول رئيس لهذا البلد من أصل أفريقي. كان حلم زعيم الحقوق المدنية المغتال بسيطا بساطة هذه الكلمات: «لدي حلم، أن يأتي يوم يتمكن فيه أبناء العبيد وأبناء أسيادهم من الجلوس معا على طاولة الأخوة».. منذ ذلك الوقت، جرت مياه كثيرة، تغيرت معها الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتغير معها العالم، كما تحقق حلم أكبر بكثير من حلم مارتن لوثر، فقد دخل البيت الأبيض رئيس أسود مصحوبا بنائب له أبيض اللون. من كان يصدق أن ذلك سيحدث يوما في بلد العنصرية والاستعباد. بدأت قصة باراك أوباما مع السياسة في سنة 1992، فقد كان يحضر حفلا عائليا في بيت زوجته، في فترة تعارفهما قبل الزواج، حينها سأله أخ زوجته، عن مشاريعه المستقبلية، فأجابه أوباما، أريد أن أمارس التدريس، وممكن أن أشتغل بالسياسة أيضا؛ فسأله أخ زوجته مرة أخرى، هل تريد أن تصبح منتخبا محليا؟ أجابه أوباما، لا، أريد مجلس الشيوخ ولم لا الرئاسة. بعد حوالي الست سنوات، يحقق أوباما حلمه.. وأي حلم. وكان الحديث عن بقاء هذا الحلم الأمريكي واستمراره وقوة الديمقراطية الأمريكية أول ما افتتح به أوباما خطاب النصر، حيث قال بفصاحته وبلاغته الاستثنائيتين: «إذا ما زال لأحد شك في أن أمريكا هي المكان الذي فيه كل الأشياء ممكنة، أو لا زال يتساءل هل حلم آبائنا المؤسسين لا زال حيا، أو لازال يشكك في قوة ديمقراطيتنا، فالجواب قد أعطي له هذه الليلة». حينما شاهدت خطاب النصر وخطاب الهزيمة أيضا، أبهرت حقيقة، أبهرت بخطاب الهزيمة أولا، فقد ألقى جون ماكين أحد أجمل وأقوى خطاباته، اعترافا بانتصار خصمه ورمزية ذلك بالنسبة لكثير من السود، وتحملا للمسؤولية كاملة في الهزيمة، ودعوة للأنصار وعموم المواطنين للعمل مع الرئيس المنتخب. وأبهرت أيضا بخطاب النصر الذي لم يقل شأنا عن خطاب الهزيمة، فأوباما خطيب مفوه، أضاف إلى ذلك شكرا موفى لخصمه، وشكرا لأنصاره، واستعدادا لخدمة كل مواطنيه، بمن فيهم أولئك الذين لم يعطوه أصواتهم، لكنه استمع إليها، وتعهد للجميع باستعادة الحلم الأمريكي. بعد ذلك تساءلت كم من الناس حول العالم يكرهون الولاياتالمتحدةالأمريكية؟ كم من الناس ازداد كرههم للولايات المتحدةالأمريكية تحت قيادة بوش الابن؟ لكن في المقابل كم من بلد، وكم من شعب، في العالم أجمع، يمكن فيه لشاب سنه مادون الخمسين، مساره السياسي لا يجاوز الثماني سنوات، أسود اللون، من عائلة عادية من أيها الناس، يبدأ ما دون الصفر ويستطيع أن يبني قصة نجاح ستلهم أجيالا من بني قومه، وأجيالا كثيرة من أقوام آخرين الله يعلمهم. كم من بلد في العالم أجمع يمكن فيه لحلم كبير وعظيم واستثنائي أن يتحقق ويرى رأي العين. صدقوني هناك اليوم دولة واحدة يمكنها أن تضمن ذلك.. تعرفونها لا شك.. قد تتلوها دول أخرى في مستقبل الأيام.. ذلك يقين يدعمه منطق السننية والتاريخ وتطور البشرية وارتقاؤها، لكن الفضل دوما فضل السابق. لا يمكن لأحد أن يقدر حجم ورمزية الحدث إذا لم يعرف معنى الميز العنصري، إذا لم يذق نظرة ازدراء ينظر بها رجل أبيض إلى رجل أسود، كما لا يمكن أن يقدر حجم النصر من لا يعرف معاناة السود الأمريكيين مع العنصرية، رغم الترسانة القانونية الضخمة التي تحمي حقوقهم، لكن متى كان القانون وحده كفيلا بأن يجعل النظرة والبسمة والمعاملة غير عنصرية. وقد اختزلت ذلك كله دموع القس الأمريكي الشهير جسي جاكسون، الذي التقطته الكاميرا أثناء حفل النصر لأوباما، وعيناه تذرف دموعا لا تنتهي، وتختزل كل دموع السود منذ أن اقتلعتهم أيادي البيض من إفريقيا، ورمت بهم في العالم الجديد، الذي خطف منهم حريتهم وإنسانيتهم، دموع اختزلت كل آهات الأجداد وأنات الأمهات في حقول الذل والعار.. أوباما كان الرمز الذي رد بعضا من الاعتبار للرجل الأسود. وأخيرا، إذا كان هذا هو حال الأحلام في أمريكا، بما في ذلك الحلم المستحيل، فإن حال الأحلام، بسيطها قبل كبيرها، عند شعوب التخلف والخراب، يبعث عن الأسى، فهي لم تنسى ماضيها فحسب، بل إنها تدمر حاضرها فسادا وظلما وقهرا، وتعدم أحلام أطفالها وأجيالها الآتية، أوليس الظلم مؤذن بخراب العمران، فكيف للحلم أن يتعايش مع خراب الفساد والظلم. إن شعوبا هذه أحوالها لا يمكن أن تستحق قيادة العالم، وإن كان معها الوحي، وإن كان منها النبي والرسول.. فرجاء كفوا عنا أذاكم، وكفوا عنا أوهامكم، ولا تسرقوا منا الحلم. ختاما، يحلم كثير من العرب والمسلمين بتغيير أحوالهم مع أوباما،وتلك حقا مفارقة عجيبة، فإذا كان لحلم زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ معنى، وإذا كان تحقيق حلمه قد مر بمعاناة حقيقية وتضحيات جسام، كان على رأسها تضحيته هو نفسه بدمائه فداء لحلمه، فإن أحلامنا هي أقرب ما تكون إلى الأوهام، فسماء أوباما لن تمطر علينا ذهبا ولا فضة، وهو رئيس للولايات المتحدةالأمريكية، انتخب من قبل مواطنيها، لتحقيق أهداف تعهد بها، ومعلوم لكل متتبع أنه لا يوجد من بين تلك الأهداف هدف تحسين أحوال أمتنا، أوباما هو خادم لمصالح أمته التي حققت حلمه، ودوره هو الدفاع عن مصالح بلده أولا وأخيرا، قد نعول على بعض من عقلانيته وقدراته على الحوار والإنصات، لكن ما هو مؤكد أن آخر ما يمكن أن يفكر فيه أوباما هو أن يهتم بقوم غير قومه. ذلك اليقين كله، وما عداه هو عين الإثم ظنا وتمنيا. إن المدخل الأساسي لتحقيق حلمنا، إن وجد، هو أن نعتمد على ذواتنا، وأن نستخلص من الحلم الأمريكي دروسا في قوة الديمقراطية، وفي جرأة التغيير، والثقة في الشباب، وقداسة الصوت الانتخابي، وجدية المحاسبة والتقييم. من هنا يبدأ المسير، أما غير ذلك فهي أوهام لا أحلام.. ودمتم سالمين.