يشتمل كتاب محمود محمد المبارك «قراءة قانونية في أحداث العصر» الذي صدر عن دار الفتح للدراسات والنشر سنة 2008، على عيّنة من بعض المقالات التي تم نشرها في جريدة «الحياة» اللندنية، قدمها للمهتمين بوضع الأمتين العربية والإسلامية كدراسة قانونية دولية لعدد من القضايا المصيرية التي تواجه أمتنا اليوم، علها تعين على فهم الأحداث المتسارعة كي نتمكن من معرفة مايحاك ضدنا فهما قانونيا دوليا متكاملا، بصورة مخالفة لتلك التي يزعمها الغرب. ذلك أن الغرب - كما قال المؤلف - استطاع أن يدخل علينا ويخدعنا من باب القانون الدولي مراراً، تارة بدعوى أن الغزو الأمريكي لأفغانستان كان دفاعاً عن النفس يتماشى مع المادة الحادية والخمسين من ميثاق الأممالمتحدة، وأخرى بزعم أن الغزو الأمريكي - البريطاني للعراق كان من باب الدفاع عن النفس المسبق المخول بالميثاق ذاته وبين هذا وذاك تستمر إسرائيل في انتهاكاتها الدولية الصارخة باسم الشرعية الدولية في لبنان وفلسطين. إضافة إلى ذلك، وبمساعدة أمريكية تتحدى إثيوبيا القوانين والأعراف الدولية بعدوان مسلح مخالف للمادة 2[4]من ميثاق الأممالمتحدة، ضد جارتها الصومال وترتكب مايعرف في القانون الدولي بجريمة إبادة جماعية، كتلك التي ارتكبها الصرب ضد مسلمي البوسنة والهرسك، في عالم يسد عينيه ويصم أذنيه عن كل ما يدور حوله. وهيئة الأممالمتحدة - بشقيها السياسي في مجلس الأمن - وهو الجهة المنوط بها حفظ الأمن والسلم في العالم - والقضائي المتمثل في محكمة العدل الدولية، إما معرضة عن تلك الإنتهاكات القانونية الدولية الجسيمة، أو مؤيدة لها بحمايتها للمجرمين الدوليين. في هذا الخضم جاءت سلسلة المقالات هذه لفضح وتعرية المزاعم القانونية الدولية الكاذبة للغرب، لكي نتمكن من مقارعة خصومنا بذات سلاحهم الذي طالما حاربونا به. قدم لهذا الكتاب الإعلامي الدكتور فيصل القاسم، ومما قال في حقه: «تابعت كتابات الدكتور محمود في الصحافة العربية بشغف دون أن يحصل لي شرف التعرف عليه إلا لاحقا، ووجدت فيها حماس المثقف العربي الأصيل مدعوماً ليس فقط بالدموع والصرخات، بل بالمعلومات، والإحصائيات الحقوقية، والرؤى والوثائق القانونية التي نحن بأمس الحاجة إليها كي نواجه بها أعداءنا وأصدقاءنا على حد سواء. وقد أحسن الدكتور المبارك صنعا عندما قرر أن يضع ثمرة فكره وبحوثه ورؤاه الحقوقية السياسية في كتاب جديد يلقي الضوء، من وجهة نظر العارف الحقوقي بالتاريخ والمتبحر في مسيرته من الزاوية السياسية القانونية، على الأحداث التي تعصف بالعالم عموما ومنطقتنا خصوصا، بدءا بيوغوسلافيا السابقة مرورا بأفعانستان والعراق وفلسطين ولبنان وانتهاء بالصومال». وأضاف: «الكتاب يأتي صرخة في وجه الضاربين عرض الحائط بالقانون الدولي والدائسين حرمة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، كما يشكل تحديا ليس فقط للأنظمة العربية الحاكمة، بل أيضا للمجتمع المدني العربي، والإعلام العربي الذي «يغفو على هامش الجرائم الدولية». فالكتاب يقدم حقائق ووثائق وتحليلات سياسية تفقأ العيون في بشاعتها، لعل وعسى تحرك الضمائر النائمة، وتدفعها للاستفادة من القانون الدولي في خدمة قضاياها ومواجهة القوى الظالمة التي تعبث بمنطقتنا وتستبيحها سياسيا وعسكريا واقتصاديا، معتمدة في ذلك على جهل الشعوب وحتى الحكومات لطبيعة القانون الدولي وطرق توظيفه كسلاح في وجه مغول العصر وشركائهم في الطغيان والانتهاكات والبشاعات والتجاوزات». *********************** الصديق بوعلام إعدام اتفاقية جنيف الثالثة يشير المؤلف في مقال بعنوان «الحرب العالمية الثالثة، من نبوءات نوسترادامس الى تكهنات أبي زيدا!» الى العقلية الخرافية التي بنى عليها القائد العسكري الأمريكي جون أبي زيد تكهناته للمستقبل، والغريب أن زعمه قوبل بالترحاب في جامعة هارفرد الأمريكية التي تعد من أرقى المؤسسات التعليمية في العالم، وبحضور نخبة من طلابها وأساتذتها! وينبه المؤلف في مقاله «الأعراف القانونية بين الفهم الغربي والفهم العربي» الى بعد فهم الأمة العربية عن احترام الأعراف القانونية غير المكتوبة. كما أنه يقدم نظرة قانونية في ما غاب عن تقرير بيكر هاملتون، ومن ذلك ملاحظته خلو التقرير من انتقاد القوات المحتلة في عدم إفصاحها عن حقائق أرقام عائدات النفط العراقي مما قد يعد تواطؤا مع اتهامات جادة بالسرقة للمسؤولين عن إنتاج وتصدير القطاع النفطي.« ولعله من المثير للسخرية ماورد في التوصية رقم (23) من أنه «يجب أن يؤكد الرئيس الأمريكي مجددا أن الولاياتالمتحدة لا تسعى الى السيطرة على نفط العراق». وأغفل التقرير كذلك مسألة مأساة السنة وتهميشهم في الحكومة الطائفية التي أقرها الاحتلال منذ إنشاء مجلس الحكم الذي أعطي الشيعة فيه أكثر من نسبة الثلثين من قبل الحاكم السابق بريمر والى هذا اليوم، «ولعله من الملفت أن التنبيه الى وضع السنة في هذا التقرير قد جاء مقترنا بالخوف من سيطرة القاعدة، حيث نص التقرير على أنه «يمكن أن تمتد الاشتباكات بين السنة والشيعة، وقد يحقق تنظيم القاعدة نصرا دعائيا (...) ويمكن أن يؤدي ذلك الى إضعاف موقع الولاياتالمتحدة العالمي». في هذا الخصوص، يلمح التقرير الى تعاون إيران مع الولاياتالمتحدة في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، حين قدمت إيران العديد من الخدمات السرية للولايات المتحدة مثل تسليم بعض أعضاء القاعدة الذين فروا إليها عبر الحدود مع أفغانستان،... كما يلمح التقرير أيضا الى تعاون إيران مع الولاياتالمتحدة في التخلص من نظامي طالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق، حيث سمحت في الأولى بعبور الطائرات الأمريكية عبر أجوائها لضرب مناطق في أفغانستان، وأمرت في الأخرى المراجع الدينية العراقية أن تفتي بعدم جواز التعرض للقوات الأمريكية. «ولكن لا أحد يعلم كيف غاب عن هذه الواقعية السياسية في التعامل مع الخصم، التي خلصت إليها لجنة بيكر هاملتون، الحث على التعامل مع «حماس» في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. على رغم أن «حماس» محرك فاعل في الشارع الفلسطيني اليوم». ويتحدث المؤلف في مقاله «الرئيس الذي أصبح متعسفا!» عن القرار التعسفي الذي اتخذه الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالدعوة الى إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، وقال في هذا الصدد: «ويبدو أن الخلاف الحالي الذي نتج عن قرار الرئيس الفلسطيني بالدعوة الى انتخابات مبكرة، ينقسم الى شقين: شق قانوني وشق سياسي. فأما الشق القانوني فهو واضح. فقد أكد الرئيس الفلسطيني على «حقه» بصفته رئيسا شرعيا على إحالة الخلاف الحالي الى «مصدر السلطات» وهو الشعب. وقد استند الرئيس الفلسطيني على ما رآه حقا دستوريا له بموجب المادة الثانية في القانون الأساسي الفلسطيني التي تنص على أن «الشعب مصدر السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية». وأعرب عن رغبته في أن يترك الخيار للشعب الفلسطيني ليقرر مصير السلطتين التشريعية والتنفيذية. إلا أن نظرة الرئيس الفلسطيني هذه قاصرة دستوريا. فعبارة «الشعب مصدر السلطات» تعني أن الشعب هو الذي يختار ممثليه في هذه السلطات عن طريق الانتخابات العامة في الوقت المقرر لها. وأما أن يترك الباب مفتوحا للشعب في أن يختار ممثليه في أي وقت أراد هو أو أراده رئيسه له، فهذا أمر يتنافى مع روح القانون الدستوري لأي بلاد، ومعلوم أن صلاحيات الرئيس الفلسطيني الدستورية لاتخول له الدعوة الى انتخابات عامة متى شاء، بيد أنه من المتفق عليه بداهة عند أهل الاختصاص أن صلاحيات الرئيس (أي رئيس) في أي قانون دستوري تحدد سلفا، ولايمكن ان تترك للتأويل الشخصي، وهو الأمر المتعارف عليه في الدساتير العالمية، وبفحص دقيق للقانون الدستوري الفلسطيني نجد أن الدستور يخلو من أي مادة تشمل تفويضا للرئيس في الدعوة الى انتخابات مبكرة، على أن ذلك لايمنعه من تقدم استقالته وترك الباب مفتوحا لانتخابات رئاسية مبكرة، إذا قبلت استقالته من قبل ثلثي المجلس التشريعي كما نصت على ذلك المادة 37 (1). وقد حددت صلاحيات الرئيس الدستورية في عدة مواد من القانون الأساسي الفلسطيني ليس من بينها حقه في الدعوة الى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة». وبغض النظر عن الناحية القانونية الصرفة، يطرح المؤلف هذا السؤال: هل يخدم هذا القرار العباسي المصلحة الفلسطينية؟ يقول: «ولعل بعض المؤشرات في ردة الفعل الأولية الداخلية والخارجية كفيلة بأن تعطي الإجابة على هذا السؤال. فقد سارعت اسرائيل الى تأييد قرار عباس في إجراء انتخابات مبكرة، كما أعلنت الولاياتالمتحدة وبعض الدول الأوروبية عن مؤازرتها لعباس في قراره« التاريخي». ولايخفى أن مسارعة إسرائيل والولاياتالمتحدة في تأييدهما لقرار عباس كفيل بأن يثير الشكوك حول وطنية هذا القرار في نظر رجل الشارع العربي. إذ إن الموقف الاسرائيلي لن يتماش إطلاقا مع المصلحة الفلسطينية الصرفة. كما أن الولاياتالمتحدة بتأييدها لقرار عباس لاتعدم الديموقراطية الفلسطينية كما تزعم» وقال المؤلف عن قانونية اعتقال الرئيس العراقي في مقال عنونه ب «إعدام اتفاقية جنيف الثالثة!»: «فمسألة قانونية اعتقال الرئيس العراقي السابق ومحاكمته من قبل قوات الاحتلال الأمريكي كانت محل سؤال منذ أول لحظة دخلت فيها القوات الأمريكية أرض العراق. فإصرار إدارة بوش على اعتقال رئيس شرعي لحكومة شرعية يعد خرقا قانونيا دوليا وصفحة سوداء في تاريخ لولايات المتحدة القانوني الدولي... باعتراف دول العالم أجمع. والعاصمة العراقية كانت تغص بسفارات العالم قبيل الغزو الأمريكي البريطاني، كما أن أعلام العراق كانت ترفرف في عواصم العالم المختلفة وفوق أسطح المنظمات الدولية وكفى بهذا شاهدا على إثبات الشرعية الدولية لها، والولاياتالمتحدة التي فشلت في استصدار قرار من مجلس الأمن يجيز لها استخدم القوة العسكرية ضد العراق، لم تكن تملك الوسيلة القانونية الدولية للقبض على الرئيس المخلوع، وبالتالي فإن القبض عليه جاء مخالفا لللقوانين والأعراف الدولية ، وكما هو معلوم فإن القاعدة القانونية تنص على ان «كل ما بُنِيَ على باطل فهو باطل». إضافة الى ذلك، فإن الطريقة التي تمت بها عملية القبض على الرئيس السابق، جاءت مخالفة لاتفاقية جنيف الثالثة 1949. التي أعلنت الولاياتالمتحدة على لسان وزير دفاعها السابق دونالدر امسفيلد عزمها معاملة الرئيس المخلوع معاملة «أسير حرب» تماشيا مع تلك الاتفاقية. فقد بدا بعد الفهم الأمريكي لاتفاقية جنيف المذكورة والقانون الدولي عموما، حين قامت وسائل الإعلام الأمريكية بنشر صور الرئيس العراقي السابق في أسوء وأذل حالاته في تلفازاتها العالمية، وهو أمر مخالف للمادة 14 من الاتفاقية المشار إليها آنفا، وطبقا لهذه المادة فإنه «يجب الحفاظ على سمعة وشرف جميع أسرى الحرب وفي كل الحالات أثناء اعتقالهم من قبل القوات المحتلة». كما أن المادة 13 نصت على أن «يعامل جميع الأسرى وفي كل الأوقات معاملة انسانية كريمة وألا يتعرضوا الى أي إهانة من قبل القوات المحتلة، وأن أي إهانة جسدية أونفسية في حقهم تعتبر خرقا جادا لهذه الاتفاقية». وغني عن القول إنّ ما قامت به القوات الأمريكية من إهانة نفسية وجسدية للرئيس المخلوع الذي بدا عليه من خلال نشر صوره بعيد اعتقاله آثار كدمات وضربات على وجهه، يعد أمرا مخالفا لنص وروح هذه الاتفاقية الدولية. ولكن السؤال الأهم هو المصير الذي ال اليه صدام حسين بعد أن حكمت محكمة عراقية بإدانته في جرائم الدجيل التي وقعت عام 1991، فما مدى مسؤولية الولاياتالمتحدة القانونية عن هذه الإجراءات؟ الموقف الأمريكي هو أن الرئيس السابق قد سلم رسميا الى الحكومة العراقية، بعد ان تسلمت الأخيرة السلطة من قوات الاحتلال الأمريكية في العراق في شهر يونيو 2004. وبالتالي فإن الولاياتالمتحدة تزعم أنها غير مسؤولة عن هذا الحدث لا من قريب ولا من بعيد، ولا بطريق مباشر، ولابطريق غير مباشر. ولكن هذا أمر يكذبه الواقع العملي،. فالقوات الأمريكية رغم تسليمها السلطة العراقية المسؤولية السياسية بشكل رمزي إلا أنها لاتزال هي التي تسيطر على الأوضاع في العراق بوجه عام وخاص، ومحاكمة الرئيس المخلوع تمت في المنطقة الخضراء التي تقع تحت سيطرة القوات الأمريكيةالمحتلة مباشرة، كما أن حرس صدام في سجنه كانوا جنودا أمريكيين، وقد كانوا يصحبونه الى باب المحكمة بحضور جلسات محاكمته، ومن تم يعيدونه الى زنزانته. وبالتالي فإن الزعم الأمريكي القائل بأن مسؤولية الولاياتالمتحدة على الرئيس العراقي السابق انتهت بتسليمه رسميا للحكومة العراقية هو محض افتراء». مكان القانون الدولي في عقلية الإدارة الأمريكية «على أن هذا ليس الانتهاك الوحيد لإدارة الرئيس بوش فيما يتعلق باتفاقية جنيف الثالثة 1949، فقد استخدمت وزارة الدفاع الأمريكية أصناف التعذيب المحرمة في القوانين الداخلية والدولية للأسرى الذين قبضت عليهم في أفغانستان وأودعتهم معتقل غوانتانمو. حيث رفضت الإدارة الأمريكية إعطاء المقبوض عليهم من المقاتلين حقوقهم القانونية الدولية حسب ما نصت عليه ا تفاقية جنيف الثالثة لأسرى الحرب عام 1949 (المواد 4 20)، بزعم أن هؤلاء الأسرى ليسوا مقاتلين في صفوف الحكومة افغانستان رسميا، وبالتالي فإنه ليس لهم حقوق اسرى الحرب بموجب اتفاقية جنيف المذكورة. وهذا بالطبع مغالطة قانونية تعكس مكان القانون الدولي في عقلية الإدارة الأمريكية الحالية، إذ إن هؤلاء المقبوض عليهم كانوا محاربين متطوعين مع الحكومة الافغانية وينطبق عليهم ما ينطبق على أسرى الحرب كما أبانت ذلك المادة 4 (2) من اتفاقية جنيف السابقة الذكر. وبالتالي فإن الادعاء الامريكي لايعفي الولاياتالمتحدة من مسؤوليتها القانونية الدولية حين اقتادت هؤلاء المعتقلين من بلادهم وأذاقتهم أنواع التعذيب بحسب شهادات المسؤولين الأمريكيين انفسهم. وقد شمل التعذيب في غوانتانمو بحسب الشهادات الموثوقة تجريد المعتقلين من جميع ملابسهم وتقييد أيديهم وأقدامهم بمسامير مثبتة في الأرض وإجبارهم على التعرض لأضواء مبهرة وموسيقى صاخبة وفي نفس الوقت تشغل مكيفات الهواء على أعلى مستوياتها لفترات تصل الى أربعة عشر ساعة. إضافة الى تعرض المعتقلين بشكل منتظم لمعاملة سيئة، وانتهاكات جنسية. وقد تضافرت شهادات من أفرج عنهم ومن أدلى باعترافات من الجنود الذين شاركوا في تعذيب المعتقلين في غوانتانمو على وحشيتها وعدم إنسانيتها، حيث شبهت منظمة العفو الدولية معتقلات غوانتانمو بمعسكرات الأشغال الشاقة السوفيتية ، وقد وصف مسؤول دولي وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد بأنه «مهندس تعذيب من طراز عال»، كما وصف محقق من وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية أعمال التعذيب، بأنها «جرائم حرب». ومع ذلك، فقد تعاملت الإدارة الأمريكية الحالية مع ذلك كله بشيء من عدم الاكتراث، حيث استمر هذا التعذيب. يأتي كل ذلك كانتهاك واضح لاتفاقية جنيف الثالثة 1949، التي نصت في المادة 130 على أن التعذيب والمعاملة غير الانسانية بحق أشخاص تحميهم الاتفاقيات الخاصة «انتهاكات فظيعة لهذه الاتفاقيات». كما تحظر المادة العامة 3 ضمن عدة أمور «التعذيب بشتى صوره: بدنيا كان أو عقليا في أي زمان ومكان سواء ارتكبها معتمدون مدونيون أم عسكريون». (...) «ويبدو واضحا اليوم أن إدارة الرئيس الأمريكي بوش كما فعلت مع كثير من قواعد القانون الدولي قد حكمت بالاعدام على معاهدة جنيف الثالثة المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب أثناء تعاملها مع سجناء غوانتانمو، وصادقت على ذلك الحكم يوم إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين». وقال المؤلف عن القصف الأمريكي للصومال إنه لم يكن دفاعا عن النفس، إذ إن المحاكم الاسلامية لم تتعرض للمصالح الأمريكية بل ولا للحيوانات الأمريكية لامن قريب ولا من بعيد. كما أن هذا الهجوم الأمريكي لم يأت بتفويض من مجلس الأمن كما تتطلب ذلك المادة 42، ولذلك فهو عدوان محرم مخالف لنص وروح ميثاق الأممالمتحدة. على أن مجلس الأمن الذي لم يهتز لهذه المخالفة الجسيمة قد شقي بحالة الصومال لمدة ليست بالقصيرة، وأدرجها ضمن المواضيع «الحارة» في جلساته، وأصدر حولها عدداً من القرارات... ولعله مما يثير السخرية أن هذه القرارات السابقة الذكر كلها تؤكد على «وجوب سيادة الصومال وسلامته الإقليمية واستقلاله السياسي ووحدته». ولم يجز أي من القرارات السالفة بحسب قراءتي أيّ تدخّل خارجي حتى ولو كان الأمر يتعلق بحماية الحيوانات! المثير في الأمر، هو غياب كل أنواع المساءلة القانونية الأخرى خارج مجلس الأمن للولايات المتحدة فيما يعد اليوم جرماً فاضحاً وخرقاً قانونياً دوليا خطيراً، من قبل دولة صاحبة عضوية دائمة في مجلس الأمن، فلم تثر منظمة الوحدة الإفريقية ولا منظمة الجامعة العربية التي تنتمي الصومال إلى عضوية كل منهما أي اعتراض حول التدخل الأمريكي في الصومال. ولم يُبد أيّ من أمينيْ هاتيْن المنظمتين أو غيرهما من أمناء المنظمات الدولية الأخرى مجرد اعتراض شفوي على سلوك الولاياتالمتحدة ضد الدولة العضو في هاتين المنظمتين. ولعل الإخوة «الأمناء» قد وجدوا قدوة حسنة في «الأمين» العام الجديد للأمم المتحدة الذي يبدو أنه قد أحسن بداية طريق الدبلوماسية الدولية بعدم التدخل فيما لا يعنيه». القانون الدولي الإنساني: سبقٌ إسلامي ويوضح المؤلف في مقال بعنوان «لعبة خارج القوانين، المواجهة الحتمية بين الولاياتالمتحدة و «القاعدة» أنّ العدو في نظر الولاياتالمتحدة واحد وإن تعددت مظاهره واختلفت صوره.. العدو هو الجماعات الإسلامية التي ترمي إلى توحيد الصفّ الإسلامي بإقامة خلافة إسلامية، وترى اليوم أنها تريد تحقيق الخطوة الأولى في العراق بعد فشل تجربتها في أفغانستان، وليست التجربة الإسلامية الأخيرة في الصومال إلا حلقة أخرى في هذا المضمار (...) كذلك يمكن القول إن مزاعم الإدارة الأمريكية الحالية في التخويف من انتصار «القاعدة» في العراق، لم تعد تجد لها أذناً صاغية في الشارع العربي، الذي أصبح ينظر إليها على أنها مجرد حلقة أخرى في مسلسل التخويف الأمريكي بالأشباح، مثلما كان التخويف بنظام صدام حسين أو خطر الزرقاوي أو نووي إيران أو غير ذلك ، وبالتالي فإن الإدارة الأمريكية الحالية قد تخسر استراتيجيتها في تخويف شعوب المنطقة من «القاعدة»، تماماً كما خسرتها داخل بلادها» (...) «ولكن المثير للسخرية هو ما صرح به بعض المسؤولين الأمريكيين من أن الحرب مع «القاعدة» قد تستمر إلى نصف قرن قادم، ولأجل هذا أُطلق عليها اسم «الحرب الطويلة» من قبل قائد القيادة الأمريكية المركزية السابق الجنرال جون أبي زيد. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه ربما خرجت هذه اللعبة عن إطار كل القوانين، حتى يأتي اليوم الذي تطغى فيه أخبار «القاعدة» دون غيرها على كل اهتمامات المواطن الأمريكي!». لم تقف تجاوزات إدارة بوش عند مجرد انتهاك القوانين خارج أمريكا، بل طالت أيضا القوانين الداخلية للولايات المتحدة، «حين قامت بالتجسس على مواطنين أمريكيين ومراكز للعبادة لمجرد انتمائهم الإسلامي أو العربي، دون تفويض مسبق من السلطة التشريعية. ولكن التجاوزات القانونية الدولية التي بدأت الولاياتالمتحدة تدفع ضريبتها اليوم، هي تلك التي شملت تدخلات في شؤون دول أوروبية، حين قامت وكالة الاستخبارات الأمريكية باختطاف عدد ممن تصفهم الولاياتالمتحدة ب «المتشددين الإسلاميين» المقيمين في أوروبا، الذين تشك في انتمائهم إلى «القاعدة». ففي تقرير لها اتهمت اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان 14 دولة أوروبية بالتواطؤ مع الاستخبارات المركزية الأمريكية في قضية رحلات طيران سرية لنقل متهمين بالإرهاب. وقد وجه التقرير اتهاماً خطيراً ضد بولندا ورومانيا لتسترهما على وجود سجون سرية لل CIA في بلديهما. وذكر التقرير الذي أعده عضو برلمان سويسري بعد تحقيقات استمرت سبعة أشهر، أن بعض الدول الأوروبية مثل بريطانيا وإسبانيا وألمانيا وتركيا وقبرص، اتخذت كقواعد انطلاق لرحلات غير مشروعة لل CIA، بينما سمحت دول أخرى مثل إيطاليا والسويد ومقدونيا والبوسنة باختطاف المشتبهين على أراضيها. وكانت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية قد ذكرت أنه قد تم إرسال أكثر من 100 شخص من أوروبا، الى منشآت تدعى «المواقع السوداء» أنشئت بعد أحداث 16 سبتمبر 2001. وقد شمل تقرير اللجنة الأوروبية شريطاً مصوراً لمواطن ألماني من أصل لبناني يصف كيف أنه وجد نفسه في أحد سجون أفغانستان حيث قال له أحد المحققين «أنت الآن في بلد لا قوانين فيها، فهل تعلم ما يعنيه هذا؟ بإمكاننا أن نرميك وراء الأبواب المغلقة لأكثر من 20 عاماً أو أن ندفنك هنا دون أن يدري بك أحد». وقد أدانت جماعات حقوق الإنسان في العالم أجمع عمليات اختطاف المشتبه بهم الذين تعرضوا فيما بعد بحسب شهادات بعضهم إلى عمليات تعذيب، إلا أن ردة فعل جماعات حقوق الإنسان الأوروبية كانت أكثر تفاعلاً. إذ ربما عكس الموقف الأوروبي غير الرسمي عمق كراهة الأوروبيين للتدخلات الأمريكية غير القانونية في قارتهم». ويضيف المؤلف: «ولكن السؤال المثير اليوم أنه إذا كانت معظم التجاوزات القانونية الدولية للولايات المتحدة قد وقعت داخل بلدان عربية وإسلامية، فلماذا لا تبدأ حكومات وشعوب هذه الدول خطوات شبيهة بالخطوات الأوروبية، إذ إنه من غير المعقول أن تحاسب الولاياتالمتحدة على جرائم في أوروبا تعد لمماً أمام جرائمها في العالم العربي والإسلامي!». وأشار المؤلف في مقال آخر بعنوان «القانون الدولي الإنساني، إبداع غربي أم سبق إسلامي؟» إلى أنّ كثيرا من قواعد القانون الدولي الإنساني التي عرفها الغرب في القرنين الأخيرين، قد أقرها الإسلام قبل أربعة عشر قرناً. وقد شهد بهذا عدد من المنصفين في الغرب أنفسهم، فعلى سبيل المثال، أوردت دورية Naval wan College الأمريكية في عددها الصادر عام 1979، والمتعلق بمواد تضمن حسن معاملة أسرى الحرب، أوردت استشهادات إسلامية، شملت آيتين وحديثاً واحداً حول هذا الباب، قدمت لهذه الأدلة بمقدمة جاء فيها: «على الرغم من أن القرآن مشابه في كثير من الأحيان للأناجيل إلا أنه (أي القرآن) قد احتوى أوامر ربانية اعتبرت قواعد رئيسة للتعامل الإنساني من قبل العلماء المسلمين قبل أن يرى ذلك في فهم علماء النصارى بفترة طويلة». وقد أبدت الدورية الحربية إعجاباً لمعنى الحث على معاملة الأسرى في الآية الكريمة « ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً». (...) وقد جاءت وصايا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام لجيوشه صالحة لتكون خطوطا عامة في التعامل القانوني الإنساني في حماية المدنيين واحترام الأديان كقوله: «اغزوا باسم الله، لا تقتلوا صبيا ولا امرأة ولا شيخا كبيراً، ولا تكسروا صليبا». وفي هذا ما يغني عن كتابة مجلدات في حماية ضحايا الحروب من المدنيين. هذا فيما يتعلق بالتوجيهات المباشرة من القرآن والسنة، أو ما يمكن أن يطلق عليه «التشريع المكتوب للقانون الدولي الإسلامي»، أما فيما يتعلق بقواعد القانون الدولي الإسلامي غير المكتوب أو العرفي، فقد ترك الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، أسوةً حسنة للتعامل الحضاري مع خصومه. فأين هي دعاوي وخروقات القوانين الدولية المعاصرة من النموذج الإسلامي في مجال حقوق الإنسان والقوانين الدولية؟! لقد بيّن هذا الكتاب بالأدلّة المقنعة كيف تتعامل القوى المهيمنة في العالم مع القانون، وكيف تجهل الدول المستضعفة التلاعب المعاصر بالقوانين الدولية، أو كيف تتجاهل ذلك، مما يزيد تلك القوى المهيمنة غطرسة واستبداداً!