مع التطورات الأخيرة لمجريات العدوان على العراق، اخترنا لقرائنا في صفحة هذا العدد من المقالات المختارة التي نقدمها لهم كل اثنين منذ بدإ العدوان مقالا للكاتب "باتريك سبيال"، نشره في العدد الأخير من مجلة "جون أفريك لانتليجان" الباريسية. وهو مقال يتعرض بالتحليل العميق للمأزق الذي وضع فيه الغزاة أنفسهم، وكذلك للأوضاع العربية التي سيخلفها العدوان وأوضاع المنطقة. خسارة منذ الوهلة الأولى مهما كان المثال الذي سوف تنتهي إليه "معركة بغداد"، سياسيا ومعنويا، فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا العظمى قد خسرت الحرب منذ الوهلة الأولى، فبعيدا عن استقبال الفيالق الغربية بالورود، وبعيدا عن أن يستسلموا أو أن يهربوا، هاهم العراقيون يقاومون مقاومة شرسة. وهناك كذلك آلاف العراقيين العاملين في الأردن وغيرها يعودون إلى بلادهم للمساهمة في القتال. وثلاثة ملايين قطعة من الأسلحة الخفيفة تم توزيعها على المواطنين. جنود ملشيات، فدائيون، ومواطنون عاديون أمة مسلحة قد انضموا إلى جيش بلادهم في مواجهة شجاعة رغم التفاوت الكبير في الحرب لموازين القوى فيها، معركة أثارت إعجاب وإكبار جميع من يعارضون هذه الحرب في العالم، من سيدني إلى سيول وصنعاء، ومهما كان المآل النهائي للحرب، فإن العراقيين قد نحتوا لأنفسهم مكانة تشرف في قلوب وأذهان العرب. وفي نفس الوقت، فإن عملية "الحرية في العراق" قد تحولت إلى عمل شنيع، إنها حرب استعمارية على الطريقة القديمة المعروفة القائمة على الكذب وعلى الجشع، وعلى الأحلام التوسعية، حرب لا علاقة لها "بنزع سلاح" العراق أو ب"تحرير" الشعب العراقي. إن العراق لا تشكلل تهديدا لأحد، فلم يتم التوصل إلى أي خيط يمكن أن يربط بين بغداد وما حدث يوم 11 شتنبر 1002، كما لم يتم تقديم أي دليل على أن العراق مستمر في تصنيع الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية أو النووية، أو أنه يمكن أن يمد بها أية جماعات "إرهابية". كل ذلك لم يكن إلا دعاية منحطة هدفها إخفاء الأهداف الحقيقية للحرب، التي هي بالضبط كما كانت دائما منذ 1991: تأكيد التفوق الشامل للولايات المتحدةالأمريكية في جزء من العالم جد حيوي استراتيجيا، غني بالبترول .وكذلك حماية التفوق الجهوي "لإسرائيل"، واحتكارها لأسلحة الدمار الشامل في المنطقة. إن رؤية المحرضين الأساسيين على الحرب في واشنطن، من أمثال "بول وولفويتز" مساعد كاتب الدولة في الدفاع، و"ريتشارد بيرل" الذي استقال مؤخرا من منصبه كرئيس لمجلس سياسة الدفاع بالبانتاغون، ومعهم شرذمتهم من الصهاينة ومحرضي اليمين المتطرف. إن هذه الرؤية ظهر أنها محض سراب، فلم يتم استقبال الغزو بأي "بهجة وانشراح"، عكس ما لا زال "ولفويتز" يدعي أنه سيحصل، والخريطة السياسية للمنطقة ليست قابلة لأن يعاد رسمها وفق المصالح الأمريكية و"الإسرائيلية". والسيطرة على بغداد لن تكون متبوعة ب "تغيير النظام" في إيران وسوريا. والعراق مهما كان مهزوما ومقرا بهزيمته لن يتبنى "ديمقراطية" على الطريقة الأمريكية، ولن يوقع على معاهدة سلام مع "إسرائيل". بل بالعكس فبتحريضهم الولاياتالمتحدةالأمريكية على التورط في مغامرة إجرامية، فإن هؤلاء الأشخاص قد أضرموا نيران كراهية لا حدود لها سوف تسمم لسنوات حياة أمريكا والأمريكيين، وسيأتي يوم توفد فيه بعثة من الكونجريس لجنة تقصي لتحديد كيف ومن طرف من تم اتخاذ القرار المشؤوم بشن حرب على العراق. من جهة أخرى فإن "الشارع العربي" الذي ظل لمدة طويلة ينظر إليه باحتقار على أنه كم همل ومهمل، قد استيقظ وعبر بمظاهرات، تزداد يوما عن يوم قوة وصلابة، عن رفضه التام للاستفزازات الأمريكية. والمقاومة العراقية قد عبأت وحشدت الجماهير العربية، كما لم يسبق لها أبدا أن عبأت منذ زمن الانفعالات والعواطف الجياشة التي كان يثيرها المصري جمال عبد الناصر في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم. طيف حرب المدن الهوة اتسعت بشكل خطير بين حكومات الدول التوابع لأمريكا في الخليج، وبشكل خاص جدا في الكويت، وبين مجموع الرأي العام العربي والإسلامي في المنطقة. يمكن أن تتذرع دول الخليج بالقول إنه لم يكن أمامها أي خيار آخر غير استقبال القوات الأمريكية بحكم الاتفاقيات الموقعة بين هذه الدول وواشنطن، ولكن الذريعة لا تصمد إذا ما قارناها مع الموقف الصارم الذي اتخذته تركيا على الرغم من الالتزامات الأكثر إكراها التي لها مع واشنطن ومع حلفاء شمال الأطلسي. وإذا ما آلت الحرب إلى وضع مضطرب أو غامض، أو إذا ما طال أمدها وتحولت إلى حرب عصابات، كما هو جد متوقع، فإن العواقب على بعض الأسر الحاكمة في الخليج سوف تكون وخيمة وجد عنيفة. لقد كان على الكويت منذ مدة طويلة أن تسعى للسلام مع العراق وطي صفحة غزو 0991، الذي أدى من جرائه الشعب العراقي الثمن غاليا جدا. أما والحال على ما هي عليه، فأيا ما كان النظام العراقي الذي سوف ينبثق عن هذه الحرب، فإنه لن يستطيع أن يغفر للكويت بسهولة تعطشها العنيد والشرس للانتقام. وكذلك فإن حكومتي الأردن ومصر الممزقتين بين تبعيتها إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية وبين العواطف الجياشة لشعبيهما في عدائهما لأمريكا ومعارضتهما للحرب، قد بدأتا أيضا تحسان بأنهما مهددتان. إن تداعيات هذه الحرب سوف تخلخل استقرار المنطقة لمدة طويلة من الزمن. وفي انتظار ذلك فإن جنود أمريكا وبريطانيا الذين أضلهما قادتهما السياسيون، يواجهان اليوم كابوس ما ينتظرهما من حرب المدن التي لم يتدربا قط عليها ولم يتسلحا لها بالتجهيزات المناسبة لذلك. إن قوافل مؤنهم، وكذلك مدرعات صفوفهم الخلفية، تتعرض لغارات خاطفة، ويمكن أن تصبح المدن العراقية شراكا مميتة، إن "قوات التحالف" ترد على المقاومة العراقية الباسلة بقصف جوي مكثف، يزداد عمى يوما عن يوم، وكذلك بالقصف بالمدفعيات والدبابات على أهداف مدنية، مثيرة بذلك على نفسها غضب شعب غاضب أصلا بسبب اثنتي عشرة سنة من الحصار القاسي. إن الخسائر العراقية في صفوف المدنيين والعسكريين تتصاعد بسرعة. فهناك المئات بل ربما الآلاف من القتلى والجرحى في معارك أم قصر والناصرية والنجف، وفي غيرها من القرى والمدن. وكذلك فإن الأزمة الإنسانية في البصرة، حيث يعيش مليونان من البشر يتهددهم نقص حاد في الماء والغذاء، تضع واشنطن ولندن أمام ضرورة الإسراع بإنجادهم، والجمعيات الإنسانية مستعدة للتدخل من أجل ذلك، ولكنها لا تريد أن تعرض نفسها لشبهة التعاون مع القوات الغازية الأمريكية والبريطانية. وفي الوقت الذي يتهيأ الغزاة للانقضاض على بغداد، يطرح سؤال عريض على قيادتهم لمعرفة هل يمكن القبول لدى رأيهم العام بأن تسقط المدينة مقابل دفع ثمن غال جدا يتمثل في عدد كبير من القتلى في الصفوف الأمريكية والبريطانية. اندحار سياسي شامل بعد أن خسرت الحرب سياسيا، هاهي الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا العظمى في طريقهما إلى خسران السلام. فلا أحد يتصور بشكل جدي أن العراق يمكن أن يحكم من طرف جنرال أمريكي، أو من طرف تلك العصابات المتنافرة من المنفيين العراقيين الذين تكونوا ومولوا من طرف صقور اليمين الأمريكي الموالي في أغلبه ل"إسرائيل". إن الاحتلال العسكري الأمريكي إذا ما تم لن يكون نزهة. إن عراق ما بعد الحرب لن يكون أبدا مكانا آمنا من المخاطر بالنسبة للأمريكيين والبريطانيين، سواء تعلق الأمر بالعسكريين أو الإداريين، أو بالمتعاونين معهم من العراقيين. ولن يكون كذلك بالنسبة للمقاولين الأمريكيين وغيرهم من الساعين إلى الغنى، الذين بدؤوا منذ الآن يتصارعون كالجوارح على الكعكة المتمثلة في الحصول على عقود إعادة الإعمار بفضل أصدقائهم ومعارفهم داخل الحكومة الأمريكية. ووسط هذا الاندحار السياسي الشامل فإن المشهد الأكثر حزنا هو مشهد "طوني بلير" الوزير الأول البريطاني ووزير خارجيته "جاك سترو"، وهما يتخبطان في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ماء الوجه. وهاهما بعد فوات الأوان أخذا يصرحان بتصريحات تشبه تصريحات الأوروبيين الحقيقيين، على عكس ما يصرح به حلفاؤهما الأمريكيون. فصقور واشنطن يقولون إن الأممالمتحدة ليست مؤهلة سياسيا لتسوية الأزمة العراقية، وإنه يجب إصلاح هذه الهيئة جذريا، وأول إجراء في هذا الإصلاح هو أن يسحب من فرنسا مقعدها كعضو دائم في مجلس الأمن. وبالمقابل فإن "بلير" يؤكد أن الأممالمتحدة عليها أن تلعب دورا مركزيا في عراق ما بعد الحرب. ولقد ذهب خلال زيارته القصيرة في الأسبوع الماضي إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى حد أن عرج على نيويورك لملاقاة الأمين العام للأمم المتحدة "كوفي عنان". ولكن إذا كان "بلير" قد أخذته اليوم عطفة شغف مفاجئة بالأممالمتحدة. لماذا دخل في الحرب دون قرار منها؟ الآن بعد أن سارت الأمور بعكس ما كان يتمناه هو وحليفه، فإنه طبعا يحاول العمل على استرجاع بعض المشروعية الدولية!!! "إسرائيل" فلسطين: الكيل بمكيالين إن أكبر هوة بين أوروبا وأمريكا هي النزاع "الإسرائيلي" الفلسطيني، بل إن وزير الخارجية البريطاني جاك سترو صرح باعتراف مثير، عندما قال إن الغرب كان دائما مذنبا لأنه يكيل بمكيالين. ويحس المسكين سترو "بالتعاسة والأسى" على المصير المخصص للفلسطينيين، ولكن كذلك العمليات "الإرهابية" التي يذهب ضحيتها "الإسرائيليون"، ويضيف "جاك سترو" في تصريحه ل"البي. بي. سي" قائلا: "إن بريطانيا إلى درجة مائة في المائة موافقة على إنشاء دولة فلسطينية قابلة للعيش والاستمرار، وبالقدس كعاصمة لها، وذلك وفقا للقرار رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن، وبحدود 7691، وعلى تفكيك المستوطنات اليهودية، وعلى حل مشكل اللاجئين<، هذه طبعا كلمات جميلة، ولكن إذا كان هو ورئيسه "طوني بلير" مع حل إقامة دولتين مستقلتين، لماذا تحالفا مع "أرييل شارون" في رفضه تماما لهذا الحل؟ لماذا سمحا منذ سنتين لشارون بتقتيل المدنيين الفلسطينيين العزل وبتدمير كل مقومات دولة فلسطينية تدميرا شاملا؟ لماذا قبلا ووافقا على تلك الاغتيالات المركزة، وعلى تدمير المنازل فوق سكانها، وعلى إقامة مستوطنات جديدة، وعلى الحصار والطوارئ وغيرها من الإجراءات الاستعمارية في فلسطين؟ لماذا لم تكن هناك عقوبات بريطانية ضد "إسرائيل" مماثلة لتلك العقوبات المطبقة على العراق التي ساعدت بريطانيا الولاياتالمتحدةالأمريكية على إطالتها؟ إن "طوني بلير"، وهو يحاول أن يلعب دور رجال الدولة الدولية، قد سعى إلى إقامة جسر عبر المحيط الأطلسي بين أوروبا وأمريكا. ففي رأيه هناك خطر كبير في أن تشكل أوروبا قطبا منافسا للولايات المتحدةالأمريكية، مع أن هذه الفرضية يعتبرها أغلب العقلاء فرضية تخلق التوازن الضروري لمنع انحراف قادة واشنطن نحو الطغيان، والمساهمة الحاسمة في إقرار عالم أكثر أمنا. ولكن "جسر" بلير قد انهار مع المنازل العراقية. إنه أكبر إخفاق عرفته الدبلوماسية البريطانية عبر تاريخ الناس. وأحسن ما يمكنه الآن أن يفعله هو أن يستقيل من منصبه ويترك لأحد العقلاء مسؤولية خلافته حتى يعيد ربط العلاقات التي كسرها "بلير" مع أوروبا ويعيد الاعتبار لسلطة هيئة الأممالمتحدة. باتريك سيال ترجمة: إبراهيم الخشباني