إن الوضعية التي باتت تعرفها المدرسة والجامعة المغربية تجعل المفكر والمهتم والفاعل فيها غير مرتاح ويطرح أسئلة حول واقعها الحاضر وحول آفاقها. في هذه الورقة، التي خص بها محمد سبيلا «المساء»، يصوغ المفكر المغربي مجموعة أسئلة ويبحث لها عن أجوبة علمية منطقية بانتقادية الفيلسوف. هل يجوز أن نتحدث عن أزمة أم فشل المدرسة المغربية؟ أم إن هذه التوصيفات تتضمن نوعا من المبالغة أو التجني؟ على كل، لم يعد يخفى على أحد اليوم أن منظومتنا التعليمية تعاني من العديد من المشاكل الحادة، كمّا وكيفا، بنيويا ومضمونا، تجعلها تعيش وضعية أزمة. وكلمة «أزمة» يجب أن تؤخذ هنا ليس بمعناها التراجيدي أو الكارثي بل بمعناها الوظيفي، بمعنى أن هناك اختلالات كبيرة في أداء المدرسة دورَها والوظائف الموكولة إليها من طرف المجتمع. يعرف هذه الصورة السلبية اليوم في مجتمعنا الجمهورُ، كما تشهد بها النخب، بسبب العلامات السلبية والمشاكل التي يعاني منها نظامنا التعليمي، بما أن الجهات الرسمية، رغم أن وظيفتها تفرض عليها تغليب الإيجابي على السلبي و»تلطيف» مظهر العديد من الاختلالات والعلامات السلبية التي لا تخفي موافقتها على الصورة السلبية. فنحن نجد في التقارير الصادرة عن 50 سنة من التنمية البشرية، في آفاق سنة 2025، اعترافا صريحا بهذه الوضعية السلبية واستعمالا غيرَ خجول لمصطلح «الأزمة». يعترف «تقرير الخمسينية»، إذن، بأنه بعد السبعينيات، وبالنظر إلى التوسع المستمر للتعليم وإلى الصعوبات الاقتصادية والمالية لتلك الفترة، وما صاحبها من بداية أزمة التشغيل، بدأ مسار المنظومة التعليمية الترببوية في التراجع، حيث ظهرت عليه علامات الضعف وعدم التكيف، وأصبح التعليم المغربي آلة ضخمة تعاني من ضعف النجاعة، وخاصة على مستويين: التشغيل والإدماج، وهو ما فرض ضرورة القيام بإصلاحات عميقة ومتوالية. (ص 106) بل إن التقرير يعترف بأن هذه الأزمة أصبحت أكثر ميلا نحو التوسع والاستدامة، (ص 107) عبر المعالم الآتية: أولا اختلال العلاقة بين التعليم والاقتصاد. ثانيا الإخفاق في محاربة الأمية، إذ تضاعفت أعداد الأميين بدل أن تتقلص، كما كان مخططا لذلك، حيث بلغت الأمية بين الرجال 30% وحوالي %66 لدى النساء. وثالثا تعثر الوظيفة الاجتماعية والاقتصادية للتعليم العمومي، سواء بالنسبة إلى التشغيل أو حتى جودة التحصيل، إذ تم تسجيل نوع من الانحدار في مجال التحصيل المعرفي، في القراءة والكتابة الأساسية، المهنية والتقنية، بل إن التقرير يعترف -بمرارة- بمحدودية الفعالية الاجتماعية للمدرسة العمومية وبضعف قدرتها على ترسيخ قيّم المواطنة والانفتاح والرقي وحرية الفكر والتحصيل واكتساب الفكر النقدي، ليس فقط بسبب بقاء البرامج بدون تحيين، بل أيضا بسبب وجود ميول تطرفية لدى شرائح من المُدرّسين وتأطيرها من طرف بعض الهيئات الإيديولوجية والسياسية، (ص109) مما يدفع إلى التساؤل عن نظامنا التعليمي في تغذية الحقل السياسي وإعداده في اتجاه معين. ورابعا استفحال ظاهرة الهدر المدرسي والتسرب بدون تأهيل. وخامسا تذبذب السياسة اللغوية بين التعريب والفرنسية، إضافة إلى المشاكل المتعلقة بتدريس الإنجليزية، تنضاف إليها المشاكل المتعلقة بالأمازيغية.. بمعنى أن المبادئ الأساسية التي تم الإجماع بشأنها في بداية الاستقلال، وهي التوحيد والتعميم والمغربة، لم تجد طريقها إلى التطبيق الكامل.. ويمكن أن نضيف إلى هذه اللائحة العديد من مظاهر الإختلال التي لم يوردها تقرير الخمسينية، والمتمثلة في العناصر التالية: صعوبات التعميم الكامل للتعليم والتطبيق الفعلي لإلزامية التعليم بين 1 و15 سنة. عدم قدرة التعليم الخصوصي على سد الخصاص الملحوظ، حيث لم تتعد مساهمته 8،77 في المائة في الابتدائي و4 في المائة في الثانوي. ولا تقف مشاكل التعليم عند الحدود الكمية والإحصائية، بل تطال كذلك مناهج وبرامج التدريس، التي عكست، بدورها، هذه التلكؤات والترددات من المشاكل المضمونية التي يعاني منها تعليمنا، كمسألة التنافر القيمي المواكب للتحولات المجتمعية، وهي مسألة حلّلها الباحث السوسيولوجي محمد الصغير جنجار، ويقصد بها المفارقة المتمثلة في المسافة أو التفاوت القائم بين إيقاع التحديث البنيوي في المجتمع (في البنيات التحتية والمؤسسات الإدارية والتصنيع وتنظيم المدن وأنماط العيش والاستهلاك) ووتائر تطور الحداثة من حيث إن هذا المصطلح يتعلق أساسا بالفكر والتمثلات والقيّم والعليات على أساس أن الحداثة أقل وأبطأ سرعة من إيقاع التحديث البنيوي. وقد شهد المجتمع المغربي، منذ مطلع القرن العشرين، تحولات بنيوية عميقة، تتمثل ديمغرافيا في تزايد عدد الساكنة واستعمال المنتجات، واجتماعيا في الانتشار التدريجي للفرد كفاعل ينسج استقلاليته بالتدريج، والتقدم في تنظيم الزمن والعمل ووظائف وأدوار الفئات، بتوازٍ مع ارتفاع وتيرة التمدرس والتراجع النسبي لدرجة الأمية.. لكن هذه التحولات، الكمية والكيفية، لم تُحدِث تناسقا وتناغما بين التحديث والحداثة، بل إن وظيفة المدرسة العمومية، كما لاحظ الصغير جنجار -انطلاقا من مصادرة أن مهمة المدرسة في إطار الدولة- هي تيسير التناغم والتناسق بين دينامية التحديث ودينامية الحداثة وانتزاع الأطفال من وسطهم الأصلي ومحيطهم الأسري، اقتصاديا وثقافيا، والارتقاء بهم نحو ثقافة أعلى وأوسع أفقا نحو أي ثقافة تتجاوز المحيط المحلي المباشر (الأسري، القبلي والجهوي) نحو أفق كوني، وتزويدهم بقيّم الحرية والمسؤولية الضرورية والحقوقية، التي تشكل الأساس الفكري للمدرسة في تصورها الحديث، بل إن المدرسة المغربية ظلت تعاني صراعا حادا بين هاتين المنظومتين. ولعل التعليم العالي لا يخلو -بدوره- من مشاكل خاصة، فرغم توسعه التدريجي النسبي، فإنه يعاني من تعثر الأسباب والسيولة، حيث إن 10 في المائة لا يحصلون إلا على «الدّوغ».. أضف إلى ذلك ظاهرة بطالة الخرجين، التي أصبحت معضلة اجتماعية كبيرة في بلادنا. نستنتج من كل هذه المؤشرات أن الرهانات الضخمة التي كانت معقودة على التعليم، باعتباره المكسبَ الأساسي الذي استفاد منه المغاربة بعد الاستقلال وراهنوا على نتائجه، والذي جسّدته المبادئ الأساسية لطموحات الحركة الوطنية في المبادئ الأربعة: التوحيد، التعميم، التعريب، المغربة، لم تتحقق بالشكل المأمول. ولا شك أن المرتبة العالمية للمغرب في مجال التنمية البشرية تعكس، إلى حد كبير، هذه المعطيات الخاصة بالتعليم في بلادنا، حيث يقع تصنيفه في المرتبة ال126 ضمن 177 بلدا.. تعود هذه الوضعية السلبية إلى مجموعة كبيرة من العوامل، بعضها ديمغرافي ومالي وبعضها اجتماعي وبعضها إيديولوجي... ذلك أن المدرسة المغربية تعكس، إلى حد كبير، الوضعية العامة للمجتمع وترتبط بوتيرة تطوره وبصراعاته المختلفة. ويعترف تقرير الخمسينية بأن المدرسة ظلت لفترة طويلة حقلا للاستقطاب الإيديولوجي والسياسي وفضاء للتعبير عن الصراعات السياسية والثوثرات الاجتماعية، (ص 13) خاصة أن الصراع السياسي الحاد الذي اندلع في المغرب مباشرة بعد الاستقلال تحوّلَ إلى صراع مركزيّ انعكست آثاره وأصداؤه على كافة القطاعات الاجتماعية، وعلى رأسها التعليم، الذي تحول، بدوره، في بعض الفترات إلى أداة صراع لنصرة ودعم اتجاه ضد آخر. وهذا ما طبع السياسة التعليمية بالكثير من التعثر والتردد، سواء حول الشكل أو حول المضمون نفسه، كما تدل على ذلك عملية اختيار وزراء التعليم. لكن الدولة لم تكن الفاعلَ الرئيسيّ الوحيدَ في السياسة التعليمية، إذ رافقت تدخلَها العديدُ من الهيئات المالية الدولية (البنك الدولي) أو التربوية (يونيسكو) أو الحقوقية (بالمصادقة على المواثيق والعهود الدولية) أو البيئة وغيرها. ومثلما عانت السياسة التعليمية من انعكاسات الصراعات السياسية والإيديولوجية والحزبية والشخصية والمهنية فقد عانت، أيضا، من تضارب التصورات حول مفهوم المدرسة والمؤسسة التعليمية عامة، وأهمها: التصور المركانتيلي، الذي يود أن يُلحق المدرسة والجامعة بالسوق باعتبارها مؤسسة هدفها تزويد أسواق المال والتجارة والإدارة بما تحتاجه من أطر، وأيضا التصور الوضعي أو التقني، الذي يود أن يجعل الجامعة في خدمة المعامل والصناعات المختلفة عن طريق التركيز على العلوم والتقنيات.. وكذلك التصور الإديولوجي، بمنظوره التقليداتي والحداثي، وهي تصورات ظلت تتصارع في قلب مشروع تعليمي.. لا شك في أن للدولة مسؤولية كبرى في ما يخص أزمة المدرسة المغربية، لكنْ لا بد من الاعتراف بأنّ أطرافا أخرى تتقاسمها المسؤولية في ذلك: المجتمع عامة والمجتمع المدني والأحزاب والنقابات والمؤسسات والإنتلجنسيا.