في سياق خصوصية اللحظة التاريخية التي يعيشها المغرب حاليا، والتي تتميز بتدشين نقاش سياسي عمومي في أفق إعداد دستور جديد للبلاد، نرى أنه ينبغي للحوار السياسي المفضي للإصلاحات الدستورية أن يمتد ليلا مس القضايا المجتمعية الأكثر تأثيرا، ليس في حاضرنا فقط، بل في مستقبل الأجيال الناشئة ومستقبل المغرب برمته. ويأتي في صدارة هذه القضايا طرح الأسئلة الشائكة المرتبطة بالوضعية المأزومة التي تعيشها المدرسة العمومية حاليا في المغرب. فاعتبارا لكون هذه المؤسسة هي في حد ذاتها مشروعا مجتمعيا بامتياز، واعتبارا أيضا للظرفية الحالية التي تتميز بعدم التجاوب مع الإصلاحات التي تمت مباشرتها مؤخرا، مما جعلها تعاني من انسداد حقيقي، فقد آن الأوان لحلحلة هذا الوضع غير الطبيعي، وذلك بالعمل على ا عتبار مؤسسة المدرسة العمومية أفقا للتفكير في مغرب اليوم، وصولا لإعادة الاعتبار لها والثقة فيها، وجعل الارتقاء بها شأنا يهم الجميع أفقيا وعموديا، وأن نفكر في ما يمكن اللإصلاحات الدستورية أن تقدمه من آفاق لتجاوز وضعية الانسداد ا لحالية التي تعاني منها مشاريع الارتقاء بها. وإذا كان الحق في التربية والتعليم من حقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية وفي القوانين الوطنية وفي مقدمتها الدستور المغربي، فإن هذا الحق أصبح يحتاج لكي يتم تفعيله الى مجموعة من الحقوق الأخرى، من جملتها على وجه الخصوص، دسترة الحق في مدرسة عمومية مغربية بمواصفات الجودة، وذلك لما ستتيحه هذه الدسترة من التزام فعلي للدولة وللمجتمع بإعادة الاعتبار للمدرسة العمومية والثقة فيها والحفاظ عليها وحمايتها ومن مسلسل تفريغها من خدماتها ونقلها خارجا عنها، والارتقاء بها لمراتب الجودة العالية. إن من شأن هذه الدسترة المأمولة أن تعطي مرجعية جديدة ونفسا جديدا لجهود إصلاح الاختلالات البنيوية والوظيفة في المدرسة، خصوصا بعد مرور حوالي 12 سنة على صدور المرجعية الأولى للإصلاح، وهي الميثاق الوطني للتربية والتكوين. مما لاشك فيه أنه سوف يتلو هذه الخطوة الدستورية وضع آليات وسيناريوهات، ينخرط فيها الجميع بإرادات ونوايا صادقة، للارتقاء بالمدرسة العمومية، وتفعيل مشاريع الإصلاح في مأمن من أشكال المقاولات (من داخل النظام وخارجه)، التي تجهض حاليا كل محاولات تغيير الوضع القائم. لقد تأسست المدرسة الوطنية المغربية في فجر الاستقلال في سياق تحولات سياسية ومجتمعية، طبعتها الحركة الوطنية ببصماتها الخاصة. وكان تأسيس المدرسة العمومية الحديثة لحظة مفصلية ساهمت في بلورة أحلام المغاربة في مستقبل واعدا، إذ كان ينظر الى التعليم على أنه من العوامل الأساسية الفاعلة في الحركية الاجتماعية وفي تقاسم ثروات مغرب الاستقلال. لذلك كانت انتظارات المغاربة من المدرسة العمومية غداة الاستقلال طموحة وكبيرة، لدرجة أنهم كانوا يقضون الليالي أمام أبواب المدارس المتوفرة آنذاك للظفر بحظ التسجيل بها. ورغم الجهود التي بذلت، لم تستطع المدرسة أن تتخلص من طابعها النخبوي الذي لازمها خلال فترة الاستعمار، كما أنها ظلت وفية لوظيفتها الانتقائية. إلا أن ذلك لم يمنعها من القيام بدور ريادي في مجال إنتاج أطر ونخب جديدة ساهمت بنجاح في تدبير عجلة الإدارة والاقتصاد لفترة ما بعد الاستقلال. فرغم الإكراهات والاختلالات القائمة آنذاك، تمكنت المدرسة العمومية من تحقيق جزء مهم من الرهانات المطروحة الى غاية السبعينات من القرن الماضي، ومنها علي و جه الخصوص الملاءمة بين التعليم وحاجيات التشغيل. فالمجتمع يدين للمدرسة العمومية، طيلة نصف قرن، لكل النخب والأطر التي ساهمت بفعالية في مغرب الأطر وبناء المغرب الحديث، من مختصين في التدبير ومهندسين وأطباء ومربين وأساتذة وخبراء وموظفين وتقنيين.. لم تبدأ معالم الأزمة إلا في أواسط الثمانينات حيث بدأت سلسلة التراجعات، بعد تقلص الدور الاستراتيجي للمدرسة، وتبلور سياسات اتسمت على الخصوص بالتردد وعدم الاستقرار، تجلت في إجهاض عدد من الإصلاحات قبل اكتمالها، أو تنفيذ بعض مكوناتها بشكل انتقائي أو مرتجل. كما كانت المدرسة العمومية، أيضا ضحية احتقانات وتقاطبات سياسوية، كانت تتجاهل أن المدرسة هي مؤسسة للتكوين أولا وقبل كل شيء. وفي هذا السياق، بدأت تظهر معالم أزمة هوية المدرسة العمومية المغربية، تمثل ذلك في عجزها عن تحقيق أهداف التعميم والدمقرطة وتكافؤ الفرص، وعدم تمكنها من مسايرة التحولات والمستجدات البيداغوجية، وبطئها الملاحظ في مسايرة الإيقاع المطلوب للتطوير. وهو ما انعكس على تلبية الانتظارات والطموحات الشعبية، مما حتم مسلسل المخرجات الضعيفة للتعليم. وبالفعل فقد عانت المدرسة من تعثر في الانتقال من مؤسسة وطنية استجابت لحاجيات مرحلة الاستقلال، الى مؤسسة حديثة تلتزم بمعايير الجودة والحكامة تحقيقا للتنمية، وهكذا تعطلت القدرة على التجديد المنشود والمنتظم في ا لمدرسة العمومية بفعل تراكم الاختلالات العمودية والأفقية في المنظومة التعليمية. وقد ساهمت التقارير الوطنية والدولية خلال عشرية الإصلاح الأخيرة في تشخيص اكراهات واختلالات المنظومة بدءا من تقرير اللجنة الخاصة للتربية والتكوين وتقرير مغرب الخمسينية وتقارير البنك الدولي المتاولية.. أما تقرير المجلس الأعلى للتعليم لسنة 2008 فقد قام بتشريح آفاق منظومة التعليم وشخصها في الانقطاع الدراسي المبكر، وارتفاع نسبة التكرار، خصوصا في السنوات الاخيرة من السلك التعليمي، وتدني التحصيل الدراسي في الكفايات القاعدية، والفشل في زرع قيم المواطنة، وعدم ملاءمة النظام التعليمي لحاجات سوق الشغل. وهو تشخيص مهد الطريق لمحاولة إعطاء نفس جديد للمدرسة العمومية، عن طريق ايجاد حلول عملية لتلك الاختلالات في المخطط الاستعجالي 2012/2009، و الذي يصعب حاليا إعطاء تقييم مرحلي لمدى التقدم في انجازه. ولعل من بين الاختلالات التي طفت على السطح، وانضافت الى الإكراهات البنيوية التقليدية، معيقة مسار إصلاح المدرسة في عشرية التربية والتكوين وما بعدها هي الاختلالات المهنية التي ارتبطت بتمثلات الفاعلين التربويين التي بقيت حبيسة «أبيتوس» بيداغوجي، تعودوا عليه قبل صدور المثياق الوطني. وقد تعمقت هذه الفجوة بسب غياب أي استراتيجية للتكوين الأساسي والمستمر وأي تحفيز للتنمية المهنية. إن الفاعل التربوي هو، في الحقيقة، من يصنع التغيير المعرفي والقيمي والسلوكي لدى المتعلمين، فكيف يستطيع هذا الفاعل ان ينخرط في مسلسل اصلاح بيداغوجي عميق دون ان يعاد تكوينه وتأهيله لذلك من جهة، وللتلاؤم مع نموذج بيداغوجي مفروض عليه من جهة أخرى؟ لقد تزامنت هذه الفجوة في التكوين والتأهيل التي ميزت هذه العشرية مع توسيع نسبي للتعليم الخصوصي، وهوما لم يكن مهيئا له بطاقاته الذاتية، خصوصا ما يتعلق بالتأطير البيداغوجي، وهو ما تطلب الاستعانة بخدمات الفاعلين من التعليم العمومي. لكن العديد من الظواهر السلبية رافقت هذه التجربة التي ينبغي إعادة النظر فيها لأنها تشكل استنزافا للمدرسة العمومية، التي تخضع يوميا لترحيل خدماتها خارجها، إما لفائدة التعليم الخصوصي او في شكل تسليع المعرفة المدرسية وتسويقها عبر بيع الدروس الخصوصية في البيوت وغيرها، فهل من الانصاف ان نحكم على فشل المدرسة العمومية في الوقت الذي نقف فيه شهودا على عملية افراغها من جوهر عملها، لفائدة قطاعات كان يفترض ان تكون شريكا وليس منافسا لها؟ يمكن القول إن جل الانظمة التعليمية العمومية في العالم قد تعرضت في العقود الأخيرة لتراجع في أدائها وفي مردوديتها الداخلية والخارجية، لكنها لم تصل لحد فقدان الثقة في مؤسستها المدرسية، كما أصبح يتراءى في المغرب حاليا. إذ أنه من المثير أن المدرسة العمومية اصبحت تقرن في المخيال الشعبي في المغرب بالفشل، وبالتالي تكون محط سخرية في حين أن الصورة ليست مأساوية الى هذا الحد، فرغم تراكم الاختلافات البنيوية والوظيفية ماتزال المدرسة العمومية في المغرب، هي المؤسسة التي تعيد انتاج المشترك العام في الثقافة المغربية، ومازالت تساهم في إنتاج نخب جديدة، وذلك باعتبار أن النسب الكبيرة من المقبولين في المدارس التحضيرية والمدارس العليا للهندسة والتجارة وكليات الطب هم خريجو المدرسة العمومية، وليسوا من خريجي البعثات الثقافية الاجنبية او التعليم الخصوصي، كما قد يشاع، هذا فضلا عن انها تضم حاليا أزيد من 6 ملايين تلميذ وتلميذة. إن من الانصاف والموضوعية ان نعمل على إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية والعمل على إعادة الروح إليها بالثقة في امكانياتها وطاقاتها وتقوية جاذبيتها المفقودة واستعادة ادوارها المغتالة. إن المدرسة اليوم هي في أمس الحاجة إلى دعم فعلي يمكنها من الارتقاء بأدائها، والتقليص من عبء المشاكل التي تعترض سبيلها،وخصوصا تلك التي تتجاوز مسؤوليتها، وفي نفس الوقت تلعب أدوارا معيقة لأدائها. إن شأن المدرسة العمومية يهم كل مكونات المجتمع وقواه الفاعلة التي عليها الانخراط في تعبئة شاملة، يحركها تعاقد وطني لتجديد الثقة في مدرسة عمومية للجميع. ويقتضي ذلك وجود اصطفاف استراتيجي صادق وراء المدرسة العمومية النابع من الاقتناع بحقيقة مفادها انه لا يمكن إصلاح اي قطاع في المجتمع إذ ظلت المدرسة على حالها، وذلك لسبب بسيط وهو ان المدرسة هي المجتمع الصغير الذي يفتح عليه الطفل عينيه ويتشبع بقيمه، قبل ان ينقل ما ترسخ لديه من قيم الى المجتمع الكبير عندما يصير راشدا (لاديمقراطية ولا تنمية ولا حداثة دون مدرسة عمومية بمواصفات الجودة) كما لا يمكن للمجتمع الذي ينعي مدرسته ويترحم عليها كل يوم، ان يتقدم في مسار التنمية لبسبب بسيط ايضا هو ان البشرية لم تخلق بعد بديلا اخر للمدرسة العمومية، ذات القيم النبيلة المبنية على تكافؤ الفرص. لابد إذن ونحن في سياق إعداد الدستور الجديد من تعزيز وتقوية التوافق الذي جعل من الشأن التعليمي أولوية وطنية بعد الوحدة الترابية خصوصا بعد أن أصبح واضحا الآن أن معالجة أعطاب الأداء، وبلورة الأجوبة الشفوية بشأن الاسئلة الكبرى التي يطرحها النهوض بالمدرسة لن يتم الا بتنظيم نقاش عمومي وطني حول المدرسة؟ والحوار حول سبل التعاقد من أجل إعادة الثقة لها، عبر تنظيم تعبئة وطنية شاملة حول المدرسة العمومية، واعتماد المقاربة التشاركية بين كل الفاعلين والشركاء الاجتماعيين والمجتمع المدني. ومن المهام المستعجلة.. وضع استراتيجية مندمجة للمرافعة لتقوية الموقع التفاوضي للمدرسة العمومية وتحسين صورتها ووضعها الاعتباري في المجتمع. إن رهانات إصلاح المدرسة ليست فقط بيداغوجية وتعليمية، ولكن هي أيضا سياسية ومجتمعية، لذلك نرى انه ينبغي اعطاء هذه المداخل الإصلاحية ما تستحق من اهمية، وعلى رأسها دسترة الحق في مدرسة عمومية بمواصفات الجودة، وذلك نظرا لأن ذلك يمثل الوسيلة الوحيدة المتبقية للكف عن نعيها، والانتقال الي مفهوم جديد لمدرسة عمومية حاملة لمشروع تربوي حداثي وديمقراطي.