المحطة الطرقية في الصويرة أربعة أيام بعد عيد الفطر. زوار المدينة ملؤوا المحطة، مستعدين للعودة إلى ديارهم، بعد عطلة قصيرة في مدينة الرياح. ساعة واحدة داخل هذه المحطة، التي لا يوجد في المغرب مثلها، تنسيهم متعة أيام عطلتهم في المدينة. «المساء» زارت محطة مدينة الصويرة، في نهاية الأسبوع الماضي، لتنقل لكم تفاصيل جحيم محطة ليست كباقي المحطات.. تقول لوحة مهترئة معلقة قرب أحد أبوب المدينة القديمة للصويرة إن الأخيرة مصنفة ضمن التراث الإنساني العالمي.. نظرة خاطفة إلى جوانب اللوحة تكشف عن دمار شامل يجعل «التراث العالمي» مجرّدَ شعار فارغ لا يشهد عليه واقع المدينة، الأشبه بثغر خارج من حرب. وحده الشارع المحاذي ل«كورنيش» الصويرة معبّد. بقية الطرق والأزقة مخربة وعبارة عن «بيستْ» من تراب تتخلّله حدبات متناثرة من زفت. تقود هذه الطرق المحفرة إلى جحيم: المحطة الطرقية للصويرة. تُجيل بنظرك في أرجاء المحطة فتنسى، سريعا، كلّ ما سجلتْه عيناك من مقاطع جمال طبيعي في المدينة. أول مكان يحيط فيه زائر المدينة، بما في ذلك سياحها، رجله هو هذه المحطة، وهي آخر مكان يغادره، لذلك فأغلب من يزورون الصويرة يأخذون انطباعا سيّئا فور وصولهم إلى محطتها ويغادرونها بعد أن يقضوا ساعة جحيم حتمية على كل زائر للمدينة قبل مغادرتها. كان الوضع في عطلة نهاية الأسبوع التي تلت عيد الفطر أفظع، بحكم أن عددا كبيرا من الناس حلّوا بالمدينة فور انقضاء رمضان وقرروا مغادرتها قبل نهاية الأسبوع، لانقضاء عطلهم. لهذا كان زوار المحطة الطرقية بالمئات. فرصة اتخذها نصابون ومحتالون يختلطون ب«الكورتية» وبائعي تذاكر السفر وحتى بعض المستخدمين المحسوبين على شركات نقل طرقي معروفة، للاغتناء عن طريق التلاعب في تذاكر الحافلات وفي مواعيدها. قواعد الاحتيال السبت، 25 غشت. محطة الصويرة غارقة في فوضاها كما العادة. ما إن تدخل إليها حتى يواجهك جمع من الناس، حاملين مفاتيحَ وبطاقات زيارات. «خاصّك شي بارْطما أ خويا؟».. عبارة قد تسمعها مائة مرة خلال خمس دقائق وأنت في محطة الصويرة. النشالون والمحتالون هم أسياد المكان هنا. يحاول مسافرون تجنّبهم والتوجه نحو شبيابيك شركات نقل معروفة. هذا ما فعله أحمد، الذي كان يرغب في العودة إلى الدارالبيضاء، عندما توجّه صوب شباك شركة نقل دولية لها فرع في المغرب، وهي أشهر شركة للنقل في البلاد، بعد الشركة المغربية للنقل. «طلبت من مستخدم الشركة أن يسلّمني تذكرتَي سفر إلى الدارالبيضاء بتاريخ 26 غشت. أخبرني، في البداية، أنه ليس هناك مكان شاغر، ثم عاد ليقول لي إنه يمكنه أن يوفر لي تذكرتَي سفر على متن حافلة لتنطلق عند التاسعة والنصف من ليلة الأحد، 26 غشت. ذهبت لإحضار النقود وقال لي إنه حجز لي مقعدين في مقدمة الحافلة، مومئا إلي بأن أسلمه رشوة، كما أنه عمد إلى استخلاص مبلغ 90 درهما لكل مقعد، علما أن تعريفة الشركة تحددها في 80 درهما فقط»، يقول أحمد. في اليوم الموالي توجّه أحمد إلى شباك شركة النقل في محطة الصويرة، بعدما اكتشف أن مُستخدَم الشركة سلّمه تذاكر تخص يوم 25 غشت. «أخبرني المستخدم أن تاريخ السفر هو الأحد، 26 غشت، مؤكدا ذلك مرارا. عندما عدت إليه أستفسره عن سبب كتابته تاريخا آخر تنكّر لي وقال لي إنه لم يُسلّمني أي تذاكر.. عندما واجهته محاولا تذكيره ردّ علي، وقد بدا عليه ارتباك، أنه تذكّرني وقال لي إن رحلتي كانت ليوم أمس ولم أحضر لذلك فلا يمكنني فعل شيء. كيف يُعقل أن أحلّ بمدينة الصويرة للسياحة في الثالثة زوالا وأغادرها في التاسعة ليلا من نفس اليوم؟»، يستطرد أحمد. يتعلق الأمر، حسب أحد «الكورتية» الموجودين في محطة الصويرة، بإحدى عمليات التدليس التي يقوم بها مستخدمو شركات النقل في هذه المحطة، حيث يعمدون إلى بيع المسافرين تذاكر محررة بخط اليد ويتحرّون ألا ينتبه المسافرون إلى مواعيد السفر، وحينما يأتون في الموعد المتفق عليه مع مستخدم الشركة يخبرهم أنهم هم المخطئون، إذ لم يحضروا وقت السفر، وبالتالي «لا تقبل منهم شكاية» ولا يُرجع إليهم ثمن تذاكرهم».. أوضح هذا «الكورتي»، العارف بخبايا طرق الاحتيال على المسافرين في المحطة الطرقية للصويرة، ل«المساء» أن مستخدمي شركات النقل يقومون، في الوقت نفسه، بالانتظار إلى حين التأكد من أن المسافرين الذين باعوهم تذاكر لن يأتوا في الموعد، وهذا أمر عادي، ثم يسجلونهم في سجلات تُرسَل إلى الشركة على أن المقاعد كانت مملوءة.. ولكنهم يعمدون إلى إركاب مسافرين آخرين يمنحونهم ثمن تذاكر مُفترَضة بشكل غير قانوني ولا تعلم به الشركة. «يتضاعف ثمن المقاعد لأن الأخيرة تكون كلها محجوزة ولأن المسافرين يكونون مضطرين إلى العودة إلى ديارهم، وهكذا يمكن لمقعد على متن حافلة متوجهة إلى الدارالبيضاء أن يصل إلى 200 درهم لا تحصل منها الشركة على شيء»، يُردف «الكورتي» ذاته. شرطي لآلاف المسافرين ظهر الأحد، 26 غشت الماضي. المحطمة مكتظة بالمسافرين وأشخاص كُثر لا يظهر على أن هدفهم السفر. عشرات الوسطاء وسماسرة الشقق والنشالين و»الكورتية» يجوبون أرجاء هذه المحطة، الضاجة والقذرة. يتعالى صراخ الجميع ويختلط مع سباب وصياح لأشخاص يتشاجرون. خلال أقل من 10 دقائق حدثت ثلاث مشاجرات عنيفة داخل المحطة. السبب نزاع بين مسافرين و»كورتية» ومستخدمي شركة نقل بسبب التلاعب في تذاكرهم ومواعيد الحافلات التي حجزوا مقاعد سفر فيها. شرطي و«مخزني» هما الوحيدان المكلفان بالسهر على أمن وسلامة زوار هذه المحطة. يبدو الشرطي تائها وسط المتشاحنين، بحكم أنه لا يستطيع لوحده فضّ نزاعهم. يتوجه هؤلاء إلى داخل مخفر الشرطة التابع للمحطة، والموجود بجوار شباك تذاكر الشركة، المتّهَم مُستخدَموها بالتلاعب في تذاكر المسافرين. يخبر هؤلاء الشرطي أنهم راحوا ضحية أحد هؤلاء المستخدمين، بدا وجِلا ومرتبكا. حاول الشرطي تهدئتهم قبل الوصول إلى اتفاق لفضّ النزاع بدون إثارة فضيحة للشركة المعروفة. لم يكن مسؤولو الشركة سالفة الذكر يولون هذه الصراعات اهتماما. بدوا منهمكين في إركاب المسافرين وفي تأمين مغادرة الحافلات من هذه المحطة بسلام. استفسرت «المساء» بلعمري، وهو أحد أطر فرع الشركة في الصويرة، عن سبب اتهام عدة مسافرين للشركة التي ينتمي إليها بوقوع تلاعب في تذاكر السفر خلال فترة العيد والعطلة الصيفية، فقال: «يمكن أن تقع تجاوزات، لكن هذه الشركة هي دولية ومعروفة ولا يمكن أن تدافع عن مثل هذه السلوكات، ولا يمكنني أن أدليّ بالمزيد، فالإدارة المركزية في الدارالبيضاء هي المخولة بالحديث». حملنا الأسئلة إلى إدارة الشركة المذكورة في الدارالبيضاء. اتصلنا بإحدى مسؤولاتها فطلبت منا الانتظار حتى إيفائنا برد، ثم عاودنا الاتصال مرارا دون أن تجيب عن الأسئلة، ليتصل بنا مسؤول عن الشركة دون أن يتقدم بأجوبة، هو أيضا. الطريق إلى المجهول مسافرو محطة الصويرة تائهون في فوضى عارمة. ليس هناك أمن أو نظام على الإطلاق. يمكن أن يُسرق الناس أو حتى تُفعل بهم أمور أخرى دون أن يتحرك أحد. «إدارة المحطة»، هكذا كُتب فوق باب خلفه مكاتب استحوذت على مساحة كبيرة من مساحة المحطة. كانت إدارة المحطة مغلقة طيلة مدة زيارة «المساء». لم تُفتح بانتظام، كما أخبرنا بذلك أحد مستخدمي شركة نقل في المحطة. علّق موظفو الإدارة ورقة تشير إلى نشاط نقابي، ثم انصرفوا. المحطة الطرقية في الصويرة مخيفة ليلا. الحركة الكثيفة والسريعة والظلام الدامس يخلقان في نفوس الزوار الغرباء رعبا تزيده حدة تحركاتٌ لأشخاص بجلابيب بالية ينظرون إلى الزوار بأعين متفحصة. لا مكان للجلوس داخل المحطة سوى مقاعد إسمنتية محتلة وكراسي «محلبة» محاذية لمدخل المحطة. الصبر ومدافعة الحاجات الطبيعية أفضل بكثير من دخول مرحاض المحطة، القذر، الأشبه بمجاري مهجورة تسكنها الجرذان.. مسجد المحطة صغير جدا. لهذا الغرض يضطر مصلون إلى افتراش الأرض للصلاة. صراخ عنزة بيضاء مُقيَّدة ومرمية وسط المحطة يزيد النفس نفورا. مسافرون يظهر عليهم خوف كبير وهم يقفون متسمرين أمام حافلات تأخر موعد انطلاقها. جل الحافلات الموجودة في المحطة متهالكة. الشجار بين الركاب على مقاعد مُرقَّمة مألوف هنا بسبب تلاعب «كورتية» في أرقام المقاعد. كراسٍ بلاستيكية صغيرة توضح على طول الممر المخترق للحافلة، بين المقاعد، كي يجلس عليها ركاب إضافيون بطريقة غير قانونية.. تنطلق الحافلات عبر الطرق المحاذية للصويرة، والتي تسجل أعلى أرقام لحوادث السير المميتة في المغرب. تتوقف الحافلات، مرارا، لنقل أشخاص جدد وإعطائهم تعليمات بالاختباء عند المرور بدورية للدرك الملكي.. هذه بداية مغامرة أخرى تُحوّل رحلة مسافرين إلى المجهول.