تتحدث «المساء» في ركن «مهن وحرف في طريقها إلى الانقراض» عن مهن وحرف لم تعد تؤمن رزق أصحابها، بفعل التطور التكنولوجي والتغيرات السلوكية والحضارية للإنسان. كانت بالأمس الأسلوب الوحيد لتغطية مصاريف الحياة لدى العديد من الأسر المغربية بالمدن والقرى، علمها الأجداد للآباء والأمهات، وتوارثها الأبناء والأحفاد، الذين تشبعوا قرونا مضت بالمثل المغربي «تبع حرفة بوك يلا يغلبوك». مهن وحرف رأسمالها مواهب وذكاء وعتاد بسيط، كلفت الإنسان المغربي شيئا من الصبر والعزيمة، وربما بعضا من النصب والاحتيال، ومنحته بديلا غير مكلف، للحصول على المال والاحترام. وأغنت البعض عن التجارة والفلاحة والأعمال الوظيفية. لكن تلك المهن والحرف لم تعد لها زبائن الأمس. جولة قصيرة بالوسط المغربي، وخصوصا القروي منه، تجعلنا نلمس عن قرب واقع تلك المهن وحياة ممتهنيها، ونعيش معهم مرارة الاحتضار الذي تعيشه وسط مجتمع منشغل بالبحث عن الجديد والمستجد. انقرضت حرفة (الحصايري) من أغلب المدن والقرى المغربية، بعد أن غزت الأسواق السلع الأجنبية البديلة، والتي أصبح بعضها يصنع داخل المغرب. فالمستهلك المغربي الذي كان حريصا على اقتناء (الحصائر) المصنوعة من (الدوم) أو (السمار)، والتي وجد فيها لعدة قرون الفراش اللازم لتأثيث غرف وفناء منزله. لم يعد مهتما بهذا المنتوج البدائي، بعد أن انتشر الحصير البلاستيكي و السجائد البلاستيكية والزرابي اليابانية والصينية والتركية، وأنواع مختلفة من (الموكيط)، بأثمنة تختلف باختلاف الجودة ونوعية ومصدر المنتوج. وتوافق مستوى عيش معظم الأسر. وإذا كان بعض الحرفيين، لازالوا متشبثين بصناعتهم، فإنهم يقاومون فقط إعصار الزمن، بحكم أنهم لا يستطيعون إيجاد مهن بديلة. فيعملون على الإبداع أكثر من أجل الحفاظ على بعض زبائنهم، كما يسعى آخرون إلى جعلها تساير التطورات الحالية، أو جعلها منتوجا سياحيا. وتعود حرفة (الحصايري) إلى عهد الفتوحات الإسلامية بجنوب أوروبا، ولاسيما في الأندلس التي شهدت ظهور صناعات فنية راقية ما تزال الحضارة الإسلامية تفتخر بها حتى الآن، منها صناعات الفسيفساء والزخارف والهندسة المعمارية. وظلت تورث من جيل لآخر، نظرا لما كانت توفره من مداخيل مالية لممتهنيها. لكن عدم الاهتمام بها كصناعة بالإمكان تطويرها وهيكلتها. أدى إلى تراجع عدد حرفييها، وعزوف بعضهم عن توريثها للأبناء والأحفاد. فعدد زبائن (الحصايري) في تقلص مستمر. ولم تعد معظم الأسر تستعمل الحصير اليدوي، إلا في حالات نادرة (منازل الاصطياف، منازل قروية لأسر فقيرة، ...). كما لازال (الحصير اليدوي) يستعمل داخل بعض المساجد العتيقة، إما كفراش أساسي، أو كفراش لزرابي أو (موكيط) ليزيد أرضية تلك المساجد متانة. كما يستعمل في قطاع السياحة، داخل بعض الفنادق التي تعتمد على التراث المغربي في جلب السياح. ويروجها كذلك بعض تجار الصناعة التقليدية لبيعها للسياح الأجانب والمقاهي والفنادق. إن المغاربة من مختلف مناطق بلدهم، تفننوا في صناعة (الحصير اليدوي). وهو ما يجعل هذه الصناعة ذات قيمة تاريخية وتراثية كبيرة. تجمع في طياتها مزيجا من الفنون العريقة والإبداع الجميل الذي يرتبط بفنون صحراوية وعربية وأمازيغية وأندلسية وحضارات تعاقبت على مختلف مدن المغرب. و يتكون منسج صناعة الحصير التقليدي من العديد من الأدوات الخشبية أبرزها (البالو) الذي يعود تاريخه إلى العصر الأندلسي ، والنباتات الطبيعية المجففة (السمار) والتي تنبت بالمروج والبحيرات على شكل أغصان رقيقة بألوان متعددة، أو نبتة (الدوم) التي تنبت بالإضافة إلى بلح الدوم، خيوطا نباتية خضراء يصعب تقطيعها باليد. وهي نباتات ربانية تنبت طبيعيا بعدة مناطق. ويقوم الحرفي بفرز أعواد (السمار)، أو (خيوط الدوم)، حسب طولها، وتهيئة ما يسمى ب(المرمة) بجزم الميم وفتح الراء، لصناعة حصير جديد. ويحتاج (الحصايري) إلى معاونين له، كما يحتاج إلى مساحات كبيرة، ليتمكن من صنع حصير بأطوال مختلفة. ويحتاج إلى إعمال العقل لضبط حسابات الزخرفة (الزواقة)، التي تحسب بالعد الفردي، وتعد بالمئات يبتكرها الصانع أو يقلدها (بريطلات، اللويزات، بني أحمد، بقريطات، التفافح...). يقوم الحرفي بعزل الأبيض من (السمار) والمائل إلى الحمرة والخضرة، ويغسله ليصبح لامعا، وبعد ذلك يوضع الكل في برميل (حفرة مخصصة)، حيث تتم (الكبرتة) (أي تصفيفه ووضع الكبريت وسطه ليزداد لمعانا)، ثم يتم صبغه بألوان سوداء وخضراء وحمراء (منها الفوة والرومية) باستعمال ماء دافئ.. وعندما ننتهي من تهيئة المواد الخاصة بالنسج، ينصب المرمة (المنسج) وقالب (البالو) (تسمية أندلسية)، المخصص لضبط مساحة الحصير.. ولشد (الطوال) (الأحبال) يستعمل (القريطو) (تسمية أندلسية أيضا). وتختلف أثمنة الحصير التقليدي، باختلاف جودة العمل وإبداعات (الحصايري). وتتراوح ما بين 40 و150 درهم للمتر المربع. لكن الوضع الحالي حتم على (الحصايري) التخفيض من ثمن الحصير، لمواجهة المنافسة الشرسة لباقي الأفرشة والسجائد العصرية. علما أن صناعة الحصير قد تتطلب أياما أو أسابيع، كما تتطلب عملا جماعيا، وهو ما يجعلها في الوقت الحاضر حرفة غير قادرة على تغطية مصاريف أسر ممتهنيها. إضافة إلى أن الزحف العمراني والتلوث البيئي أضر بالطبيعة، وأتلف مساحات أرضية كبيرة، كانت إلى وقت قريب أحواضا لنبتتي (الدوم والسمار). وهو ما «جعل العديد من المناطق تعرف توقف (الحصايرية) عن صناعة الحصير، بعد أن فقدوا المواد الأولية لصناعاتهم، وبعد أن استعصى عليهم الحصول عليها من مناطق أخرى. ورفضوا تكبد عناء شراء تلك المواد الأولية، لأنها ستضر بهامش الربح الضعيف الذي يحصلون عليه من زبائنهم. فالمغرب أصبح يتوفر على شركات لصنع الحصير البلاستيكي، والذي يحتاج إلى مواد أولية قد يتم استيرادها من الخارج، كحبيبات البلاستيك من مادة البولي بربولين والخيوط البلاستيكية مختلفة الجودة والصباغات. بالإضافة إلى أن تلك الشركات، التي تنتج آلاف القطع من الحصير بمختلف المساحات والأشكال الهندسية، تتفوق على (الحصايري) بطريقة تناغم وتمازج الألوان التي تناسب كل الأذواق وترضي جميع الاختيارات. كما أن هناك شركات لصنع بعض أنواع (الزرابي) و(الموكيط)، التي تنافس بدورها باحتشام التدفق الكبير للزرابي والموكيط والحصير البلاستيكي المستورد من دول كبرى (الصين، تركيا، اليابان،...). وقد حاول العديد من (الحصايرية) خلق جمعيات أو تعاونيات لإنقاذ صناعتهم. وضمان استمرارها دون جدوى، كما حاولت عدة جهات مدافعة عن التراث الشعبي المغربي، أن تعدد في محاسن وجودة (الحصير التقليدي)، ومحافظته على البيئة وصحة الإنسان، مقارنة مع باقي المفروشات الصناعية التي تعتمد على مواد كيماوية ذات خطورة على البيئة والصحة. كما عدد بعضهم أنواع السموم والميكروبات التي تفرزها بعض الأفرشة العصرية، لكن المستهلك المغربي الذي استهوته تلك المنتجات الصناعية العصرية، بألوانها وأثمانها، أغلق آذنيه في وجه كل عمليات التحسيس والتوعية التي أطلقت. ولم يعد مقتنعا بحرفة (الحصايري) التي أدخلها ضمن خانة الحرف التراثية التي أكل عليها الدهر وشرب.