لعله من اللافت من الوجهة الموسيقية الصرفة، حصر مختلف الفنون المغربية الأصيلة، سواء العالمة منها أو الشعبية، لاعتبارات متعددة مرتبطة أساسا بالغنى الحضاري والإثني والعرقي للمغرب، فعلى مدى قرون تعاقبت على هذا البلد، حضارات وأجناس وإثنيات، شكلت بشكل تراكمي، مجموعة من الألوان الفنية، والتعابير الموسيقية، الحبلى بالعديد من التفاصيل، والتي غالبا ما لا نلتفت إليها، عن قصد أو غيره، مكتفين بظاهر الأمر عوض البحث عن بواطنه. ولعله من نافلة القول إن تراثنا، بمختلف مكوناته، يعاني من إجحاف ما بعده إجحاف، فكثيرا ما يختزل في جوانبه الفلكلورية، وغالبا ما يبخس حقه في التبريز والإظهار، فلا يمرر في وسائل الإعلام إلا على مضض، وبأشكال تسيء إليه أكثر مما تفيده. هذه الحلقات ستحاول أن تسلط الضوء على مجموعة من فنوننا التراثية، بغية إظهار جوانبها المشرقة، عن طريق مقاربتها من وجهة أكاديمية صرفة، علها تساعد في إعادة النظر في هذه الثروة الفنية التي يحق للمغرب الافتخار بها. بعد حوالي ربع قرن على استتباب الأمر للمرابطين بالأندلس، عادت حروب الاسترداد La reconquista، مرة أخرى، وتوالى سقوط العديد من المدن الأندلسية، سرقسطة ابن باجة سنة 512 ه، وإشبونة وشنترين سنة 542 ه، وطرطوسة سنة 543 ه، وماجة سنة 556ه ويابرة سنة 561 ه، خاصة بعد ضعف دولة المرابطين، ولم يوقف هذا النزيف، إلا قيام دولة الموحدين، التي حاربت الإسبان وأوقفت سلسلة الهزائم، وأمدت في الوجود العربي بالأندلس نحو قرن من الزمان، بعد سلسلة انتصارات حاسمة أهمها معركة الأرك سنة 593ه. وأصبحت دولة الموحدين تمتد من قشتالة غربا إلى برقة ليبيا شرقا. وعم الأمن وترتب عنه الرخاء الاقتصادي، وحظي رجال العلم بالتكريم، وكيف لا ونحن نجد من بين الخلفاء من كان شاعرا، كعبد المومن بن علي وأبي يعقوب وأبي يوسف يعقوب المنصور، وإذا كان الموحدون قد تشددوا في موقفهم من الموسيقى، في بداية عهدهم، فإن هذه القيود سرعان ما ستخفف مع توالي السنين، خاصة بالأندلس. وعن هذا النشاط يخبرنا التيفاشي، بقوله: «في هذه المدينة (يقصد إشبيلية) عجائز محسنات، يعلمن الغناء لجوار مملوكة لهن، ومستأجرات عليهن مولدات، ويشترين من إشبيلية لسائر ملوك المغرب وإفريقية، تباع الجارية منهن بألف دينار مغربية وأكثر من ذلك وأقل على غنائها لا وجهها، ولا تباع إلا ومعها دفتر فيه جميع محفوظها...، فمنها أشعار خفاف تصلح للابتداء، ومنها أشعار ثقال لا يغنيها إلا منته مجيد في صنعة الغناء. وفي نفس العصر أي الموحدي أتم العمل الذي دشنه أبوبكر ابن باجة، بعض تلاميذه وأقرانه، نذكر منهم أبا الحسين علي ابن الحمارة الغرناطي، يقول عنه المقري في نفح الطيب: «ممن برع في الألحان وعلمها، وهو من أهل غرناطة، واشتهر عنه أنه كان يعمد إلى الشعراء، أي الشجر، فيقطع العود بيده، ثم يصنع عودا للغناء، وينظم الشعر ويلحنه ويغني به، ومن شعره: إذا ظن وكرا مقلتي طائر الكرى رأى هذبها فارتاع خوف الحبائل ونسب التيفاشي لابن الحمارة، تلحين تسع صنعات من الشعر الفصيح. ودخل ابن الحمارة الغرناطي مدينة سلا، وقد انتهى القاضي أبو العباس بن القاسم، من اسرة بني عشرة، من بناء قصره، فارتجل هذين البيتين: يا واحد الناس قد شيدت واحدة فحل فيها محل الشمس في الحمل فما كدارك في الدنيا لذي أمل ولا كدارك في الأخرى لذي عمل ومن تلاميذ ابن باجة ابن الحاسب المرسي، الذي يعتبره التيفاشي قد أدرك من صناعة الغناء علما وعملا لم يدركهما أحد، ويعتبر أن كل تلحين يسمع بالأندلس من شعر متأخر هو من صنعته. ويذكر المقري في نفح الطيب، وصف أبي جعفر الوزير استقبال ابن الحاسب له، قائلا: «ثم قام إلى خزانة فأخرج منها عود غناء يطرب دون أن تجس أوتاره، وتلحن أشعاره، واندفع يغني دون أن أسأله ذلك: وما زلت أرجو في الزمان لقاكم فقد يسر الرحمان ما كنت أرتجي فلما فرغ من استهلاله وعمله، قبلت رأسه وقلت له: فما هذا الصوت؟ قال: هذا نشيد خسرواني من تلحيني. ومن موسيقيي العصر أمية ابن عبد العزيز الداني، الذي استقبلته المهدية الواقعة على الساحل التونسي، إذ أكرمه الأمير يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، كان متضلعا في الآداب والعلوم الطبية والرياضية والموسيقية، لا يجارى في الضرب على العود وفنون التلحين: «كان يكنى بالأديب الحكيم، وهو الذي لحن الأغاني الإفريقية وإليه تنسب» كما يذكر ابن سعيد في «المغرب». ومن أعلام العصر الموحدي كذلك، الوشاح والزجال أبو الحسن علي النميري المعروف بالششتري، المولود عام 610 ه، بششتر قرية بوادي آش بالأندلس، والمتوفى عام 668 ه/ 1169م، قرب دمياط المصرية، حفظ القرآن الكريم منذ صغره، ثم أقبل على دراسة علوم عصره، وتتلمذ في الفلسفة والتصوف على يد شيخه ابن سبعين، الذي اختبره بأن طلب منه أن يحمل بنديرا ويطوف بالأسواق، يغني الأزجال: بديت بذكر الحبيب وعيشي يطيب، وفي اليوم الثالث استطاع إكمال المطلع، بقوله: لما دار الكاس ما بين الجلاس أحيتهم الأنفاس عنهم زال الباس وضمن المتن الأدبي لطرب الآلة، نطالع حوالي أربعين مقطوعة شعرية لأبي الحسن الششتري، مبثوثة بين العديد من النوبات. ولا تفوتنا ونحن في العصر الموحدي، أن نذكر بداية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وكان أول من دعا إلى هذا الاحتفال قاضي سبتة، أبو العباس أحمد العزفي، لأنه لم يرقه أن يحتفل المسلمون بأعياد النصارى، فوجه العناية إلى الاحتفال بمولد سيد الخلق، وعمل ابنه أبو القاسم محمد العزفي، بعد أن أصبح أمير سبتة، على تحقيق هذه الدعوة، وأتم كتاب والده: «الدر المنظم في مولد النبي المعظم»، وأهدى نسخة منه للخليفة الموحدي عمر المرتضى، الذي أصبح بدوره يحتفل بليلة المولد بمراكش، وهي ليلة قال عنها ابن عذاري في البيان المغرب: «كان يفيض فيها الخير والإنعام». (يتبع) أستاذ مادة التراث الموسيقي المغربي بالمركز التربوي الجهوي بالرباط