لعله من اللافت من الوجهة الموسيقية الصرفة، حصر مختلف الفنون المغربية الأصيلة، سواء العالمة منها أو الشعبية، لاعتبارات متعددة مرتبطة أساسا بالغنى الحضاري والإثني والعرقي للمغرب، فعلى مدى قرون تعاقبت على هذا البلد، حضارات وأجناس وإثنيات، شكلت بشكل تراكمي، مجموعة من الألوان الفنية، والتعابير الموسيقية، الحبلى بالعديد من التفاصيل، والتي غالبا ما لا نلتفت إليها، عن قصد أو غيره، مكتفين بظاهر الأمر عوض البحث عن بواطنه. ولعله من نافلة القول إن تراثنا، بمختلف مكوناته، يعاني من إجحاف ما بعده إجحاف، فكثيرا ما يختزل في جوانبه الفلكلورية، وغالبا ما يبخس حقه في التبريز والإظهار، فلا يمرر في وسائل الإعلام إلا على مضض، وبأشكال تسيء إليه أكثر مما تفيده. هذه الحلقات ستحاول أن تسلط الضوء على مجموعة من فنوننا التراثية، بغية إظهار جوانبها المشرقة، عن طريق مقاربتها من وجهة أكاديمية صرفة، علها تساعد في إعادة النظر في هذه الثروة الفنية التي يحق للمغرب الافتخار بها. لم يحفل العرب الفاتحون بالاستيلاء على منطقة «جلبيقية» الواقعة شمال غرب شبه الجزيرة الإيبيرية، فأنشأ فيها النصارى حركة مقاومة، بدأت تتسع إلى أن تمكن ألفنسو الأول من السيطرة على المنطقة، وإحاطتها بسلسلة من القلاع والحصون، ولم يكتمل القرن الرابع الهجري حتى كانت إمارة قشتالة قد قامت، وبدأت المناوشات التي تصدى لها الأمراء الأندلسيون، وخاصة عبد الرحمان الناصر، غير أن القرن الخامس حمل النصر للنصارى، إذ تمكن النورمان من الاستيلاء على بربشتر سنة 456 ه، وبعد حوالي ربع قرن سقطت طليطلة عام 478 ه، فلم يجد ملوك الطوائف بدا غير الاستنجاد بالمرابطين بالمغرب، وخاصة المعتمد بن عباد بيوسف بن تاشفين، فكانت معركة الزلاقة سنة 479 ه / 1086 م، قرب بلدة بادخوص، وكتب النصر للمسلمين، غير أن عودة ملوك الطوائف لما كانوا عليه من تناحر، وتسابق بعضهم للتحالف مع العدو، جعل المرابطين يعودون لبسط اليد على الأندلس وإرجاع الأمور إلى نصابها. في هذه الظروف نشأ الفيلسوف ابن باجة، الذي قلنا عنه في الحلقة السابقة، إنه كان له فضل بذر البذرة الأولى، لما أصبحنا نسميه طرب الآلة أو الموسيقى الأندلسية المغربية. وفيلسوفنا هو أبو بكر محمد بن يحيى التجيبي الأندلسي السرقسطي المعروف بابن الصائغ، قال عنه ابن أبي أصيبعة في عيون الأطباء: «كان متقنا لصناعة الموسيقى جيد اللعب بالعود»، وقد ذكر له ثمانية وعشرين مؤلفا، تقع في ثلاث فئات: شروح أرسطوطاليس، تأليف اشراقية، ومصنفات طبية. عمل وزيرا وكاتبا «لأبي إبراهيم بن تيفلويت (الصفحة غير موجودة)» لأبي إبراهيم يحيى بن تيفلويت الذي كان يكرمه بسخاء، إذ كان كلاهما محبا «الموسيقى» الموسيقى وبقي وزيرا حتى توفي سنة 1138 م بفاس، مسموما في باذنجان، لمواقفه المعروفة من التصوف، وسلوكه مسلك الفلسفة العقلية. قال عن المرابطين (الملثمين): قوم إذا انتقبوا رأيت أهلة وإذا هم أسفروا رأيت بدورا اعتبره أحمد المقري في نفح الطيب: «في المغرب بمنزلة أبي نصر الفارابي بالمشرق، إليه تنسب الألحان المطربة التي عليها الاعتماد». أشرنا سابقا من خلال نص التيفاشي في متعة الأسماع، إلى دور ابن باجة في مزج غناء النصارى بغناء المشرق، وكذلك لتهذيبه للاستهلال والعمل، ويخبرنا التيفاشي عن ترتيب مراحل الغناء في المغرب: «صارت تقوم... على نشيد واستهلال وعمل ومحرك وموشحة وزجل وجميعها تتصرف في كل بحر». إذن، فابن باجة كان له دور حاسم، في عملية مزج الغناء الوافد مع الغناء المحلي، وكذلك في تهذيبه للاستهلال والعمل، وهما مرحلتان إيقاعيتان، فالاستهلال أبطأ من العمل، وقول التيفاشي بتهذيب ابن باجة لهما، معناه أن المرحلتين ربما اعتراهما خلط في الأداء، وقد نسب التيفاشي لابن باجة تلحين عدد قليل من الصنائع، من الشعر الفصيح، ذلك أن الموشحات كانت المصادر القديمة تهمل ذكرها، فابن بسام في كتابه «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة»، اعتبرها خارجة عن أغراض الديوان، بقوله: «إن أكثرها على غير أعاريض العرب»، وعبد الواحد المراكشي في «المعجب»، يقول: «العادة لم تجر بإيرادها في الكتب المخلدة»، وإذا علمنا أن الموشحات تشكل الجزء الأكبر من المتن الأدبي للآلة، فمعنى هذا أن ما لحنه ابن باجة، أكثر بكثير مما نسبه التيفاشي لابن باجة. وللدلالة على تمكن الفيلسوف أبي بكر ابن باجة من علم الموسيقى، نقتطف نصا له من كتابه «النفس»، يقول في معرض حديثه عن القوة السامعة: «كما يعرض في الآلات المصوتة كالعود، ولذلك يكون الصوت نغمة، فإن النغمة صوت يبقى زمنا محسوسا، ولذلك لم يكن كل صوت نغمة، فلذلك متى ردفه صوت آخر، امتزج الهواءان وهما بأحوال مختلفة، فحدثت نغمة ممتزجة إما ملائمة أو منافرة»، ترى ماذا نستنتج من قول ابن باجة؟ الاستنتاج الأول يخص تعريف النغمة، فلكي يكون الصوت نغمة، لا بد أن يبقى زمنا محسوسا، كما يحدث عندما ننقر وتر العود مثلا، إذ يبقى الصوت مسترسلا مدة معينة، عكس ما يحدثه مثلا سقوط قلم على الأرض، فلا يعتبر نغمة لأنه لا يبقى زمنا محسوسا. أما الاستنتاج الثاني فنستقيه من حديثه عن الحالة، التي يلي فيها الصوت صوتا آخر، حيث قال إن النغمتين تمتزجان، وينتج عنهما إما نغمة ملائمة أومنافرة، وهذا حديث جد مبكر عن علم الهرمنة في الموسيقى. قال ابن باجة عندما حضرته الوفاة: أقول لنفسي حين قابلها الردى فراغت فراراً منه يُسْرى إلى يُمنى قَرِي تحملي بعضَ الذي تكرهينه فقد طالما اعتدت الفرار إلى الأهنا (يتبع) أستاذ مادة التراث الموسيقي المغربي بالمركز التربوي الجهوي بالرباط