كل سنة تشهد المؤسسات الاجتماعية ودور العجزة تزايدا كبيرا في عدد النزلاء والنزيلات من المسنين الذين قدر لهم أن يقضوا ما بقي لهم من العمر داخل أسوار هذه المؤسسات الاجتماعية، فالعديد منهم أجبر على العيش هناك، بحكم الفقر أو المرض أو تخلي وتنكر أبنائهم وأسرهم لهم، ومنهم من جعلتهم ظروف الزمن وشقاء الحياة يعيشون في حجرات النسيان داخل مؤسسات الرعاية الاجتماعية أو ما يطلق عليه «قبر الحياة». اختلفت أعمارهم ومشاكلهم العائلية، وقاسمهم المشترك هو المعاناة، والحرمان والنسيان، والعزلة، ونكران الجميل.. تعددت قصص وروايات المسنين، حول الظروف التي جعلتهم بين عشية وضحاها عرضة للتشرد والتهميش، بدون معيل ولا أنيس. رجال ونساء مرميون في الشارع بعدما بلغ بهم الكبر عتيا وهزل عودهم. منهم من فقد من يعيله، ومنهم من تنكر له أبناؤه وأداروا له الظهر، فهؤلاء الأشخاص، وجدوا أنفسهم قد رست بهم سفينة العزلة في يم النسيان بدور رعاية المسنين. «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا» على مدخل المركز الاجتماعي لرعاية الأشخاص المسنين بحي النهضة، كانت هذه الآية مثبتة على الجدار، لتكون أول ما تقع عليه عينا الزائر. الساعة تشير إلى الواحدة بعد الزوال، الهدوء الذي كان يخيم على الدار لم يكن يوحي بأنها تضم كائنات بشرية في الداخل. الزائر للدار يكون مجبرا على اجتياز مختلف مرافق الإدارة، قبل الوصول إلى مكان إقامة النزلاء، الموزعين بين إقامتين مخصصتين للرجال والنساء. وسط حديقة المركز يجلس رجلان، الأول يتأمل في الكون بنظرات ثاقبة والحزن باد على تقاسيم وجهه، الذي تجلت عليه لفحات الشمس الحارقة.. ينظر بعينين تائهتين إلى الأفق البعيد، ماسحا بنظراته صفحة السماء كأنما هو فلاح تؤرقه حالة الطقس التي تنعكس سلبا على محصوله، مطلقا العنان لتفكيره، وتجاعيد كبر السن قد برزت على وجهه الموشوم بالكآبة والمعاناة التي يخفيها. غير بعيد عن هذا الرجل، يجلس محمد على كرسيه المتحرك حاملا كتاب الله بين يديه وهو منغمس في تلاوته، يرفع رأسه بابتسامة باهتة مرحبا بزائريه، قائلا بصوت يكاد لا يُسمع «مرحبا» قبل أن يعود ليتيه بين سطور المصحف الكريم الذي كان بصدد تلاوة آياته. وفي الزاوية الأخرى، تحت ظل شجيرة تجلس امرأة ذات بشرة بيضاء، وهي تنظر بعينين خضراوين إلى واجهة الباب، ظنت أن أحد الزوار سيكون فردا من أفراد عائلة النزلاء، أو أعضاء جمعية أتوا ليتبرعوا لهم ببعض الملابس والمأكولات وغيرها. جندية متقاعدة دار العجزة «عنوانا كاين في باب دار المنسيين» بهذه العبارة استهلت مسنة في عقدها السابع كلامها وهي عبارة كافية لمعرفة الوضعية غير المرضية التي يعيشها نزلاء دور العجزة، ترددت كثيرا قبل الكشف عن مجال اشتغالها قبل أن تنتهي بها الأيام في «قبر الحياة». التمست خديجة (إسم مستعار) عدم ذكر اسمها الحقيقي خاصة أن عائلتها ليست على علم بمكان تواجدها، حفاظا على ماء وجهها. واصلت خديجة حديثها قائلة «أنا كنت في الميليتير ومخليت حتى بلاصا في المغرب»، قبل أن توجه اتهاماتها إلى الدولة المغربية التي قالت إنها لم تنصفها، كانت هذه الصرخات المبحوحة لامرأة عانت الذل ومرارة الإقصاء، وبعد لحظات من الصمت المطبق استطردت، «لم أتخيل يوما أن تتخلى عني عائلتي وتحديدا فلذة كبدي الذي تركني وغادر أرض الوطن» قبل أن تضيف أن ابنها لا يتذكرها إلا بين الفينة والأخرى لينقطع هذا الحبل بشكل نهائي. خديجة طرقت أبواب المدن والقرى، ولم تترك منطقة إلا وطأتها قدماها، اكتسبت من الحياة تجارب وعبر مكنتها من أن تكون على إلمام بخبايا الدنيا وأسرارها، إنها أرشيف بدون أوراق.
غدر الزمن توفي ولداي الوحيدان في حادثة سير مؤلمة، مضى على هذا الحادث حوالي سنتين، وكأنه حدث بالأمس، تقول مليكة (اسم مستعار)، وهي تسرد وقائع دخولها إلى الدار بمجرد سؤالها عن حالها، تطلق تنهيدة عميقة وتبدأ في حديثها عن ماضيها وحاضرها الذي لم تر فيه سوى الألم والمعاناة، «كان ابني الأكبر الذي درس الحقوق، عانيت معه سنوات من مشقة في الدراسة والتنقل إلى مدينة فاس، وبعد ذلك اشتغل عونا قضائيا لمدة خمس سنوات، وابني الثاني كان لاعب كرة قدم»، تواصل مليكة حديثها وهي تحمل مسبحة تغازلها بأناملها وعيناها الذابلتان مغرورقتان بدموع الحسرة والوحدة. قبل أن تستطرد «توفي زوجي وأبنائي وبقيت وحيدة في هذه الدنيا ماعندي حد سوى الله تعالى» قبل أن تضيف بصوت مرتبك «تركت لي أمي منزلا كانت قد اشترته من عند أجانب فرنسيين، إلا أنه كان غير محفظ وبما أن أخي كان ينوب عني في كل شيء، ذهب وحفظ المنزل في الوكالة العقارية باسمه». تضيف مليكة، بعد مرور سنين توفي أخي واكتشفت بالصدفة أن المنزل قد حفظ باسمه وأصبح ملكا لأولاده، حاولت استرجاع نصيبي من هذا الإرث إلا أنهم لم يكلفوا أنفسهم سوى عناء الزج بي في المركز لأجد نفسي لا حنين ولا رحيم». ومن الحكايات المؤلمة، تلك التي رواها مصطفى، واحد من المسنين الذين انتهت بهم الأقدار إلى الاستقرار في عالم منغلق على نفسه، يقول مصطفى «جئت من منطقة تاوريرت تزوجت وتوفيت زوجتي، ولم نرزق بالأولاد تساريت في المدن وخدمت في الفلاحة ودرت في الأسواق ومخليت حتى بلاد» يحكي والابتسامة العريضة لا تفارق وجهه، مصطفى المعروف بدعابته والملقب داخل المركز ب»الحلايقي» لأن كل حديثه وكلامه تخرج منه قصائد بكل عفوية تلخص ما عاشه وما واكبه من أجيال في مسار حياته، ينظم كلاما شبيها بالزجل يرويه بعينين ذابلتين على زواره، قبل أن يستطرد، «وفي آخر أيام عمري وجدت نفسي في الشارع لا أسرة ولا ولد أستند عليه في مرضي». نكران الجميل جعل الله للوالدين مكانة رفيعة ودعا إلى البر بهما ورعايتهما ومعاملتهما بالحسنى، ووضع الرأفة والرحمة في رضاهم والفردوس تحت أقدامهم، ومن المسنين من حرم من نعمة إنجاب الأولاد، فلم يكن ذلك مانعا أو حاجزا لهم في أن تستمر الحياة عندهم، وأن يتكفلوا بتربية أطفال من أجل الإحساس والشعور بالأبوة، هذا ما سترويه رقية (اسم مستعار) في عقدها السابع: «كنت متزوجة وربي ما عطانيش لولاد ربيت بنت حتى كبرات وتزوجات» تحكي وتخفي دموعها بين جفنيها، ومنشغلة بالخياطة اليدوية لقطعة صوف لطفل صغير، تضيف بسلاسة وبنبرة حزينة «أنا ما يمكنش لي نجلس عندها، علاه النسيب غادي يقبلني نجلس عندو. ففي الغالب وفي بعض المناسبات تأتي لتزورني بين الفينة والأخرى». تتذكر فاظمة 84 سنة، ذكرياتها الأولى عندما كانت طفلة صغيرة عندما أحظرت من البادية إلى المدينة لأجل الاشتغال بالمنازل لإعالة والديها اللذين كانا يعانيان من ضنك العيش والفقر. تقول فاظمة: «المرأة لي كنت كنخدم عندها رباتني عجوزتها جئت عندها من عهد محمد الخامس كنت ديك الساعة صغيرة» وبصوت هادئ تستطرد «تزوجت وربي ما عطانيش لولاد» تقول بنبرة خافتة وغصة البكاء تقطع حديثها الخافت، «بعدما ربيت أولادها حتى بلغوا سن الزواج، وبعد سنين من الخدمة والتربية» وبنبرة الحسرة والدموع تنسكب على وجنتيها «كنت كنخدم بنيتي حتى تقدات صحتي وتهرست من ظهري (العمود الفقري) بسبب اعتداء إحدى خادماتها في الدار داروا ليا هاد شيء وجراوا عليا بلا ريال بلا زوج سنين وأنا أعاني من هذا الحادث، تضيف بعينين قد جفتا من البكاء، وقد تغيرت ملامحها ويدها «ترتعد» بخجل وارتباك عند تذكر الماضي الأليم، فاظمة حين تذكر سنوات المحن والمعاناة، تنتابها حالة نفسية هستيرية. في المناسبات والأعياد الدينية مع حلول كل مناسبة دينية تزداد معاناة هؤلاء الأشخاص بإحساسهم بالغبن، والحرمان من الدفء والجو الأسري، والعزلة عن المجتمع، خاصة مع ما يرافق شهر رمضان من طقوس وروحانيات دينية. حيث يجتمع ويلتئم فيه الأحباب حول مائدة واحدة واقتسام لحظات وأجواء الفرحة والحنان الأسري، هذا ما تفتقد إليه هذه الفئة المهمشة و«المنبوذة» من طرف المجتمع . تقول إحدى المسنات بمركز العجزة : «نحن نحس بنوع من «الحكرة» وبطعم الوحدة والنسيان، فرغم جهود بعض الجمعيات التي تسعى للقيام بأعمال خيرية، في المناسبات والأعياد الدينية، خاصة في شهر رمضان عبر عمليات الإفطار الجماعي، والقيام بسهرات ترفيهية، فإنه يمكن تلخيص حالتنا «حنا المسنين راه كاين عنوانا في الباب دار المنسيين» .إحساس بالغربة داخل وطن بعدما منحهم السعادة الملفوفة بالأحزان في مراحل أرذل العمر. حرب المشادات اليومية رغم أن هؤلاء المسنين تجمع بينهم قواسم مشتركة، الوحدة، العزلة، والتهميش، فإنه في الغالب ما تنشب بينهم خلافات يومية، تتحول إلى شكاوى ودعاوى تنقل إلى المساعدين الاجتماعيين أو إلى مدير المركز. هذه النزاعات قد تصل في بعض الأحيان إلى مشادات كلامية بين النسوة أو بين الرجال، بسبب أو بدونه، وفي أحيان أخرى قد ينشب هذا الصدام بسبب الغيرة والحقد والحسد وسط النزلاء والنزيلات والتي تكون أسبابها غير واضحة، وتقول إحدى النزيلات في حديثها: «هما حاكرين عليا وأنا مدرت ليهم والو، مكنجمع معهم، مكنهضر فيهم، وهما ديريني في بالهم، ديما جابديني بالشكاوي، دعيتهم لله والوا غير حسداتني على والو» تشتكي بعصبية في كلامها، وبصوت يسمع بوضوح . أعمال يدوية لكسر الروتين هناك عدد من النسوة في بعض دور العجزة، ممن يفضلن شغل أوقات فراغهن، بالقيام بأعمال مثل الخياطة، وغزل الصوف، تتحدث فاطمة: «أقوم بالخياطة بعدما شجعني إقبال بعض الجمعيات التي تزور المركز على شراء منتجاتي، وبعدما رأيت إقبالا على هذه المنتجات التقليدية قررت الاستمرار، أقوم بخياطة قطع الثوب وأكتب عليها شعارات وأسماء الجمعيات، وتستعمل هذه القطع للتزيين. مسؤولية مشتركة ما يحتاج إليه المسن في مؤسسات الرعاية الاجتماعية، هو الدعم النفسي، والمعاملة بكرامة وإنسانية، وتقديم الخدمة التي يحتاج إليها، حتى تشعرهم بأن مكانتهم ومنزلتهم في القلوب، وضرورة تكثيف الجهود والتأكيد على المسؤولية الجماعية ونهج مقاربة تشاركية لرعاية المسنين والعجزة بالمغرب. هذا ما يؤكد عليه لحسن الإدريسي، مدير المركز الاجتماعي لرعاية المسنين، الذي دعا إلى ضرورة الاهتمام بهذا القطاع ومنحه الأولوية في البرامج الاجتماعية، كما يحث على التعاون مابين المؤسسات الوصية على قطاع الرعاية الاجتماعية وكافة مسؤولي المجتمع المدني، من باحثين، وجمعيات، وإعلام. على اعتبار أن رعاية المسن وحمايته مسؤولية اجتماعية مشتركة بين المجتمع ومؤسساته العمومية والمدنية.
تزايد عدد الأشخاص المسنين في المغرب بشكل مطرد في السنوات المقبلة يتزايد عدد الأشخاص المسنين بالمغرب بشكل مطرد. إذ يتوقع مع حلول سنة 2030 أن يشكل المواطنون المسنون %15 من سكان المغرب بزيادة من 2.5 مليون إلى 8 مليون. ويرى العديد من المسؤولين الحكوميين والنشطاء الاجتماعين أنه يجب تعزيز هذا القطاع المهمش من المجتمع قبل أن يجد المزيد من المسنين أنفسهم في الشارع. يوجد أزيد من مليون و340 ألف شخص مسن بالمغرب يعيشون في وضعية صعبة بنسبة %56 من العدد الإجمالي للمسنين بالمملكة. بالإضافة إلى ارتفاع نسبة الأمية في صفوف الأشخاص المسنين، والتي تقدر ب%84، وأمام قلة المراكز الاجتماعية والصحية التي تهتم بهذه الفئة بالمغرب، فإن 7% فقط من الأشخاص المسنين هم الذين يستفيدون من التغطية الاجتماعية، وهو ما يهدد %39 منهم بالتعرض للمرض والفقر، علما أن نسبة %17 منهم أي 408 آلاف مسن يعانون من الفقر المدقع. ويبلغ عدد الأشخاص المسنين في المغرب مليونين و400 ألف شخص، أي ما يشكل نسبة %8,1 من إجمالي سكان المغرب، وفق إحصائيات أجرتها المندوبية السامية للتخطيط سنة 2004. وحسب توقعات مركز الدراسات والأبحاث الديمغرافية، فإن هذا الرقم سيتضاعف ليصل سنة 2024 إلى 4 ملايين و800 ألف، ثم إلى 6 ملايين و530 ألف شخص مسن سنة 2034. وطبقا لتوقعات المركز، فإن عدد الأشخاص المسنين سيتجاوز عدد الأطفال في أفق سنة 2040. وفي السياق ذاته، فإن 3224 شخصا يوجدون في 45 دارا للمسنين، 50.5 بالمائة منهم نساء، حسب آخر الإحصائيات المتوفرة لدى التعاون الوطني لسنة 2011، التابع إداريا لوزارة التضامن والمرأة والتنمية الاجتماعية، والقطاع الوصي على الجمعيات المشرفة على مؤسسات الرعاية الاجتماعية، الخاصة بالأشخاص المسنين. ويبلغ عدد المؤسسات والأجنحة الخاصة برعاية الأشخاص المسنين بدون موارد وبدون دعم أسري، 45 مؤسسة، كما تعد دور الرعاية بكل من فاس وقلعة السراغنة ومراكش من أكثر الدور استقطابا للمسنين. وأظهرت الإحصائيات بأنه قد تمت عملية مواكبة إعمال القانون 14.05 الرامي إلى إعادة تأهيل مؤسسات الرعاية الاجتماعية، ل61 دارا للمسنين. ويملك التعاون الوطني، ومن خلاله وزارة التضامن والمرأة والتنمية الاجتماعية، حق المراقبة، لكن المشرع لا يلزمهما ببناء هذه المؤسسات التي تأخذ مبادرات إنجازها في الغالب طابعا إحسانيا، رغم أن فتحها أصبح يتوقف على ترخيص يستند إلى دفتر التحملات. وأمام هذا الارتفاع الكبير في التحول الديمغرافي في المغرب، خاصة أمام الوضع الصحي، أكد وزير الصحة، حسين الوردي، أن الوزارة ستعمل على تعزيز التعاون مع مختلف الفاعلين. فبحسب التوقعات السكانية لمركز الدراسات والأبحاث الديمغرافية، ستمثل فئة المسنين 15 بالمائة من الساكنة في أفق 2030، أي ما يعادل 5,8 مليون نسمة. بعد أن كانوا يشكلون سنة 2004، 8 بالمائة من الساكنة أي 2,4 مليون. ونتيجة لتغيير الهرم السكاني، فإن معدل عبء المرضى على الصعيد الوطني تغير ليبلغ 67.8 بالمائة وليصل إلى 75.8 لدى الأشخاص المسنين البالغين أكثر من 75 سنة، وأن أكثر من 58.9 بالمائة من كبار السن، يعانون على الأقل من مرض مزمن.