يوسف الحلوي في كتابه «الحسن اليوسي: مشكلة الثقافة المغربية» يرى جاك بيرك في اليوسي مفتاحا لتحليل البنية السياسية والثقافية والاجتماعية لمغرب القرن 17م وعلى نفس منواله نسج كيلفورد غيرتز وآخرون، ولا غرابة في ذلك فحياة هذا العالم العظيم تسلط الضوء على مجتمع البدو والحضر فتكشف مدارس للعلم غير التي يتخرج منها علماء المغرب عادة فنعرف من خلاله ثقل الزاوية الدلائية كجامعة لا تقل أهميتها عن جامعة القرويين وحياته تسلط الضوء على أثر الزوايا في صناعة المشهد السياسي وترسيم توازناته في ذلك العهد فتكشف خضوع سلطان السيف لسلطان العلم والمعرفة، وفوق هذا وذاك فاليوسي نموذج فذ للوقوف على علاقة علم الظاهر بالباطن وأثر الروافد المعرفية في تشكيل شخصية العالم المغربي، فهو ينهل من تراث فقهي تحكمه منهجية سلفية صارمة نلمسها في فهرسته التي عني فيها عناية الأثريين بذكر مشايخهم ومتونهم التي أخذ عنهم وإجازاتهم له، ونلمسها كذلك في إقباله على الحديث والأصول والنحو وكل ما يحتاجه العالم المجتهد لتكتمل لديه عدة الفتيا، كما ينهل من مشايخ التصوف ما اصطلح عليه بعلم الحقيقة، وتمازج تلك المعارف جميعها ولا شك أضفى على اليوسي جاذبية خاصة ما زالت تشغل بال الباحثين إلى اليوم وتجذبهم إلى حدائق معرفته الغنية التي لا يغادرها زائر دون أن يظفر ببغيته. ولد الحسن بن مسعود بن محمد اليوسي عام 1040ه بملوية العليا من بلاد فزاز، فهو ابن البادية تربية ونشأة، ولم يكن والده ممن أوتوا من العلم نصيبا ولا والدته ولكنهما متدينان يجلان أهل العلم والصلحاء وغالبية هذه العينة من الناس تضع العالم الفقيه مثلا أعلى لأبنائها وتجد في رؤية أولئك الأبناء يسيرون على خطى ذلك العالم القدوة منتهى غاياتها وما زال هذا دأب والد اليوسي، ولكن اليوسي رأى لنفسه سبيلا آخر غير السبيل الذي ارتضاه له والده فكان يختلف إلى الشيخ إبراهيم بن يوسف الحداد فيكمن في الطريق، فإذا خرج الصبيان من عند شيخهم عاد هو إلى أهله ليوهمهم بأنه قضى سحابة يومه في طلب العلم وظل على هذا الحال ردحا من الزمن إلى أن ماتت والدته فصار لحياته طعم آخر، ذاق مرارة اليتم وأصبحت دنياه عرِيَّة عن معاني العطف والحنان، فلم يجد من الدرس بدّا، فيه يدفن حزنه وحنينه إلى الأم الغائبة، وقد ألمح إلى ذلك في فهرسته وساق نموذج سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) للدلالة على أثر اليتم في شحذ همة الإنسان، وأعظِم بها من همة تلك التي دفعت بصاحبنا اليوسي إلى تجشم عناء السفر والرحلة منذ الصبا في سبيل العلم، فعلى غير عادة الطلبة في عصره التمس اليوسي سبيله في الجنوب عجبا فألقت إليه بلاد الجنوب بكنوزها المخبوءة وجادت عليه بدرها المكنون، تنقل اليوسي بين رياض العلم بمراكش وتارودانت وتافيلالت وتامكورت كنحلة تمتص من كل زهر رحيقا وأخذ عن جمع غفير من العلماء كأبي زيان بن محمد الندي والحسين بن أبي بكر التعلاليني الذي أخذ عنه صدرا من «موارد الظمآن» وصدرا من رسالة «الشيخ أبي محمد» وأبي بكر بن حسن التطافي الذي أخذ عنه جملة من مختصر خليل، وأبي فارس عبد العزيز الفيلالي الذي أخذ عنه ألفية ابن مالك ولامية الأفعال وغير هؤلاء كثير، وتتوالى أيام الجد والكد فإذا اليوسي عالم من أكابر علماء عصره يثني عليه شيوخه أحسن الثناء يقول أبو بكر الدلائي: «ألقت إليه المعارف زمامها وجمعت السيادة ما وراءها من المجد وأمامها». ويقول عبد القادر بن علي الفاسي: «هو الفقيه العلامة المحقق الفهامة رئيس الإقراء والمتهيئ للمناصب العلمية الشماء» وكذلك كان فما أن شب عن طوق الطلب حتى انصرف إلى المناصب العلمية الشماء، فانتصب للتدريس في الزاوية الدلائية وما أدراك ما الزاوية الدلائية، منارة العلم وصرح المعارف في وقتها، ولما كان عام 1078ه خرج السلطان رشيد العلوي في جيش عرمرم إلى الزاوية فهدمها وخضد شوكة روادها، ثم أمر باليوسي فنقل إلى القرويين ليكون تحت سمعه وبصره وكان من المتوقع أن تحدث بعض الاصطدامات بين اليوسي وأهل فاس فضايقه بعض علمائها وضيقوا عليه إلى أن تدخل عبد القادر الفاسي فأعاد الأمور إلى نصابها غير أن أثر تلك الخصومات لم يغادر مخيلة اليوسي فرحل عن فاس عام 1083ه بعد أن أخذ الإذن بذلك من السلطان إسماعيل العلوي واستقر بخلفون إلى أن أمره السلطان بالرحيل عنها عام 1085ه ، لم يصطدم اليوسي بالسلطة السياسية التي خضع لها المغرب ولكن هواه ظل دلائيا، وما فتئ الحنين لزمن الدلائيين يعاوده، ويذكر يوما إخوانه الذين أبعدوا إلى تلمسان، فينطلق لسانه في التعبير عن الحنين لأيامهم : سلام على الأحباب غير مضيع لذي شرف ذكرا ولا لوضيع سلام محب لا يزال أخا هوى إلى جلة قد شرقوا ونزوع ومن يسأل الركبان عني فإنني حللت ببيتي حول أم ربيع فألفيته يحكي زفيري زفيره بقلب كقلبي بالفراق صديع إن إقبال الناس بخلفون على اليوسي حرك كوامن الريبة في نفس السلطان إسماعيل فأبعده إلى مراكش ومن عجب أن اليوسي لم يجد في مراكش ما يخفف لوعة فراقه «لخلفون» فقد كان بطبعه متجافيا عن الحواضر نزوعا إلى البوادي وأهلها وفي عام 1090ه أذن له السلطان في الرجوع إليها ثم أمره بالذهاب إلى مكناسة وبعدها وجهه إلى مراكش فكان كما قال عنه صاحبه الشاعر التستاوني: سلام على خل إذا أتى إلى مكان ينادى بالرحيل فيرحل وليس له ذنب سوى أنه إذا تحدث عن فضل به الفضل يحمل ويتملكه إحساس قاتل بالغربة بمراكش فقد خلف كتبه بمكناسة وأملاكه بخلفون وترك علائقه بجبال فازاز وليت الأمر وقف عند ذلك الحد فما لبث الأمر السلطاني أن صدر بإبعاده إلى الزاوية الدلائية الخَرِبة وبعدها دخل في مرحلة تيه لا نهاية لفصولها فلا تسعه أرض ولا تظله سماء، كان السلطان يهدف إلى عزل اليوسي لئلا يكون عصبة تهدد ملكه في المناطق التي يقيم بها وما دام اليوسي لا يجاهر بعداوته للنظام القائم فليس له عليه من سبيل غير إبعاده عن طلبته ومريديه بين الفينة والأخرى، ولما بلغ الغليان بالمغرب أوجه بعثه إلى الديار المقدسة في مهمة رسمية كانت الغاية من ورائها نفيه وعزله عما يدور بالمغرب من أحداث، لم يكن اليوسي فقيها سلطانيا كغيره من الذين آثروا مداهنة أولي الأمر وتقاعسوا عن واجب إسداء النصح لأمرائهم فمثل دور المعارضة السياسية في ذلك الزمن في أظهر تجلياتها، ويروى أن السلطان إسماعيل قال يوما لبعض خلصائه بأن اليوسي واحد من العلماء الذين لا يخشون في الله لومة لائم، فقد بلغ من جرأته في الحق أن يراسل السلطان وأن ينبهه إلى مكامن الخلل في دولته وأن يحذره من بطانة السوء التي تحيط به، يقول اليوسي عن بطانة الملك: «فإن كثيرا من الدائرين به طلاب الدنيا، ولا يتقون الله ولا يتحفظون في المداهنة والنفاق والكذب». وبعد حياة حافلة بالهزات العنيفة والتقلبات التي كانت ترخي بظلالها على الدولة بأكملها كان متوقعا أن تكون نهاية اليوسي عنيفة، ليس لأنه دعا إلى العنف في حياته أو أنه آمن به منهجا في دعوته، ولكن لأن صوتا حرا كصوت اليوسي عجز خصومه عن إخراسه بالحجة والبرهان أجبرهم على سلوك سبل أخرى في كتم أنفاسه وكان لا بد للسيف أن يقول الكلمة الفصل في النهاية تقول فاطمة خليل القبلي في مقدمة رسائل اليوسي: «ووثب اللصوص على صاحب الترجمة وقتلوه... وقيل الذي قتله ولي القبيلة». وفي ذلك تعريض بخصوم اليوسي السياسيين ومن لهم المصلحة في إخراس صوته. خلف اليوسي ما يربو على أربعين مؤلفا في مختلف ميادين العلم كما ذكر الأستاذ محمد حجي منها: «زهر الأكم في الأمثال والحكم» و«البذور اللوامع في شرح جمع الجوامع» و«فتح الوهاب فيما استشكله بعض الأصحاب من السنة والكتاب «وغيرها كما نظم قصائد عديدة في شتى الأغراض وكان يقول «لو شئت ما تكلمت إلا شعرا»، ولا مبالغة في ذلك، فالذي ينظر إلى ما خطه يراع الرجل يلمس قوة لغته وجزالة ألفاظه والذي يطلع على أشعاره يدرك أنه أمام شاعر مفلق لا يشق له غبار في ميدان القريض. تخرج على يد اليوسي جمع من أكابر العلماء رغم ما عاناه من تضييق على تحركاته نذكر منهم أبو سالم العياشي وأبو عبد الله التازي وأبو عبد الله بن زاكور والحسن بن رحال المعداني، وقد بلغ من اهتمام اليوسي بطلبته أنه كان ينفق على بعضهم من ماله الخاص ليعينهم على الطلب، ويذكر أن أحمد الحلبي الذي قدم إلى فاس من سوريا درس على نفقة العلامة اليوسي إلى أن نال من العلم بغيته، يقول ابن زاكور في وصف اليوسي: عن نور هديك ثغر الدهر مبتسم يا واحدا وردت من بحره أمم هشت للقياك فاس إذ حللت بها و فاس لولا سنا وجودك عدم في عام 1102ه توفي العلامة اليوسي وما على أرض المغرب من أحد إلا وفي حاجة إلى علمه، ودفن بصفرو ثم نقل رفاته إلى مقر الزاوية المتواجدة بقرية سيدي الحسن بصفرو بعد عشرين عاما من وفاته.