عاش المغرب في فترة التحول من الدولة السعدية إلى الدولة العلوية ركودا علميا وثقافيا نتيجة الصراعات السياسية والقبلية، وأدى انفجار الإمارات المستقلة عن السلطة المركزية إلى تذكية الصراعات وتشتيت الجهود؛ غير أن هذا الركود لم يكن نهائيا وشاملا بل ظلت أمائر الخير بادية في بعض المراكز العلمية التي حافظت على العلم متوهجا، وأضحت نقطة جذب للعلماء والطلبة الذين فروا من ضيق السياسة إلى سعة العلم والصلاح، ولعل أهم مركز علمي في هذه الفترة العصيبة من تاريخ مغربنا المبارك هو الزاوية الدلائية في الأطلس المتوسط؛ وإذا كان الجانب السياسي حاضرا بقوة في حياة هذه الزاوية –وهو ما عجل برحيلها- فإن الجانب العلمي والعملي شكل أهم مقوماتها على الإطلاق.. في رحاب هذه الزاوية العلمية التربوية سيسطع نجم كثير من فضلاء هذه الأمة من علماء وصلحاء ومربين أفذاذ مثل أبي بكر الدلائي، ومحمد بن أبي بكر الدلائي، والحسن اليوسي، وعلي العكاري، وأحمد الولالي صاحب "مباحث الأنوار"، وأبو علي الحسن الدرعي صاحب كتاب "شرح صغرى السنوسي في التوحيد" وشرح "لامية المجراد" في قواعد الجمل في الحساب، والقاضي محمد ابن سودة الفاسي، والمؤرخ أحمد ابن القاضي صاحي كتاب "المنتقى المقصور" وجذوة الاقتباس"، ومحمد بن سعيد المرغيثي صاحب كتاب "المقنع في التوقيت".. وقد آثرت أن أعرف في هذه الحلقة بالعالم الفاضل الموسوعي محمد بن سعيد المرغيثي السوسي صاحب التآليف الذائعة الصيت خصوصا في علم التوقيت، وهو من علماء الزاوية الدلائية، ومجدد العلم بمراكش.. لقد ظهرت الزاوية الدلائية -المسماة أيضا بالزاوية البكرية نسبة إلى شيخها الأول أبو بكر الدلائي المجاطي المتوفى عام 1021ه- على مسرح الأحداث خلال العهد السعدي، وكان تأسيسها سنة 974ه، بجبال آيت إسحاق في المنطقة الواقعة بين خنيفرة وقصبة تادلا، واستمرت هذه الزاوية في تأدية رسالتها العلمية والتربوية لمدة تناهز 100 سنة، وهي ثمرة من ثمرات المدرسة الجزولية التي رأينا مرارا في حلقات سابقة من سلسلة "علماء وصلحاء" كيف أطرت هذه المدرسة تأسيس عديد المراكز العلمية والعمرانية في المناطق النائية بحثا عن التعمير والبناء وإسعاد الناس، وقد اضطلع بهذه المهمة الشيخ أبو بكر الدلائي الذي أسس زاوية بالأطلس المتوسط، وقد جهد هذا الرجل الفاضل في إضفاء طابع علمي واضح على زاويته بحيث أسس مكتبة قيل إنها فاقت مكتبات الأندلس، حيث احتوت على أزيد من 10.000 كتاب في مختلف علوم المقال والحال، كما شيد جناحا خاصا بطلبة العلم الواردين من كل الآفاق-خاصة والمغرب يعرف أزمة علم ومجتمع- وصل إلى 1400 مسكن، واستقطب الشيخ الدلائي العلماء من مختلف بقاع العالم الإسلامي، ووفر لهم كل سبل الاستقرار لتصبح الزاوية الدلائية البكرية مركزا رائدا بالمغرب خاصة من الناحية العلمية، بل تجاوزت في بعض الأحيان مدينة فاس من الناحية العلمية.. والحق أن الزاوية الدلائية قامت بدور حاسم في الحفاظ على العلم المغربي متوهجا رغم الأزمة التي عمت البلاد، وقد كان عنصر الموسوعية حاضرا بقوة في منهج التدريس، بحيث تم الجمع بين علوم المقال وعلوم الحال، وتم التركيز بالأساس على الرياضيات والفلك والهندسة والطب والمنطق والتاريخ، إضافة إلى علوم الشرع والأدب، في رحاب هذه الزاوية العلمية تفتقت عبقرية العلامة المرغيثي، والتقى بعلماء وطلبة من جميع الآفاق قبل أن يتفرغ لنشر العلم بمراكش.. يقول محمد بن الحسن الحجوي في الفكر السامي (ص: 612) ج2 المكتبة العصرية بيروت (2006): "محمد بن سعيد المرغيثي السوسي نزيل مراكش وإمام جامع المواسين بها، إمام عالم محدث مفسر، عارف بالعربية وغيرها والتنجيم والفلك، بحر لا ساحل له، انتهت إليه رياسة العلم ببلده وزمانه، مكثر من قراءة كتب الحديث، وتخرج عليه عدد لا يحصى، وله كرامات وأحوال طيبة، له منظومة في الفقه، وأخرى في النحو، وأخرى في التنجيم، وأخرى في التصوف، وأخرى في الوقف المخمس الخالي الوسط، وله منظومة المقنع وشرحها بشرحين في التوقيت وشهور العام، لها شهرة في المغرب. ومن فتاويه التي شذ فيها أن القبور التي بداخل أسوار المدن لا حرمة لها، ويجوز نبشها؛ لأن المدينة حبس على الأحياء، وأنى له أن يثبت هذه المقدمة. كان شاعرا منشئا. توفي بالطاعون سنة 1090ه، وفي الصفوة سنة 1089ه". ونقرأ في مقدمة تحقيق كتاب "مباحث الأنوار في مناقب بعض الأخيار" للمحقق الفاضل عبد العزيز بوعصاب الذي يقول في الهامش 218 (ص: 204) (منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط: 1999): "سمي محمد سعيد بالمرغيثي نسبة إلى قبيلة مرغيثة بناحية تيزنيت التي انتقل منها إلى مراكش. من شيوخه في العلم أبو محمد عبد الله بن علي بن طاهر الحسني، وأبو القاسم الغول الفشتالي، وأبو عيسى السكتاني. كان له تلامذة كثيرون، وهو الذي أجاز العلامة أبي الحسن اليوسي، وإلى جانب شهرته في علم التوقيت والحساب؛ فإنه قد ألف في مواضيع أخرى: من تآليفه كناشة فهرسة العوائد (مخطوط بالخزانة الوطنية 285د)، ومجموعة أخرى ذكرها محمد المنوني في مقاله عن المكتبة الحمزاوية (مجلة تطوان، عدد 8)".. وقد ترجم لمحمد بن سعيد المرغيثي كل من اليوسي في "الفهرسة"، والإفراني في "الصفوة"، والقادري في "نشر المثاني"، والكتاني في "السلوة"، وابن المؤقت في "السعادة الأبدية"، ومحمد حجي في الزاوية الدلائية، والمختار السوسي في "المعسول"، وأحمد الولالي في "مباحث الأنوار".. قال الإفراني في "صفوة من انتشر" بشأن محمد بن سعيد المرغيثي: "كان رحمه الله إماما في علوم الحديث والسير، له اليد الطولى في ذلك، وإليه المرجع فيما هنالك، مع المشاركة في العلوم الأُخر، والدين المتين والورع التام، وكان محترما معظما عند الخاصة والعامة"، ويذكر اليوسي في المحاضرات أن المرغيثي ورد على الشيخ بناصر الدرعي بزاويته بتامكروت مما يدل على تعدد مشاربه العلمية والصوفية.. ويفيدنا العلامة محمد المختار السوسي في "المعسول" أن من أشياخ محمد المرغيثي سيدي عبد الواحد بن عاشر، وسيدي عبد الهادي، وسيدي العربي الفاسي، وسيدي محمد الجنّان صاحب حاشية خليل، وأخذ المرغيثي أيضا عن أبي القاسم الغول -تلميذ أبي المحاسن يوسف الفاسي-، وعن أبي مهدي السكتاني، وعن أحمد السالمي المراكشي، ونستفيد من كتاب "مباحث الأنوار" للولالي أن عمدة المرغيثي في التصوف هو الشيخ الشهير محمد بن عبد الله السوسي دفين مراكش. ويقول الشيخ أحمد الولالي "مباحث الأنوار في مناقب بعض الأخيار" (تحقيق عبد العزيز بوعصاب): (ص: 204-205) : "أن المرغيثي كان يرى صحة صحبة رجال حاح استنادا إلى رأي أستاذه السوسي (....) وكان الناس يقصدونه بالزيارة والتبرك ولهم فيه اعتقاد عظيم، وهو الذي وضع نظما في علم التوقيت وشهور العام وأيامه، سماه "المقنع"، وشرحه بشرحين: الكبير والصغير. وقد جعل الله تعالى الإقبال على كتابه، فاشتغل به الناس في المدائن والقرى ببركة صحة نصحه وصلاح طويته، ووضع في الجدول المخمس خالي الوسط نظما وقع الإقبال عليه أيضا".. وكانت للمرغيثي دراية في عدة فنون منها علم الطب، ثم إنه ترك الطب بسبب أن إنسانا أتى بالهراقة فيها بول وأدخلها عليه المسجد، فقال: إن علما يؤدي بي إلى أن أكون سببا لدخول المسجد بالنجاسة لا أشتغل به!!! وقد كان مقصودا به قبل ذلك.. وهذا ما يؤكده المرحوم الأستاذ عبد الصمد العشاب في مقاله "مساهمة علماء المغرب في ميدان الطب والتطبيب" (مجلة التاريخ العربي، عدد: 15) إذ يقول: "ومن أطباء العصر السعدي الشيخ الفقيه المحدث المشارك أبو عبد الله محمد بن سعيد المرغيثي السوسي، المزداد بمرغيثة عام 1107 ه/ 1598 م، ونشأ مكباً على الدراسة حتى ظهر نبوغه في العلوم الدينية والأدب والحساب والتوقيت والطب. وكان هو بمراكش قد تصدر لعلاج الناس مدة، ولكنه اعتزل التطبيب بسبب أن إنساناً حمل إليه قارورة فيها بول مريض وهو بالمسجد؛ فاستاء من ذلك، وقال: إن عملاً يؤدي إلى أن أكون سبباً في دخول النجاسة للمسجد لا أشتغل به. وقد علق الأستاذ عبد الله كَنون على هذا الكلام بقوله: وهذا تشدد منه رحمه الله؛ وإلا فهو يعلم من السنة التي وصف بأنه إمام فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينصب في مسجده خيمة لعلاج مرضى الصحابة، وأن أعرابياً بال في المسجد فابتدره الصحابة بالتعنيف عليه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه، وأمر بإفراغ دلو ماء على مكان بوله...". كان محمد بن سعيد المرغيثي إماما بمسجد المواسين بمراكش، وكان الإقبال على دروسه منقطع النظير، وقد ساهم رحمه في إحياء الحركة العلمية بمراكش بعد فترة ركود عرفتها في مراحل ضعف الدولة السعدية، وهذه حسنة كبرى من حسنات المرغيثي، أؤكد هنا على هذه المسألة ونحن ندرك أن الأنفاس الأخيرة للدولة السعدية رافقتها انتكاسة في العلم والعمران، وأن ينبري رجل من عيار المرغيثي لإحياء العلم عبر دروسه الموسوعية بجامع المواسين معناه تجديد حضور العلم في المجتمع كما كان عليه حال المغرب على مدى تاريخه الطويل، ولا ننسى هنا فضل المدرسة الدلائية في هذا التجديد المبارك مادام المرغيثي السوسي من أعلامها الكبار، وهو الذي أجاز الحسن اليوسي وما أدراك ما اليوسي، رحمهم الله أجمعين ونفعنا بعلمهم.. وقد أورد الولالي في "مباحث الأنوار" خبرا طريفا مفاده أن الشيخ محمد بن عبد الله السوسي -شيخ المرغيثي- لما جاور بالحرمين الشريفين اشتاق إليه الفقراء واشتكوا إليه أمر بطئه عنهم، إذ كانوا يرجون إيابه للمغرب، فعمل محمد بن سعيد المرغيثي أبياتا يطلب فيها النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله تسريح الشيخ –والمرغيثي يتحدث هنا بلغة عالم الأمر الكوني، لا بلغة عالم الأشياء- وأمر الفقراء بقراءتها، وقد بلغت الزاوية البكرية (الدلائية) حينئذ، وقد حفظ الولالي أبياتا قال فيها المرغيثي: يا رسول الله إن الفقرا قد شكوا من فقد خير النظرا شيخِهِم وهو ابن عبد الله قد حملوا من شوقه ما بهرا يا رسول الله سرِّحه لنا أنت ذو الحق وخير النُّظرا اشتهر محمد بن سعيد المرغيثي بكتابه "المقنع في اختصار علم أبي مقرع" وهي في علم التوقيت، وقد شرحها بشرحين مفيدين.. وله رسالة شوق إلى الرسول: "فهرست العوائد المزرية بالموائد": مخطوط الخزانة الوطنية بالرباط رقم: 285 د، وله منظومة في الوفق المخمس، شرحها العلامة أحمد سكيرج في حدود عام 1309ه، وكان عمره وقتذاك 14 سنة!!، ويعتبر شرحه من أهم وأدق الشروح التي عرفتها هذه المنظومة العلمية، وعلى رغم صغر سن اسكيرج فقد أتى فيه بالعجب العجاب، لكن العلامة سكيرج أعرض عن هذا الفن بعد اعتناقه للطريقة التجانية عام 1315ه، كما قام بتمزيق معظم التقاييد التي جمعها أو ألفها في هذا الفن، ولم يسلم من التمزيق سوى بعض النسخ التي كانت عند بعض أصحابه على سبيل الإعارة... شرح محمد بن سعيد المرغيثي منظومته "المقنع في اختصار علم أبي مقرع" بشرح سماه "الممتع في شرح المقنع (المطبعة الثعالبية بالجزائر 1908، الذي يقول في مقدمته: "الحمد لله الذي من علينا بيسارة علم أوقات الليل والنهار، وأنعم بفضله ومنه باقتطاف أزهار روضة الاعتبار، وزين السماء الدنيا بمصابيح وجعلها رجوما لكل شيطان غرار، وقدر فيها أنواع السير فكل على مشيئته سائر وجار، لتعلموا عدد السنين والحساب، ولتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر عند السفر والذهاب، رحمة منه وفضلا، فهو الرحيم الوهاب (....) وبعد، فيقول أحوج العبيد إلى عفو ربه الكريم محمد بن سعيد بن محمد بن يحيى بن أحمد بن داود بن أبي بكر بن يعزى السوسي المرغيثي هذا شرح لطيف قصدت به تبيين رجزنا المسمى بالمقنع في علم أبي مقرع، قاصدا فيه الاختصار والوقوف عند الحاجة والاقتصار لقصور الهمم في هذا الزمان القليل الخير الكثير الشر والضير، نسيت فيه العلوم وامتحت منها فيه الرسوم، إنا لله وإنا إليه راجعون، أسفا وحزنا على انقراض جيش العلم وأدباره وإقبال الجهل وكثرة أحزابه وأنصاره.."... وكتاب الممتع هذا كتاب نفيس أبان فيه المرغيثي عن قدرة فائقة في علم التوقيت، كما كتابه بالفوائد الفقهية والأدبية والتاريخية والجغرافية، إذ بدا النفس الموسوعي لصاحبنا المرغيثي باديا في بوضوح، كما أن حسه الإصلاحي قد بدا واضحا حينما أكد على ضعف الهمة في تحصيل العلم وأن الخروج من عتمة الجهل يحتاج إلى التأليف المنهجي والرغبة في التحصيل.. وكان رحمه الله معمرا، بقي بعد الشيخ محمد بن عبد الله السوسي مع كبر سنه سنين، ولم يزل إماما مقصودا بمراكش، موقرا عند الخاصة والعامة إلى أن توفي بمراكش، وترك ولده الفقيه محمد، وبقي بعده يسيرا من الزمن ثم توفي ولم يعقب ذكرا كما أخبرنا الولالي "في مباحث الأنوار"، ولابن سعيد المرغيثي بنت عالمة صالحة اسمها رحمة بنت محمد بن سعيد المرغيثي، كانت عالمة فقيهة. أَلَّفَتْ مُخْتَصَرًا فقهيا مُبسطا (إبراهيم أعراب: شهيرات نساء بادية سوس، أعمال الدورة الرابعة لجمعية الجامعة الصيفية بأكادير).... رحم الله العلامة محمد بن سعيد المرغيثي وجازاه عن المغرب والإنسانية خيرا والله الموفق للخير والمعين عليه..