عرفت الساحة الوطنية نقاشا محتدما حول الاستخلاص الجبري للديون العمومية، وتناولت الصحافة الوطنية تداعيات الموضوع على الملزمين بوجه عام والمقاولة على وجه الخصوص، وجاءت المقابلة المتلفزة مع السيد رئيس الحكومة بتاريخ 7 يونيو 2012 لتثار أهمية استيفاء الديون ويعرب السيد بنكيران عن رغبة الحكومة في وقف العمل بمسطرة التنفيذ على الأموال النقدية، وعاد السيد وزير الاقتصاد والمالية إلى مناقشة الموضوع، على نحو دقيق، في إطار الجواب عن تساؤلات أعضاء مجلس المستشارين بتاريخ 19 يونيو 2012، حيث أكد على ضرورة إحاطة الإجراء بشروط وضوابط تراعي مراكز الجهات المتدخلة. وانتقد البعض تصريح السيد رئيس الحكومة المتعلق بوقف إجراء الاستخلاص على الأموال النقدية واصفا إياه بغير القانوني، وذلك بالاحتجاج بالمادة 124 من مدونة تحصيل الديون العمومية، التي تمنع على كل سلطة إدارية أو عمومية وقف أو تأجيل أو عرقلة إجراءات استخلاص الديون العمومية ( ). ويأتي هذا التناول في سياق مطبوع برغبة الدولة في الاهتمام أكثر بالتحصيل الجبري بعدما نال توسيع الوعاء الضريبي قدرا أكبر من الاهتمام في سنوات خلت، بالإضافة إلى التفعيل غير المسبوق لمساطر التنفيذ الجبري على الأموال النقدية عن طريق ما يعرف بمسطرة "الإشعار للغير الحائز"، ولاسيما بعد الشروع في تجريد هذه المسطرة من طابعها المادي. وبغاية المساهمة في النقاش الدائر حول الموضوع، ارتأت هذه المقالة معالجة الموضوع بمقترب قانوني يستحضر عنصر الموازنة بين المصلحة العامة (فعالية الاستخلاص) والمصلحة الخاصة (الضمان القانوني للملزم بالضريبة ومعه الغير الحائز في حالات معينة) في معالجة مسطرة التنفيذ على الأموال النقدية، وذلك بغاية الإسهام في إضاءة بعض من جوانبها وتحصيل ما يلزم من نتائج على المراكز القانونية للأطراف المتدخلة. وتأسيسا عليه، فإن هذه الدراسة ترى فائدة تناول مفهوم الإجراء وطبيعته القانونية (الفقرة الأولى) والاشتراطات الضابطة لسلوك المسطرة (الفقرة الثانية)، وكذا الآثار والمسؤوليات الناجمة عنه (الفقرة الثالثة).
الفقرة الأولى: ماهية الإشعار للغير الحائز إذا كان القانون الإداري مطبوعا بسمة القانون غير المتكافئ، فإن هذه الميزة تبرز بوضوح في مادة الديون العمومية حيث الإدارات الجبائية تتمتع بحق التنفيذ المباشر الذي يكفل لها حق اقتضاء حقوقها بنفسها في مواجهة الملزمين بالضرائب دون مراجعة القضاء حيادا على المبدأ المألوف في قواعد القانون الخاص. وبمقتضى حق التنفيذ المباشر يحق للآمر بالصرف، بإرادته المنفردة والملزمة وبما له من سلطة عامة مقررة بأحكام القانون، أن يصدر سند المدخول كقرار إداري منشئ لالتزام قانوني كامن في اقتطاع مالي من ذمة الملزم لفائدة الخزينة العامة. ويتمتع المحاسب العمومي المكلف بالتحصيل بحق التنفيذ المباشر في الشقين الموضوعي والإجرائي، إذ علاوة على مكنة إنشاء الالتزام المالي على عاتق الملزمين في صورة ديون فرعية تلحق بالدين الأصلي (فوائد التأخير وصوائر التحصيل الجبري)، فإن المحاسب العمومي يجد نفسه أمام ديون مؤسسة على سندات تنفيذية، ويلزمه السعي إلى تنفيذ هذه الديون ابتداء في إطار المسطرة الحبية. وإذا بقيت المطالبة الرضائية دون فائدة التحصيل، يحق له في الشق الإجرائي فرض الامتثال للسندات التنفيذية المؤسسة للديون العمومية. وفي هذا المضمار، خوله المشرع امتياز حق التنفيذ المباشر لاقتضاء حق الخزينة العامة دون مراجعة القضاء عبر مساطر متعددة، أهمها على الإطلاق التنفيذ على أموال الملزم بالضريبة الموجودة بحوزة الغير عن طريق مسطرة الإشعار للغير الحائز. قنن المشرع مسطرة الإشعار للغير الحائز بموجب أحكام المواد من 101 إلى 104 من مدونة تحصيل الديون العمومية، وعرفتها تعليمية الخزينة العامة للمملكة بكونها «مسطرة تتيح التعرض بين يدي الغير الحائز على مبالغ تحظى بامتياز الخزينة العامة وتعود ملكيتها إلى الملزم بالدين العمومي ( )»، وعرفها بعض الفقهاء بكونها تصرفا قانونيا ذا صبغة مسطرية تمكن المحاسب العمومي، استنادا إلى طلب عادي، من إجبار الغير الحائز على تسليم المبالغ المودعة لديه أو المدين بها إزاء الملزم، وذلك ابتغاء استخلاص الديون العمومية العالقة بذمة هذا الأخير ( ). ويستفاد من ذلك أن الإجراء يتسم بالخصائص التالية: - البساطة والمرونة والسرعة؛ - الطبيعة الإدارية، بمعنى أن التنفيذ لا يقتضي رقابة قبلية للقضاء الإداري خلافا للاعتقاد السائد لدى بعض الأوساط التي تتمسك بضرورة حصول المحاسب على إذن قضائي بحجز المبالغ المالية وتسلمها؛ - قيام علاقة ثلاثية في المسطرة التنفيذية، أطرافها: الدائن العمومي والمدين والغير الحائز الذي يتم إقحامه في المسطرة نظرا إلى حيازته أموالَ الملزم، وذلك خلافا لمساطر الاستخلاص الأخرى ذات العلاقة القانونية الثنائية؛ - إن إعمال المسطرة رهين بتمتع الدين العمومي المراد تنفيذه بامتياز الخزينة كما هو صريح المقطع الأول من المادة 101 من مدونة التحصيل، وهو ما يجعل القائمة الحصرية للديون العمومية الواردة في المادة 2 من نفس المدونة مشمولة بالإجراء، خاصة باستحضار مقتضيات المواد 108 و109 و137 من ذات القانون مع استثناء الديون ذات الطبيعة التجارية من دائرته. وبخصوص الطبيعة القانونية لمسطرة الإشعار للغير الحائز، فكثيرا ما يعتقد بعض الأغيار الحائزين أن الإجراء يبدأ تحفظيا بتجميد المبالغ المحجوزة مع إرجاء عملية التسليم إلى وقت لاحق ليتأتى للجهة الحائزة إشعار المدين بالإجراء المتخذ ضده، وبالتالي يثار التساؤل حول ما إذا كان الإجراء ذا طبيعة مركبة، تحفظية وتنفيذية، أم إنه يكتسي طابعا تنفيذيا منذ الوهلة الأولى. في القانون الجزائري، على سبيل المقارنة، لا ينتج عن الإجراء نقل ملكية المبالغ إلى الدائن العمومي بمجرد تبليغه إلى الغير الحائز، بل يتعين انتظار صيرورة الإجراء نهائيا؛ أي أنه يبدأ، بمجرد إيقاعه، تحفظيا بتجميد المبلغ المحجوز وتعليق عملية التسليم إلى غاية اكتسائه الصبغة النهائية، ويخول القانون للمدين مهلة 30 يوما اعتبارا من تاريخ تبليغه للتعرض على المسطرة، وبعد رفض التعرض من طرف الإدارة أو القضاء، كما في حالة انقضاء هذا الأمد دون التعرض، يصبح الإجراء نهائيا ومرتبا لقاعدة تسليم المبالغ للدائن العمومي ( ). وفي القانون الفرنسي، كان الإشعار يفضي إلى تجميد المبالغ المالية المتعرض عليها بين يدي الغير الحائز فحسب، ولا تنتقل ملكيتها إلا بعد انصرام أجل التظلم من الإجراء ( ) قبل أن يسن المشرع الفرنسي قاعدة التسليم الفوري في المسطرة بمقتضى المادة 86 من القانون 650-91 بتاريخ 9 يوليوز 1991. وبالنظر إلى عدم تناغم هذه المادة مع الفصل 277 من كتاب المساطر الجبائية في حينه، استمر التضارب في العمل القضائي الفرنسي حول الطبيعة القانونية للتدبير إلى أن حسم المشرع الفرنسي الأمر بموجب قانون المالية لسنة 2002 ( ). وبالرجوع إلى القانون المغربي، فإن المادة 102 من مدونة التحصيل أكدت على الطابع التنفيذي للإشعار للغير الحائز، حيث نصت بوضوح على أنه يرتب التسليم الفوري للمبالغ المَحُوزة من الغير في حدود الدين العمومي. وأضافت هذه المادة أن التسليم الفوري يمتد مفعوله إلى الديون المؤجلة والديون المشروطة التي تعود إلى الملزم على الغير الحائز.
الفقرة الثانية: الشروط الضابطة للإجراء تروم هذه الشروط توفير ضمانات قانونية تجد تعبيرها في ضرورة أن يكون الدين العمومي محققا مبنيا على سند تنفيذي، وأن تراعى قاعدة التدرج في إجراءات الاستخلاص مع الموازنة بين المنافع والأضرار في تحديد محل الحجز. 1 - قيام دين مؤسس على سنذ تنفيذي: بحكم اكتسائه للطبيعة التنفيذية وعدم جواز إعماله على سبيل تدبير الضمان، فإنه من البديهي أن يهدف الإشعار للغير الحائز إلى استخلاص دين حال الأداء ومؤسس على سند تنفيذي. ومؤدى ذلك أن الدين العمومي المراد اقتضاؤه ينبغي ألا يكون مشروطا أو احتماليا، بل مؤكدا وذا قوة تنفيذية مستمدة من السند التنفيذي. ويستفاد من مقتضى المادة 1 من مدونة التحصيل الديون العمومية أن هذا السند يأتي في ثلاث صور: سندات المداخيل المبنية على أسباب تقررها أحكام القانون، وسندات المداخيل المبنية على عقود أو اتفاقات، والحكم القابل للتنفيذ بالنسبة إلى الغرامات. وتصدر سندات المداخيل في نطاق امتياز التنفيذ المباشر وفق السابق شرحه، وتنص المادة 10 من مدونة التحصيل على أن أوامر أو سندات المداخيل تذيل بالصيغة التنفيذية لتكتسي الطابعين الآمر والتنفيذي المسوغ لحق المطالبة بالوفاء وفق ما تقرره المادة 133 من ذات القانون. وبخصوص الغرامات، فهي تقع خارج دائرة امتياز التنفيذ المباشر، حيث يشترط لتكون الغرامات مستحقة وحالة الأداء أن تصدر بحكم نهائي عن القضاء الزجري وفق ما سنته الفقرة الثانية من المادة 132 من مدونة التحصيل ( )، وتباشر تدابير استخلاصها بناء على مستخرجات الأحكام النهائية عملا بمقتضيات المادتين 10 و133 من مدونة التحصيل، وكذا الفصل 633 من قانون المسطرة الجنائية. 2 - قيام واقعة التماطل أو الامتناع عن الوفاء: يقتضي عنصر الضمان القانوني أنه «لا تكليف إلا بمعلوم» كقاعدة تبنتها الشريعة الإسلامية (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( )) قبل التشريعات الوضعية، أي أنه يتم إشعار المدين بالدين العمومي المراد تنفيذه قبل الشروع في الاستخلاص، بالإضافة إلى احترام تراتبية المطالبات في الشق المسطري من العملية. - التبليغ بقرار الوعاء الضريبي: تفترض الضمانات القانونية أن يبادر الآمر بالصرف إلى إشعار الملزم بالالتزام القانوني الناشئ على عاتقه بموجب سند المدخول وفق ما يقرره الفصل 72 من المرسوم الملكي رقم 330-66 بتاريخ 21 أبريل 1967 بسن نظام للمحاسبة العمومية. وتترتب عن تبليغ القرار صيرورة هذا الأخير منتجا لآثاره القانونية وجواز المرور إلى التدابير التنفيذية كما انتهى إليها قضاء محكمة النقض الفرنسية ( )، بالإضافة إلى سريان أجل الطعن في الفرض الضريبي. وتكمن أهمية التبليغ على هذا المستوى في قطع تقادم الوعاء الضريبي وتعزيز شفافية الضريبة وتمكين الملزم من إقامة التمييز بين قرارات الوعاء وإجراءات الاستخلاص وتجنيب مصلحتي الوعاء والتحصيل عناء الخلط بين الأمرين في مساطر التقاضي. - قاعدة التدرج في الاستخلاص: وقوام قاعدة التدرج ضرورة استنفاد المسطرة الرضائية قبل المرور إلى المرحلة الجبرية التي تبقى محكومة بدورها بقاعدة التسلسل المنصوص عليها في المادة 39 من مدونة التحصيل التي تنص على أن الإجراءات تباشر وفق الترتيب التالي: الإنذار القانوني، الحجز والبيع. وإذا كان ذلك لا يطرح أي أشكال بالنسبة إلى الحجوزات والبيوعات المنصوص عليها في الباب الرابع من هذه المدونة تحت عنوان درجات التحصيل الجبري، فإن ورود مسطرة الإشعار للغير الحائز في الباب الخامس كباب منفصل عن ذاك المتعلق بدرجات التحصيل الجبري، يثير إشكال ما إذا كانت هذه المسطرة تندرج في خانة التحصيل الجبري وخضوعها لتدرج إجراءاته. باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة