لفت انتباهي، وأنا أمارس هوايتي المفضلة في الاطلاع على بعض الأعداد القديمة من المجلات القانونية، منشور صادر عن السيد وزير العدل بتاريخ 10/01/1980، تم نشره في مجلة «القضاء والقانون» عدد 130 بتاريخ نونبر 1980، موجه إلى السيدين الرئيس الأول للمجلس الأعلى والوكيل العام للملك لديه، والسادة الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف والوكلاء العامين للملك لديها، ورؤساء المحاكم الابتدائية ووكلاء الملك لديها، يتعلق بالجمع العام لرابطة القضاة، وهي جمعية سابقة للقضاة تأسست خلال ستينيات القرن المنصرم، جاء فيه ما يلي: «فقد بلغنا أن رابطة القضاة قررت عقد جمع عام يوم السبت 26 يناير 1980 على الساعة التاسعة صباحا بكلية العلوم بالرباط، لذلك وحرصا على إتاحة الفرصة للسادة القضاة للحضور في هذا الجمع العام، فإننا نطلب منكم أن تأذنوا لهم بالتغيب عن مقار عملهم في التاريخ المذكور وأن تتخذوا التدابير المناسبة الكفيلة بضمان سير الإجراءات المستعجلة». وقد نشر بنفس العدد من مجلة «القضاء والقانون» بيان يتعلق بالجمع العام لرابطة القضاة، جاء فيه: «... ونظرا لأهمية هذا الجمع، خصوصا وأنه انعقد بعد مدة غير قصيرة، فقد استدعيت الهيئة القضائية من طرف سيادة الوزير الأول ووزير العدل لحفلة غداء بأحد فنادق العاصمة». قرأت منشور السيد وزير العدل الصادر خلال ثمانينيات القرن المنصرم كما قرأت البيان المذكور، وتذكرت بالمقابل ظروف نشأة نادي قضاة المغرب والسياق العام لظهوره، إذ بالرغم من تزامن حدث التأسيس مع لحظة شديدة الأهمية والحساسية، وهي لحظة مصادقة الشعب المغربي على دستور جديد شكل قطيعة مع كل الممارسات السابقة، دستور أتى ليبشر بربيع حقوقي جديد ستشهده المملكة، حيث سيتبوأ القضاء المكانة التي يستحقها، وسيصبح سلطة مستقلة، وسيتمتع القضاة بكل حقوقهم التي كفلتها المواثيق الدولية، وفي مقدمتها الحق في تأسيس جمعيات مهنية والحق في التعبير.. خاصة بعدما تم الاعتراف بسمو هذه المواثيق وأولويتها على التشريع الداخلي.. (رغم كل هذه المؤشرات القوية على التغيير) تم انتهاك كل هذه المقتضيات في أول مناسبة وبُعيْد أيام قليلة على المصادقة على الدستور الجديد، إذ فوجئ مئات القضاة المتوافدين على مدينة الرباط من كل أنحاء المغرب بمنعهم من عقد الجمع العام التأسيسي لأول جمعية قضائية ينوون تأسيسها في ظل الدستور الجديد، حيث تم منعهم من ولوج القاعة التي تم تهييئها لهذه الغاية رغم استيفاء كافة الإجراءات التي يفرضها القانون. منعٌ لم يتم تبريره ولا إعطاء أي تفسير شافٍ أو مقنع له، بل ولم تتجرأ أي جهة رسمية على تبني مسؤوليتها عن هذه الحادثة، بل اكتفت الجهات المذكورة بالاختباء وراء مبررات واهية.. مفضلة أسلوب الصمت والهروب من المواجهة. ولعل استحضار ظروف نشأة نادي قضاة المغرب والمنع الذي طال جمعه التأسيسي، من جهة، واستحضار الكيفية التي كانت تعقد بها الجموع العامة لباقي «الجمعيات» التي عرفها المشهد القضائي في بلادنا والتي كانت تتم، في غالب الأحيان، بمباركة السلطة التنفيذية «وزارة العدل»، إن لم أقل تحت إشرافها ورعايتها، لَيدفع إلى طرح مجموعة من التساؤلات المشروعة.. فهل كان القضاة المغاربة سيجدون نفس طريقة التعامل في حال ما إذا كانت مبادرة تأسيس نادي قضاة المغرب قد تمت بمباركة الوزارة المذكورة؟ وهل كانت وسائل الإعلام الوطنية الرسمية، وخاصة الإذاعة الوطنية والقنوات التلفزيونية العمومية، ستتجاهل نبأ تأسيس نادي قضاة المغرب وستغفل تغطية مثل هذا الحدث الذي يعتبر أول محاولة لترجمة المقتضيات الجديدة التي كرسها دستور 2011؟ إن حلول الذكرى الأولى لتأسيس نادي قضاة المغرب بقدر ما يعد مناسبة للاحتفال بمرور سنة على تأسيس أول جمعية مهنية قضائية مستقلة بالمملكة تنشأ بمبادرة من القضاة أنفسهم، يعتبر أيضا مناسبة مواتية من أجل إعادة طرح نفس السؤال الذي سبق طرحه قبل سنة من اليوم: لماذا منع القضاة من تأسيس جمعيتهم؟ ومن هي الجهة التي وقفت وراء هذا المنع؟ إن الإجابة عن مثل هذا السؤال ستدفعنا إلى فهم الكثير من الإشكاليات التي لا تزال تلف تدبير ورش إصلاح القضاء في المملكة.. ومن بينها، على سبيل المثال، سبب التأخير غير المفهوم للإفراج عن مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية، ومنها مشروع القانون الأساسي للقضاة ومشروع القانون المنظم للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهي القوانين المعول عليها كثيرا في سبيل بناء صرح سلطة قضائية مستقلة منسجمة مع روح الدستور الجديد. ومن بين الإشكاليات التي لا تزال عالقة في هذا الصدد إشكالية تسوية الأوضاع المادية للقضاة، والتي كانت محل اهتمام من أعلى المستويات، الشيء الذي يتأكد بالرجوع إلى مجموعة من الخطابات الملكية السامية التي تطرقت لهذا الموضوع، ومن بينها خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب بتاريخ 20/08/2009 الذي أوصى فيه الملك محمد السادس بضرورة «تأهيل الموارد البشرية، تكوينا وأداء وتقويما، مع العمل على تحسين الأوضاع المادية للقضاة وموظفي العدل، وإيلاء الاهتمام اللازم للجانب الاجتماعي». وقد يستغرب المواطن العادي إذا علم أنه تم تطبيق مقتضيات هذا الخطاب الملكي السامي فقط في شقه المتعلق بتحسين الأوضاع المادية لموظفي وزارة العدل الذين تم إنصافهم بعد سلسلة من النضالات، بينما تم إقصاء القضاة، ربما لأنهم ظلوا ولفترة طويلة محرومين من ممارسة حقهم في التعبير بسبب الإفراط في إشهار سلاح واجب التحفظ أو لعدم وجود إطارات حقيقية تمثلهم وتدافع عنهم.. الشيء الذي أدى إلى استثنائهم من التدابير المتعلقة بتحسين أوضاعهم المادية بالرغم من كون أوضاع فئات واسعة منهم أضحت جد مزرية، ولاسيما القضاة المتدربين وقضاة الدرجتين الثانية والثالثة.. وقد يزداد استغراب المواطن العادي إذا عرف أن نفس الموضوع كان محل اهتمام ملكي منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي تطرق لإشكالية الأوضاع المادية للقضاة في العديد من خطاباته والتي كان من بينها خطابه التاريخي بمناسبة استقباله لرؤساء الغرف بالمجلس الأعلى (محكمة النقض) ولأعضاء المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 24 أبريل 1995 الذي جاء فيه ما يلي: «وبالنسبة للحالة المادية (للقضاة) أقول إن هذه الوضعية تهمني أنا وسآخذها شخصيا على عاتقي، وهذا وعد أعدكم به، وعهد أقطعه على نفسي وسأعطي أوامري لاعتماد سلم المرتبات في وزارة الداخلية بمثابة السلم الموحد بالنسبة إلى رواتب القضاة من وال وعامل وكاتب عام وباشا وقائد لأن القاضي يجب عليه أولا أن يظهر بمظهر يليق بمقامه، فالفقهاء عندنا دائما كانوا بكساء أو سلهام أبيض رفيع، فحتى يكونوا أنيقين فكريا يجب أن يكونوا أنيقين جسديا، وثانيا حتى يكونوا بمنأى عن كل ضغط لأنه «كاد الفقر أن يكون كفرا» والإنسان مخلوق من لحم ودم «الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»، فلا يمكن أن نقول للقاضي «في اللهب ولا تحترق» أو نقيد يديه ونقول له إياك أن تبتل بالماء. هذه المسألة أنا آخذها على عاتقي، ولي اليقين أن قراري هذا سوف يلقى الرضى الكامل والشامل، لا أقول من القضاة فحسب بل من جميع رعايانا لأنهم إذا قابلوا بين المبلغ الضئيل جدا الذي ستتحمله الميزانية وبين الربح المادي والمعنوي الذي سيكسبونه من هذه الخطوة سيجدون أن ليست هناك أي مقارنة، بل كل ذلك ربح للقاضي والقضاء وللجميع».. وقد مرت سنوات وسنوات وتعاقب على تدبير وزارتي المالية والعدل عدة وزراء دون أن تجد المقتضيات المتعلقة بتحسين الأوضاع المادية للقضاة ولا باعتماد «سلم المرتبات في وزارة الداخلية» بمثابة السلم الموحد لرواتبهم طريقها لترى النور.. بل على العكس من ذلك، أجهضت كل المحاولات الرامية إلى تحصين القضاة ماديا، وترك هذا الموضوع للاستغلال السياسي، بل وتم إغراق القضاة بسيل من الوعود وأدخلوا في مسلسل من المتاهات بين انتظار الإفراج عن المراسيم المتعلقة بالزيادات وتبادل الاتهامات بين وزارتي المالية والعدل قبل محاولة الالتفاف على الموضوع برمته في تطبيق لما يعرف بالهروب إلى الأمام من خلال إقحامه في مسلسل طويل غير محدد المعالم عبر حلقات «الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة»، وكأن كل الوعود السالفة التي أعطيت للقضاة وللشعب المغربي أيضا لم تكن كافية لسبغ معالم هذا الموضوع الذي قتل نقاشا.. لا شك أن نفس الجهات التي ساهمت في تعطيل الجهود الرامية إلى تحسين الأوضاع المادية للقضاة وتحصينهم من الناحية المادية طوال السنوات الماضية هي نفس الجهات التي تحاول اليوم تعطيل الإفراج عن مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية، وهي الجهات نفسها أيضا التي وقفت بالأمس القريب خلف محاولة منع القضاة من تأسيس جمعيتهم المهنية وأعطت أوامرها للإعلام الرسمي بالتعتيم على هذا الموضوع، وهي «جهة» أو «جهات» ليس من مصلحتها خلال الظرفية الحالية على الأقل أن تولد بالمغرب أو تظهر أي بوادر لسلطة حقيقية قضائية.. ربما لأن ذلك من شأنه أن يهدد مصالحها. عضو نادي قضاة المغرب بأزيلال