إبراهيم شريفي، شاب مغربي، اختار الهجرة إلى الديار الفرنسية على غرار الآلاف من مواطنيه. في الضفة الأخرى اكتشف هذا الشاب الأمازيغي صورة أخرى لدولة حقوق الإنسان غير تلك الصورة التي كانت ملتصقة بذهنه. من مطعم للبيتزا إلى حارس عمارة، مرورا بتجربة فاشلة في الثكنة العسكرية للفيلق الأجنبي، وعدة تجارب كمساعد في محلات للبقالة، جرب إبراهيم شريفي حظه في عدة أعمال لم يكن يعتقد أنه سيزاولها عندما تطأ قدماه فرنسا، هو الذي درس التجارة بالمغرب. في كتابه «إبراهيم في دولة حقوق الإنسان»، يحكي شريفي قصة حب جمعته بشابة فرنسية، ويسلط الضوء على العنصرية التي عاناها من قبل عائلة رفيقته، مما حال دون زواجه منها، كما يسرد أقوى اللحظات والمواقف التي مر منها بفرنسا، التي دخل إليها لمدة محددة كسائح، وبقي فيها بعد انتهاء صلاحية تأشيرته... كمهاجر مغاربي بدون أوراق. يعتبر السيد هنري من أكثر زبنائنا إخلاصا. أتذكر جيدا عندما زارنا ذات يوم ليطلب منا النجدة لما توفيت زوجته فجأة. كنت برفقة مشغلي عندما تركنا المتجر وصعدنا إلى بيت الشيخ حيث وجدنا زوجته ملقاة على الأرض. لقد كانت تجربة عسيرة. حملنا زوجة هنري ووضعناها فوق سرير، بينما كان زوجها تحت وطأة الصدمة. منذ ذلك اليوم صار السيد هنري رجلا يائسا وكئيبا. كان في حاجة إلى أحد يخفف عنه ويواسيه في وفاة شريكة حياته. ساء وضعه كثيرا، وبدأ يمتنع عن الأكل، علما بأنه بقي يعيش لوحده منذ وفاة زوجته. إذا لم يشتر ما يلزمه من طعام من متجرنا، أعلم أنه لن يأكل، لأنه لا يتعامل مع أي متجر آخر في الحي. أثار الرجل قلقنا، فاتفقنا معه على أن ننقل إليه يوميا الحاجيات التي يود استهلاكها. عندما لمس حجم مساندتنا له بدأ يخصنا بزيارة يومية كل صباح بملابس النوم. كان السيد هنري رجلا مهما، راكم عدة تجارب في حياته وعمل مهندسا وسافر كثيرا. عندما زرت بيته شاهدت مختلف الصور التي أخذها في مجموعة من الدول. كان في كل مرة يجلب إلي شيئا، كان يأتيني بأقراص لأغان قديمة، كما منحني فراشا وستائر وحافظات نقود وإطارات الصور وغيرها. كنت أقبل هداياه بفرح، لأنه كان يسلمني إياها من كل قلبه. كنت أحاول قدر المستطاع أن أعتني به وأن أحاول إضحاكه رغم حالة الحزن التي يعيشها. أعلم أن السيد هنري خاض الحرب العالمية الثانية وحرب الهند الصينية، لذا كنت أقلد أمامه حركات الجنود والمشاة بطريقتي الخاصة، وكان الأمر يضحكه كثيرا، بل أصبح في كل يوم يقلد لنا المشية العسكرية وهو في التسعين من عمره، بثياب البيت وبنعل في قدميه. في أحد الأيام زارتنا إحدى حفيدات السيد هنري وشكرتنا على اهتمامنا بالرجل، وأبلغتنا في الوقت ذاته بأن جدها سيوضع في دار للعجزة. رفض صديقنا قضاء باقي أيام عمره في دار للمسنين، وظل يردد أمام الجميع: «لا أريد الذهاب. أود أن أبقى في البيت، وأن أموت فيه مثل زوجتي». ذهب السيد هنري مكرها إلى حيث أراد أحفاده، لكنه بدأ إضرابا عن الطعام هناك. لقد نجحت خطته وتم إخراجه من دار المسنين، وعاد فترة إلى بيته، الذي تم بيعه لعائلة أخرى فيما بعد. عانى السيد هنري من تفاقم المرض وانقطعت أخباره تماما. وضعيتي الحالية تثير قلقي: الحصول على الأوراق صار هاجسا لي وهدفا لا بد من بلوغه. لأجل ذلك قررت أن أتبع نصيحة أحد رفاقي المغاربة. قال لي ذات يوم إن انضمامي إلى الوحدة العسكرية للفيلق الفرنسي الأجنبي سيضمن لي بطاقة الإقامة في فرنسا لمدة خمس سنوات، فضلا عن راتب شهري. سجلت نفسي في المركز العسكري للتأهيل والإدماج الواقع بفيسين. هناك كانت أفواج من الأفارقة ومن جنسيات أخرى تنتظر دورها لسماع التعليمات: «أحضروا ملابسكم الرياضية، وانسوا هواتفكم النقالة والصور. ستستفيدون من معاينة طبية، ولا تنسوا أن تعودوا إلى هنا لنحدد لكم موعدا للالتحاق بالثكنة». كأي ساذج يطبعه التسرع، اشتريت بذلة رياضية مباشرة بعد انقطاعي عن العمل في المتجر، وبقيت أنتظر دوري. في أحد الأيام التالية توجهت إلى الثكنة الكائنة بالضاحية الباريسية بحقيبتي مرتديا بذلة أنيقة وربطة عنق. مصلحة الإرشادات الهاتفية مدتني قبل ذلك بالعنوان، فاتجهت إلى المكان. لا وجود لثكنة هنا! سألت المارة والسكان المجاورين فأكدوا لي عدم وجود ثكنة عسكرية في الحي، فتوجهت إلى أحد عمال النظافة وأطلعته على العنوان المكتوب بعناية على قطعة ورق، فطلب مني المشي مسافة قصيرة ثم الانعطاف قليلا. بكل غباء لم أتفحص المكان جيدا ولم أقرأ اللوحات المعلقة قرب البوابة ودخلت مباشرة دون التأكد. مشيت وسط ساحة عبارة عن موقف للسيارات وشاهدت أربعة أشخاص بلباس رسمي. إنه لباس البحرية! استنتجت على الفور بأنني أخطأت العنوان، لكنني اقتربت منهم بشجاعة رغم ذلك وسألتهم: «هل أنا في الثكنة العسكرية للفيلق الأجنبي؟»، فدلني أحدهم على العنوان الصحيح وطلب مني الذهاب إلى فونتوناي سو بوا. في صباح اليوم التالي كان الجو ممطرا، لكنني قررت الذهاب إلى الثكنة العسكرية بدون موعد حتى. بنفس البذلة وربطة العنق توجهت إلى المكان المراد حاملا حقيبتي. عبرت مدخلا طويلا وقبل الوصول إلى الاستقبالات، أمرني عسكري بالتوقف في مكاني. سألني على الفور: «هل لديك موعد؟»، فأجبته بالنفي، فسألني عن جواز سفري ثم فتح حقيبتي وتفحص محتواها، ثم سألني إن كنت أحمل سكينا. بقيت أسئلته تتقاطر: «لماذا جئت بدون موعد؟»، فأخبرته بأنني أريد الانضمام إلى الفيلق الفرنسي الأجنبي. طلب مني الانتظار قليلا وسحبني ثم تركني في غرفة مظلمة ورحل دون إشعال النور. بعد ثلاث دقائق عاد نفس الرجل وأعلمني بأن جواز سفري انتهت صلاحيته، فدخل عسكري ثان يبدو من ملامحه أنه مكسيكي، ألقيت عليه التحية لكنه لم يرد. طلب مني فتح فمي، ثم بدأ يعيد علي نفس الأسئلة: «ماذا تفعل هنا؟».. «هل لديك عائلة في فرنسا؟» فأجبته بالنفي. خاطبني بقسوة: «هذه ليست مدرسة داخلية، ومنذ اليوم لست في حاجة إلى هاتف نقال ولا إلى عائلة. عائلتك وصديقك وبيتك من اليوم هي الفيلق». وبما أنني مغاربي سألني: «هل تشرب الكحول؟.. هل تأكل لحم الخنزير؟»، فأجبته بالنفي، ثم سألني عما إذا كنت أشرب النبيذ، فقلت له: «لا»، فرد علي: «هنا ستفعل ما يُطلب منك». حان وقت الغذاء، فقال لي الرجل: «قم واتبعني الآن. سأقودك إلى المقصف وستأكل ما سيعدونه لك». وجدت صعوبة في مجاراة إيقاعه في المشي، وبعد 50 مترا وصلنا إلى مطعم الجنود. كل الأنظار كانت متجهة نحوي، فمظهري كان مختلفا عن الباقي. جاؤوني بطبق من التبولة ولحم الخنزير المقدد، وبما أنني لست معتادا على تناول ما قدموه إلي، بقيت أنظر حولي دقائق دون أن آكل، فسمعت صوتا خشنا لعسكري آخر تفوق رتبته الرجل الذي قادني إلى المقصف: «أخرج هذا الرجل من هنا ولا تأتيني أبدا بمثل هذه الأشكال». المكسيكي الذي رافقني إلى هنا أومأ إلي بالوقوف وطلب مني المغادرة. قادني إلى غاية الباب الرئيسي وأعاد إلي جواز سفري وبإشارة بيده الأخرى طلب مني الخروج. تلقيت صفعة قوية بسبب ما «اقترفت من جرم» في المقصف وعدت من حيث أتيت.