إبراهيم شريفي، شاب مغربي، اختار الهجرة إلى الديار الفرنسية على غرار الآلاف من مواطنيه. في الضفة الأخرى اكتشف هذا الشاب الأمازيغي صورة أخرى لدولة حقوق الإنسان غير تلك الصورة التي كانت ملتصقة بذهنه. من مطعم للبيتزا إلى حارس عمارة، مرورا بتجربة فاشلة في الثكنة العسكرية للفيلق الأجنبي، وعدة تجارب كمساعد في محلات للبقالة، جرب إبراهيم شريفي حظه في عدة أعمال لم يكن يعتقد أنه سيزاولها عندما تطأ قدماه فرنسا، هو الذي درس التجارة بالمغرب. في كتابه «إبراهيم في دولة حقوق الإنسان»، يحكي شريفي قصة حب جمعته بشابة فرنسية، ويسلط الضوء على العنصرية التي عاناها من قبل عائلة رفيقته، مما حال دون زواجه منها، كما يسرد أقوى اللحظات والمواقف التي مر منها بفرنسا، التي دخل إليها لمدة محددة كسائح، وبقي فيها بعد انتهاء صلاحية تأشيرته... كمهاجر مغاربي بدون أوراق. في أحد الأيام وبينما كنت أقتني بعض الأغراض في المتجر، لفت نظري بيض سمك اللمب، الذي يشبه إلى حد كبير سمك الكافيار. لا أعرف شيئا عن كيفية إعداده، ولم أكن أرغب في سماع نصائح أو توجيهات لأجل ذلك. سأعده بطريقتي الخاصة. يجب ألا تقل جودة طعامي عن جودة المحل الذي أعاره لي صديقي. إضافة إلى ذلك فبيض سمك اللمب خفيف ويبدو شهيا ويتوفر على الفيتامينات وأهم العناصر الغذائية. أوجد بمفردي داخل الشقة، لكنني أحس بالسعادة. فور عودتي إلى البيت، قمت بإعداد مائدة الطعام كما لو أن الأمر يتعلق بحفل أو مناسبة. استعنت بوزرة خاصة بالمطبخ وأخذت مقلاة صغيرة وأشعلت الفرن ثم وضعت كمية من الزبدة على سطح المقلاة. فتحت علبة «الكافيار» ورميت بمحتواها فوق المقلاة. مرت ثوان قليلة أعقبتها فوضى حقيقية... بيض السمك بدأ يحدث فرقعات ويتطاير في جميع الاتجاهات. سقف المطبخ الأبيض غمره السواد وحيطانه أصبحت مزركشة. بقيت واقفا في مكاني من هول الصدمة، ثم تشجعت واقتربت من «المفرقعات» وأطفأت الفرن. رائحة الحريق غمرت المكان وخمنت على الفور بإمكانية وصول صاحب المنزل واكتشافه الأمر. انتهى أمر طبق «الكافيار» وعوضته بحصة متعبة من التنظيف. تحولت في رمشة عين من سيد المكان إلى خادمة تنظف كل شيء. وبما أنني أرغب في الرحيل عن مدينة سيت، اتصلت بوالدي وطلبت منه أن يمدني بعنوان أو هاتف لأحد معارفه بباريس كي يساعدني في إيجاد عمل. حصلت على رقم هاتفي لأحد المغاربة الذين يقضون فترة تقاعدهم بالمغرب، فدلني على عنوان ببلدية نويي سور سين الواقعة على مقربة من العاصمة باريس. في اليوم الموالي ذهبت إلى هناك فوجدت رجلا أنيقا في سن النضج، يقوم بحراسة عمارة سكنية جميلة. استقبلني الرجل بحفاوة، وكان زواره كثيرين، وكنا من وقت لآخر نتناول طعام الغداء برفقة الضيوف. استغللت فرصة وجودي هناك للبحث عن متجر للاشتغال فيه. ذات يوم قدمت لزيارتنا امرأة تعمل في نفس الحي مساعدة اجتماعية تعتني بالأشخاص المسنين وتناولت معنا الشاي. تعرف جيدا الحارس الذي يستضيفني حاليا في إطار المهام التي تقوم بها، فهي تأتي إلى بيوت الأشخاص المسنين وتعتني بهم داخل مساكنهم. يبدو أنها امرأة طيبة. أعطتني رقم هاتفها وعنوانها وطلبت مني أن أتصل بها إذا احتجت إلى المساعدة. عندما كنا نشرب الشاي دار حديثنا حول المغرب، فأخبرتها بأنني قادم من أكادير وعلمت بأنها من نواحي مراكش وأن كلانا أمازيغي. بعد مرور أيام أخبرني حارس العمارة أنه سيستفيد من ثلاثة أسابيع من الراحة، وأنه في حاجة إلى من يحل مكانه. وافقت على الفور على اقتراحه فأطلعني على مختلف تفاصيل العمل اليومي الذي يتوجب علي القيام به: تنظيف سلالم العمارة، تسليم السكان بريدهم اليومي (خاصة المرأة الفرنسية التي تقطن في الطابق الثاني)، تشغيل نظام التدفئة إذا اقتضى الحال، فضلا عن وضع الأكياس في صندوق القمامة، والاعتناء بالمصعد الكهربائي ومراقبته، وغير ذلك من المهام اليومية. قبل رحيله قدمني الرجل لسكان العمارة على أنني ابنه. فرحت لأني حصلت أخيرا على فرصة. ذهب «أبي» في عطلة لثلاثة أسابيع وتحملت مسؤولياتي بجدية. منذ البداية حاولت خلق فضاء للتواصل بيني وبين سكان العمارة، أداعب كلب أحدهم وأتبادل النكت مع آخر، ولا أتوانى في عرض خدماتي على الجميع وأطلب منهم الاتصال بي إذا احتاجوا لأي شيء. في أحد الأيام الباردة نهاية شهر يناير، قررت من تلقاء نفسي تشغيل جهاز التدفئة ووضعته في الدرجة القصوى، خوفا من أن يشتكي السكان من البرد القارس. قمت بخطوتي وأنا أتذكر جيدا أن حارس العمارة حذرني من ارتكاب هذا الخطأ. في صباح اليوم الموالي توصلت بالعديد من المكالمات، وبزيارة من المرأة القاطنة في الطابق الثاني. أخذت البرقيات والمجلات التي توصلت بها في بريدها وأخبرتني بأنها لم تنم في الليلة الماضية بسبب درجة الحرارة المفرطة التي تسببت فيها. الجميع أبلغني نفس الملاحظة، فطمأنتهم ووعدتهم بألا يتكرر الأمر ثم ركضت لتخفيض درجة حرارة الجهاز. في دواخلي كنت خائفا وقلقا للغاية وأفكر فيما قد يحدث معي، فالتأشيرة السياحية التي سمحت لي بدخول فرنسا أشرفت على نهايتها، وسأتحول إلى شخص غريب بدون أوراق. أعتقد أنه حان الوقت كي أتصل بالسيدة المتحدرة من ضواحي مراكش التي أعطتني رقمها، فأنا أشعر بالوحدة والخوف، خاصة أن صديقي حارس العمارة لم يترك لي رقم هاتفه. في نفس اليوم الذي كلمتها فيه قبلت بمقابلتي، فهرولت إلى المتجر لاقتناء بعض الأشياء. الوقت مر ببطء وكل ظل أو حركة كانت تجعلني أعتقد أن زائرتي وصلت. سمعت طرقا على النافذة، لقد جاءت ابنة بلدي! هيأت المائدة لتناول الشاي وشرعنا نتجاذب أطراف الحديث. قالت لي إن شخصا مثلي لا يناسبه عملا كالذي أزاول الآن، فعندما رأت يدي علمت أن مكاني هو العمل داخل مكتب. أخبرتها بأن تأشيرتي ستنتهي في غضون أيام، فأكدت لي من جديد أنه باستطاعتي الاعتماد عليها. حان اليوم الذي انتهت فيه صلاحية التأشيرة. أصبحت بدون أوراق والمال الذي أتوفر عليه بدأ ينقص بشكل مخيف. لا أشتري سوى الأرز، لكنني أشعر بالراحة كلما تذكرت أن صديقي سيعود. عند عودته أعرب عن ارتياحه عندما علم بأن الأمور مرت بشكل جيد أثناء غيابه، فهنأني بحرارة ولم أجرؤ على أن أكلمه في الأمور المادية. لما فتح خزانة الأكل والثلاجة لم يجد شيئا، فقال لي إنه لا يملك مالا الآن، لكنه وعدني في المقابل بمنحي جزءا من الراتب الذي سيتوصل به نهاية الشهر مقابل العمل الذي قمت به في الأسابيع التي غاب عنها. كان رجلا مضيافا، لكنني كنت أضطر إلى مغادرة بيته والقيام بجولة إجبارية كلما زارته إحدى صديقاته. أطلعني على غرفة مجاورة مستقلة عن غرفته وطلب مني المكوث بها. وافقت على الفور وسعدت لأنني سأصبح حرا ولأنني لن أزعجه كلما كان في جلسة حميمية. كانت الغرفة في حاجة إلى إصلاحات جذرية، قضيت ثلاثة أيام وأنا أعمل صباح مساء كي أجعلها صالحة، بل حصلت على أريكة وجدناها في الشارع بعد أن استغنى عنها أصحابها، وعلى سجاد أحمر جعل الغرفة تبدو رائعة. سلمني صديقي 30 أورو مقابل الإصلاحات التي قمت بها، وبعد مرور يومين كشف لي عن خبر سيء. مالك العمارة لا يريد أن أمكث هناك طويلا، فهو يريد تفادي المتاعب ولا يرغب في وجود مهاجر بدون أوراق في بنايته. كان علي أن أحزم أغراضي. ليس لدي مكان أذهب إليه. صديقي حارس العمارة قادني إلى ابن عمه لأقضي عنده بعض الأيام، لكنه نسي الأهم: تعويضي عن الأسابيع الثلاثة التي عملت فيها بدلا منه.