من راعي غنم في هضاب زيان إلى مستشار في أم الوزارات ورجل من رجالات ابن الشاوية ادريس البصري، من شاب مشبع بالفكر الثوري حريص على التصدي لغارات المخزن إلى حارس أمين لقلعة توصف بأم الوزارات، من طفل حملته الصدفة إلى طاولات المدرسة إلى منظر في العلوم السياسية ورجل عركته التجارب والملفات التي اضطلع بها وحولته إلى خبير في إعداد التراب الوطني. حين تقرأ مسودة كتاب «حياتي، الحسن الثاني، إدريس البصري وأنا» تشعر وكأنك تسافر في عمق تاريخ وجغرافية بلد عاش على إيقاع التحولات، وكلما التهمت الصفحات شعرت وكأنك تطوي المسافات وتجوب تضاريس مغرب كان فيه ادريس البصري صانع علامات التشوير السياسي، مستمدا قوته من ثقة الملك الراحل الحسن الثاني في إخلاص ابن الشاوية وولائه. يعتبر الدكتور لحسن بروكسي من الرعيل الأول للمستشارين الشباب الذين ائتمنهم البصري على ملفات حساسة في وزارة الداخلية، قبل أن يتحول من مسؤول تحركه الهواجس الأمنية إلى برلماني مسكون بالغارات السياسية، وبين الضفتين عشرات نقط الالتقاء والاختلاف. تنشر «المساء» في هذه الاستراحة الصيفية جوانب خفية لكثير من الملفات الشائكة التي اشتغل عليها بروكسي ومستشارو البصري، وتسلط الضوء على قضايا أحيطت بكثير من السرية، وملفات وضعت في دواليب كتبت عليها عبارة «سري للغاية». غادرت وزارة الداخلية دون أن تغادرني، ففي أحضانها، إذا كان لها حضن، عشت مع البصري الحلو والمر، فقد كان واثقا من حسن طويتي وتحمل شغبي وخروجي عن النص، كما تحملت بدوري الغضبات الباردة ل«سي ادريس» من 1971 إلى 1977. ست سنوات مرت سريعة، تخللتها غيوم دكناء جثمت فوق علاقتنا، خاصة في أعقاب المذكرات التي كنت أبعثها إلى الديوان الملكي والاستنتاجات التي تفرزها أبحاثي، مما يجعله يلجأ بين الفينة والأخرى إلى دهائه البوليسي، قبل أن يكتشف أن الجلوس تحت مظلة المخزن ليس من صميم طموحاتي. بالمقابل، كانت الأطر العليا لوزارة الداخلية تعلم بأنني تحت حماية البصري، أذكر العمل الكبير الذي قمنا به وأسرة الميدان التي كانت تحتل زاوية في المكتب رقم 16 بوزارة الداخلية، حيث نختلس بعض الدقائق لننام عليها أثناء المداومة والمهام المعتمة والواضحة. قضيت أجمل أيام حياتي في تعقب رفاقي في ثانوية مولاي يوسف، الذين لطالما نابت نظراتهم عن عبارات اللوم والعتاب. اخترت أن ألعب دور شاوش المخزن ضدا على تكويني الأكاديمي والنضالي. لازالت تتراقص أمام عيني دائما خبايا هذا المسار الذي اخترته طواعية، لكنني ألتمس لنفسي الأعذار حين أقنعها بجدوى الفعل والفاعل والمفعول، لأن الحسن الثاني كان يستحق أن أكون خادما طيعا له. رماني القدر، مرة أخرى، في قلب المعركة السياسية، رغم أنني نزلت على غرار كثير من الزعماء السياسيين بمظلة البصري في قبة البرلمان، فقد كنت أكثر استعدادا لدخول تجربة نضالية جديدة كنت أعاقرها بنشوة لا مثيل لها، بعيدا عن تعليمات الداخلية، دون أن أقطع حبل الود مع البصري، الذي اكتشفت الكثير من مزاياه حين غادرت الوظيفة. اقترح البصري على أحرضان تعييني على رأس خلية الأبحاث والدراسات لحزب الحركة الشعبية، وقدم ضمانات حول قدرتي على الدفع بهذا الحزب المدعم بحقن الداخلية نحو الواجهة في برلمان الصقور. تعامل أحرضان معي بحيطة وحذر لأنني سليل فريق عمل البصري، فقد كان يحرص على ترويض لسانه ولا يحوله إلى سوط كلما كنت في حضرته، مقابل اقتناعه بالعمل الذي أقدمه إلى جانب نخبة المفكرين التي التحقت أو ألحقت بالحركة الشعبية. كنا أمام محك حقيقي في برلمان تؤتته رموز الفكر والسياسة، وكان علينا كفريق حركي أن نضاهي عبد الكريم غلاب في خرجاته وعبد الواحد الراضي في دقته وفتح الله ولعلو في تفتيته للمعادلات الاقتصادية ومحمد اليازغي في سبر أغوار السياسة الخارجية، وعلي يعتة في رؤيته الحداثية بلكنته الجذابة، ورجل القاسمي قاطرة الأحرار، والمحامي الذي لطالما واجه إعصار الاتحاديين والاستقلاليين. كان المعتصم رئيس الفريق الحركي مفتونا بمنهجيتي وتحاليلي، وكان الوزراء يقضون أسوأ لحظات حياتهم في البرلمان في مواجهة خاصة مع وزير المالية، فيما ظل البصري يشجعنا في الكواليس ويدعونا إلى رفع وتيرة السجال السياسي، وعلامات الحبور تسيطر على محياه وهو يعاين طريقة اشتغال قطع الغيار التي انتقاها بعناية لتشكل محرك المؤسسة التشريعية، لكنه ترك الدكتور بنهيمة في مواجهة استفسارات النواب خلال اجتماعات اللجن البرلمانية. بدأت أستأنس بحياتي كنائب برلماني يخوض مباريات غير متكافئة ضد صقور الاتحاد الاشتراكي والاستقلال، لكنني كنت ألجأ بين الفينة والأخرى إلى تجربتي في أحضان الداخلية لأقلب الطاولة على كثير من صناع القرار، بل إن تقريرا أنجزته حول المكاتب الوطنية أثار زوبعة في قبة البرلمان ومكن الحركة الشعبية من لفت الانتباه وكسب بعض النقط، بل إن المعتصم، رئيس الفريق الحركي، كان أول من أثار إشكالية اللغة الأمازيغية واضعا عبد الكريم غلاب الاستقلالي في وضعية حرجة، في الوقت الذي كان فيه محمد الوفا في خط الهجوم الاستقلالي بدفوعاته التي ينتقي كلماتها بعناية. ظلت الأخبار القادمة من الصحراء تتحدث عن معارك قوية بين الجيش المغربي وانفصاليي البوليساريو المدعومين من طرف الجزائر وليبيا، بينما كانت حروب لا تقل ضراوة في البرلمان. انشغل أحمد عصمان كثيرا بالنقاش الدائر بين البرلمانيين، أو بتعبير أوضح، النخب البرلمانية، وانتابته غضبة ظاهرة من تدخلات المعتصم التي أصبحت تستأثر باهتمام الرأي العام والصحافة حين دعا إلى اعتماد اللهجة الأمازيغية وهو ما اعتبرته الدولة خروجا عن نص الإجماع الوطني. انتدب الوزير الأول رجل المهام الصعبة، إدريس البصري، ودعاه إلى حمل خرطوم مياه ولعب دور الإطفائي في برلمان مشتعل، قال لي إدريس أمام أحرضان: - «بروكسي أنت من أشعل فتيل النزاع في قبة البرلمان، بالنسبة للمعتصم فأنا أدعوه إلى سحب تدخله». - «لا يمكن السي ادريس، كيف نتراجع عن قناعة راسخة؟ وكيف سيكون موقفنا أمام الرأي العام؟» انتهت هذه المناقشة عند الباب المسدود، لكن أحرضان تعهد بإضفاء بعض الليونة على مواقف وفي تدخلات الحركيين في البرلمان. لم أبتلع لساني وشرعت في صياغة مشروع جديد «المجتمع الجديد»، عهد فيه ليحيا بن تومرت بإنجاز الشق المالي، مما بوأ الحركة الشعبية مكانة متميزة ووضعت ممثليها في الخطوط الأولى من معركة التنظير لمستقبل مغرب ما بعد المسيرة الخضراء، بل إن برلمانيي الكتلة غيروا من نظراتهم لأتباع أحرضان. في هذه الفترة الزمنية، عاشت حكومة عصمان على إيقاع فساد داخلي، وصل إلى حد تسريب الاختبارات النهائية للباكلوريا، تلاه اعتقال عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليازغي والمقاوم البرلماني منصور، حينها تضامن فصيل النخبة السياسية لحزب الحركة الشعبية مع الاتحاديين، الذين هددوا بالاستقالة الجماعية من البرلمان. أصيب محرك البرلمان بعطل، وأصبح كثير من البرلمانيين الاتحاديين تحت مراقبة البوليس، الذي يتعقب خطواتهم وينصت لمكالماتهم ويقتحم خصوصياتهم، لكن فصيلا من الحزب لم يستسغ تضامن النخبة الحركية مع الاتحاديين، فانسلت شياطين السياسة تحت جنح الظلام للعبث بما تبقى من وئام، وهو ما دفعنا إلى صياغة وثيقة احتجاج ضد التدبير السلطوي لأحرضان، الذي لم يهتم كثيرا بهذا الحراك، وحين عرض النازلة على البصري قال له: -هل بروكسي في صفكم؟ -لا -ستخسرون المعركة. رغم ذلك، أجبرت أحرضان على التفاوض مع محمد عبد الرزاق، الرجل الثاني في الاتحاد المغربي للشغل، من أجل المساهمة في تكوين بعض البرلمانيين الحركيين الشبان تكوينا نقابيا، كأكورام وأمسكان وغيرهما من القيادات الشابة، بل إن عبد الرزاق قيادي هذا التنظيم والذي ساعدته كثيرا على ضم المصحات متعددة الاختصاصات لنقابته بفضل وزير الصحة الحركي الرحالي، طلب من الوزير الأول في فترة لاحقة ضمي إلى الحكومة وتكليفي بحقيبة وزارة الوظيفة العمومية، لكن أحرضان لم يضع اسمي في لائحة الحركيين المرشحين للاستوزار، بل اقترح التوكاني بديلا عني، كما شرع في التخلص تدريجيا من نخب الحزب، وبحث عن بدائل أبرزها صديقه بوعزة يكن، الذي كان يقطن في الدارالبيضاء، لكن الحركة ظلت تحت وصاية البصري الذي كان يملك خيوطها كما يملك خيوطا أخرى، ويتابع نبضها من خلال علاقته بالقيدوم الحركي مولاي علي العلوي. أصبت بإحباط، لكنني أومن بأن «الضربات التي لا تقتل تقوي».