من راعي غنم في هضاب زيان إلى مستشار في أم الوزارات ورجل من رجالات ابن الشاوية ادريس البصري، من شاب مشبع بالفكر الثوري حريص على التصدي لغارات المخزن إلى حارس أمين لقلعة توصف بأم الوزارات، من طفل حملته الصدفة إلى طاولات المدرسة إلى منظر في العلوم السياسية ورجل عركته التجارب والملفات التي اضطلع بها وحولته إلى خبير في إعداد التراب الوطني. حين تقرأ مسودة كتاب «حياتي، الحسن الثاني، إدريس البصري وأنا» تشعر وكأنك تسافر في عمق تاريخ وجغرافية بلد عاش على إيقاع التحولات، وكلما التهمت الصفحات شعرت وكأنك تطوي المسافات وتجوب تضاريس مغرب كان فيه ادريس البصري صانع علامات التشوير السياسي، مستمدا قوته من ثقة الملك الراحل الحسن الثاني في إخلاص ابن الشاوية وولائه. يعتبر الدكتور لحسن بروكسي من الرعيل الأول للمستشارين الشباب الذين ائتمنهم البصري على ملفات حساسة في وزارة الداخلية، قبل أن يتحول من مسؤول تحركه الهواجس الأمنية إلى برلماني مسكون بالغارات السياسية، وبين الضفتين عشرات نقط الالتقاء والاختلاف. تنشر «المساء» في هذه الاستراحة الصيفية جوانب خفية لكثير من الملفات الشائكة التي اشتغل عليها بروكسي ومستشارو البصري، وتسلط الضوء على قضايا أحيطت بكثير من السرية، وملفات وضعت في دواليب كتبت عليها عبارة «سري للغاية». غادر الحسن الثاني المغرب قبل أيام من الاقتراع وتوجه نحو فرنسا لقضاء فترة استجمام بعيدا عن لغط الانتخابات، حتى لا يكون لوجوده في المملكة أي تأثير على سير الاستحقاقات. حصل ما توقعته من خلال دراسة قبلية وحصد الاتحاد الاشتراكي مقاعد عديدة نتيجة الوضع الاستثنائي الذي عاشه المغرب، حيث أضافت الضربات التي تعرض لها بعض رموز الحزب لرصيد هذا التنظيم نقطا كثيرة، خاصة بعد مقتل عمر بنجلون وتفجير الطرد البريدي في وجه اليازغي وغيرها من المواقف، التي مكنت حزب بن بركة من احتلال الصدارة في كثير من المناطق. أصيب البصري بنوع من الذهول وهو يتابع نتائج الانتخابات التي كانت تتقاطر على الوزارة، التي أكدت الفوز الساحق للاتحاديين. كنت سعيدا رغم بعدي عن موقع الحدث، إذ كنت أجتاز فترة نقاهة، وجهت عتابا لصديقي المهدي متقي، عامل آسفي، والذي سيقدم استقالته في فترة لاحقة، أما قيسي عامل أكادير، فكان تحت وقع المفاجأة حين تبين له أن المدينة اتحادية اللون السياسي، فيما حاول حمودة القايد استدراك ما حصل، لكنه عجز. أما بقية العمال الذين عملوا بتعليماتي وخلقوا توازنا سياسيا بين حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، فقد نجحوا في الامتحان الانتخابي واجتازوه بسلاسة. لم تمر الانتخابات مرور الكرام، فقد خلفت في مدينة آسفي جدلا قويا تعدى صداه حدود حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ووصل إلى أروقة وزارة الداخلية، خاصة بعد اكتساح حزب بن بركة للانتخابات في عبدة. ولقد أقر العامل متقي بقيام الاتحاديين بقرصنة البطائق الانتخابية، وظل متمسكا بموقفه، وهو ابن الشاوية الذي لا ينصاع لقرارات الداخلية، رغم ما يربطه مع إدريس البصري من علاقة صداقة ترجع إلى فترة الطفولة في سطات، كما درسا سويا في إحدى ثانويات الدارالبيضاء. كنت دائما أستفز البصري حين أقول بأن متقي أكثر منه تمرسا باللعبة السياسية، وتفاديا لأي رد فعل تجاه متقي، أغلق هذا الأخير هاتفه ووضع جهاز التيليكس المرتبط بالوزارة خارج الخدمة، وشرع في إعداد وجبة انتخابية على نار هادئة، غير مبال بالهيستريا التي انتابت فريق عمل البصري على المستوى المركزي، بعد أن أصبح معزولا عن الداخلية، واضطر ادريس إلى إرسال خطاب عبر البحرية الملكية إلى مدينة آسفي، لكن بعد أن انتهى متقي من إعداد وصفته التي أعاد من خلالها بعض التوازن للمشهد السياسي، مما أغضب اتحادي عبدة والعاصمة. التقيت في اليوم الموالي الاتحادي عبد اللطيف جبرو غير بعيد عن مقر البرلمان، فاتحني في موضوع الاستحقاقات الانتخابية بآسفي دون مقدمات: -هذا ماشي متقي الله هذا كافر الله. أما العامل متقي، فتعامل بهدوء مع العاصفة، لما له من خبرة سياسية طويلة، ولم يجد حرجا في مخاطبة البصري قائلا: -كان عليك ألا تطلب منا التعامل بحياد مع الاستحقاقات الانتخابية، للأسف لم تعمل بوصية بروكسي. اتصل الحسن الثاني هاتفيا بمتقي لاستطلاع الأمر، لكن يبدو أن عامل عبدة، وهو «موثق» رفيع المستوى، يتمتع بمكانة خاصة لدى الجنرال مولاي حفيظ العلوي، متقي الذي ألقبه بالجن، كان له فضل كبير في تعيين إدريس البصري على رأس مديرية الشؤون العامة، وعاش هو وصديقه إدريس محنة انقلاب الصخيرات تحت رحمة رصاص عشوائي، وحين توقف القصف، توجه الرجلان صوب العاصمة الرباط، وفي الطريق اقترح متقي على البصري إرسال نداء إلى الوحدات الأمنية من الإدارة العامة للأمن الوطني، التي كانت تعيش حالة فراغ يدعو كل الفصائل إلى التمسك بأهذاب العرش والولاء التام للملك، وهو ما استجاب له إدريس. تحدث مولاي حفيظ العلمي مع الملك حول هذه الواقعة، بينما ألح البصري على صديق طفولته الذي كان يعمل موثقا، بضرورة إغلاق مكتبه بالدارالبيضاء والانضمام إلى «خدام العرش» من خلال تعيينه على رأس أحد أهم أقاليم المملكة، وهو ما استجاب له متقي لفترة زمنية كانت من أصعب الفترات في تاريخ المغرب الحديث. كانت تربطني بالمهدي متقي علاقة وجدانية، أذكر أنه خلال إشرافي على الحركة النقابية، لاحظت أن مدينة آسفي والمناطق التابعة لنفوذها كانت تعيش موتا نقابيا، أشعرت العامل بهذه الإغماءة التي تنتاب المنظمات العمالية وتحول الشغيلة إلى كائنات جامدة، واقترحت عليه تحريك هذه البركة الراكدة، وتنظيم تظاهرة نقابية جوفاء على الأقل ليشعر الشارع العبدي بحراك الشغيلة، لأن سكون الشعب يشكل خطرا على الدولة، وهو ما استجاب له العامل الذي دعا إحدى التنظيمات النقابية للتظاهر وأنجز تقريرا حول الواقعة توصلت به وزارة الداخلية. رغم أن عبد الرزاق، الزعيم النقابي للاتحاد المغربي للشغل، من أصول سطاتية وتربطه بالبصري علاقات وثيقة، إلا أن هذا الأخير كان يفضل قضاء وقت طويل في بيت متقي في الدارالبيضاء كلما زار العاصمة الاقتصادية، وهو ما أثار غضب عبد الرزاق، الذي كان يدين له بالولاء كثير من وكلاء جلالة الملك، لأنه كان مقربا من الحسن الثاني، فقد كان بالنسبة للنظام البديل المنتظر للمحجوب بن الصديق، الذي رفض الملك محاولة الداخلية كسر شوكته بخلق نقابة جديدة، ورد بعبارته الشهيرة: -المحجوب هو الحسن الثالث. نفس موقف الملك سبق للرئيس الفرنسي دوغول أن لجأ إليه في ماي من سنة 1968، حين قام المفكر جان بول سارتر بتحريض الطبقة العاملة ضد الرئيس الفرنسي، آنذاك قال دوغول قولته الشهيرة: -جان بول سارتر هو فرنسا. تسيد الاتحاديون المشهد السياسي في أعقاب انتخابات سنة 1976، لكننا لم نسمع صوت اليازغي لا قبل ولا أثناء ولا بعد الاقتراع، بينما كان عبد الرحيم بوعبيد زعيما بكل ما تحمله الكلمة من كاريزما، وهنا تعود بي الذاكرة إلى سنتي 1982/1983، حين كنت ممثلا لدائرة والماس في البرلمان. حين دعاني البصري لمساعدته على تخليصه من ورطة وفد فرنسي مكون من كبار المفكرين الشيوعيين، كجوسبان وروكان وبيلون كانوا يعتزمون السفر إلى مخيمات تيندوف للوقوف على وضعية البوليساريو، اقترحت على البصري اللجوء إلى عبد الرحيم بوعبيد الذي كان تدخله حاسما وتمكن من إقناع الفرنسيين ووضعهم في الصورة الحقيقية. ورطت الانتخابات الجماعية الاتحاديين، خاصة وأن كثيرا من المنتخبين عجزوا عن تدبير الشأن المحلي وفق ما جاء في برامجهم، مما أثر سلبا على مستقبل الحزب في الانتخابات التشريعية التي هيأتها الداخلية، حيث سيطر حزب الأحرار، حديث الولادة، برئاسة أحمد عصمان، على مختلف الدوائر الانتخابية، بينما ظلت بقية الأحزاب تراقب الموقف في صمت.