من راعي غنم في هضاب زيان إلى مستشار في أم الوزارات ورجل من رجالات ابن الشاوية ادريس البصري، من شاب مشبع بالفكر الثوري حريص على التصدي لغارات المخزن إلى حارس أمين لقلعة توصف بأم الوزارات، من طفل حملته الصدفة إلى طاولات المدرسة إلى منظر في العلوم السياسية ورجل عركته التجارب والملفات التي اضطلع بها وحولته إلى خبير في إعداد التراب الوطني. حين تقرأ مسودة كتاب «حياتي، الحسن الثاني، إدريس البصري وأنا» تشعر وكأنك تسافر في عمق تاريخ وجغرافية بلد عاش على إيقاع التحولات، وكلما التهمت الصفحات شعرت وكأنك تطوي المسافات وتجوب تضاريس مغرب كان فيه ادريس البصري صانع علامات التشوير السياسي، مستمدا قوته من ثقة الملك الراحل الحسن الثاني في إخلاص ابن الشاوية وولائه. يعتبر الدكتور لحسن بروكسي من الرعيل الأول للمستشارين الشباب الذين ائتمنهم البصري على ملفات حساسة في وزارة الداخلية، قبل أن يتحول من مسؤول تحركه الهواجس الأمنية إلى برلماني مسكون بالغارات السياسية، وبين الضفتين عشرات نقط الالتقاء والاختلاف. تنشر «المساء» في هذه الاستراحة الصيفية جوانب خفية لكثير من الملفات الشائكة التي اشتغل عليها بروكسي ومستشارو البصري، وتسلط الضوء على قضايا أحيطت بكثير من السرية، وملفات وضعت في دواليب كتبت عليها عبارة «سري للغاية». اختارني الطلبة المغاربة في جامعات ليون رئيسا لاتحادهم، وهي المهمة التي أخذت من عمري ثمان سنوات، من سنة 1961 إلى 1970. وجدت في أجواء الاتحاد الوطني لطلبة المغرب فرع ليون جاذبية لا تقاوم، مناقشات عميقة وجدل سياسي كبير. في هذه الفترة، تعرفت على عائلة كريم العمراني، الوزير الأول السابق، خاصة نجلته سميرة وشقيقتها وابنة عمها حيث كن يتابعن دراستهن في جامعة هذه المدينة العريقة، الأولى في شعبة القانون، بينما اختارت شقيقتها وقريبتها شعبة العلوم الطبيعية، كنت قريبا من سميرة التي كانت حريصة على متابعة كل المناقشات التي تهم الأوضاع في المغرب والتحولات التي يعرفها، وكانت أيضا عاشقة للموسيقى الغربية، خاصة رائعة فيفالدي»الفصول الأربعة». أهدتني يوما شريطا لهذا الفنان وأصبحت من عشاقه بالرغم من انتماءاتي الأمازيغية، وأصرت على أن تحضر جميع الأنشطة التي يشارك فيها الاتحاد الوطني، إلى أن تشبعت بروح النضال رغم أصولها البورجوازية. ذات يوم، صادفت ملصقات تغطي جدران الكلية والساحات العمومية، تحثنا على متابعة محاضرة للمفكر الجزائري كاتب ياسين، تحمست لحضور هذا اللقاء بقاعة غرفة التجارة، التي كانت مملوءة بالطلبة والنخب الثقافية التي تفاعلت مع ياسين، الذي ختم الأمسية بأشعار تفاعل معها الحاضرون. انتظرت إلى نهاية الحفل وقدمت له نفسي كمسؤول عن اتحاد طلبة المغرب في ليون، رحب بي وألغى مواعيده، وقبل دعوتي إلى جلسة مع مجموعة من الطلبة المغاربة. كانت فرصة للوقوف في مرافئ ثقافية وسياسية واجتماعية، ظل الرجل على امتداد ثلاثة أيام مرتبطا بنا يشاركنا أنشطتنا وتفاصيل حياتنا الحميمية. لكن حين كنا نشيد حلم مغرب كبير بلا حدود ولا نقط تفتيش، جاءت حرب الرمال بين المغرب والجزائر لتعبث بهذه القواسم المشتركة بين بلدان خاطها المستعمر على مقاسه، وبصفتي مسؤولا عن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في ليون، فقد دعوت إلى اجتماع طارئ لمجلس الطلبة المغاربيين، لمناقشة موضوع النزاع المغربي الجزائري واتخاذ موقف موحد من القضية، وهو ما حصل حين أجمع الحاضرون على أن الحرب بين الجيران تضرب في العمق محاولتنا رأب الصدع وجمع شتات المغرب العربي الكبير، ودخل المهدي بنبركة على الخط وكان أكثر جرأة من بيننا حين دعا فصائل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في باريس والرباط إلى التنديد وشجب ما أقدم عليه الجيش المغربي ووصف تدخله العسكري في الخلاف الحدودي عملا عدوانيا وهمجيا. مارس علي لحبيب سي ناصر ضغوطات كي أساير بيان المهدي ومن خلاله الاتحاد الوطني، وقام فتح الله ولعلو بزيارات مكوكية إلى ليون من أجل تبني طرح بنبركة، لكنني كنت ضد الارتماء التام في الطرح الجزائري وإدانة العسكر المغربي دون سواه، بل إن المعتصم القيادي السابق في اتحاد طلبة المغرب فرع باريس، كان ضد الإدانة التامة للقوات المسلحة الملكية، بالرغم من الحملة التي قام بها المهدي بنبركة وجند لها الكثير من الطلبة المغاربة في المهجر. ولأنني محسوب سياسيا على الحزب الشيوعي، فقد التقيت بالقيادي بن الشيخ، مناضل الحزب المقيم في منطقة غرونوبل، وبإسماعيل العلوي بباريس، من أجل الانضمام إلى الموقف السياسي الذي تبناه علي يعته، وهو وضع جعلنا نتهم قياديي حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالدوغماتيين المتعصبين لأفكارهم، ونتلقى بالمقابل اتهاما بموالاة المخزن. رغم الاختلاف في الآراء والمواقف، فقد كانت روح الديمقراطية حاضرة في النقاش السياسي بين جميع الفرقاء، لكن أوفقير لم يتابع الموقف كمتفرج، بل استنفر عشرات الطلبة الجامعيين ومنهم من دعم ماليا لكسر شوكة الثورة الطلابية في فرنسا والتصدي بالخصوص للمد اليساري، الذي يتبناه المهدي بنبركة، بل إن مجموعة من الطلبة الاستقلاليين أنشأوا كيانا جمعويا طلابيا جديدا لضرب صرح الاتحاد الوطني، وطمس نجومية بنبركة، الذي شملت حركيته مختلف بقاع حركات التحرر العالمية المناهضة للرجعية المحلية والصهيونية والإمبريالية، والذي لم يكن مساندا من الحزب الشيوعي الفرنسي ولا من فيدرالية اليسار الفرنسي، بل كان رجلا محكوما بالرفض مع وقف التنفيذ، يسبح في أعالي البحار بمجداف. لم يكن للمهدي سند حقيقي في أوربا، بينما كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية تترصد الرجل المزعج، خاصة بعد خرجاته الإعلامية ذات البعد العالمي وقدرته على تعبئة شعوب العالم وقيادتها نحو الانعتاق من حبل القوى الامبريالية. تصدى أوفقير لظاهرة تسييس العمل الطلابي، وتنامي المد الثوري في الثانويات والجامعات، الذي يعود سببه إلى حسن التأطير في الثانويات، لكن الخطر الذي يقلق أوفقير هو القادم من وراء البحار، خاصة في فرنسا التي أصبحت قبلة للطلبة الذين يجدون في مناخ الحرية مجالا لتلقي دروس الزعامة السياسية، وهو ما أغضب أوفقير الذي اقترح على الملك الحسن الثاني وزارة للداخلية الأمنية، خاصة وأن الرجل يحمل على أكتافه نياشين موروثة عن الجيش الفرنسي الذي تربى في ثكناته، خاصة في صنف الكوماندو ومعارك المداهمات، التي استلهمها من مشاركته في حرب الفيتنام. وضع أوفقير هيكلة جديدة للمنظومة الأمنية وأنشأ الأمن الحضري وخصه بحماية أمن الحواضر، مع رصد ما يحدث داخل أسوار الثانويات والجامعات، دون أن يقطع الخط لحظة مع مدبري مخطط اختطاف بنبركة، والذي اعتبرناه نحن الطلبة فاجعة حقيقية، حيث أصبغ على فضاء الجامعة لون الحداد، ولم يقتصر أوفقير على تدبير اختطاف القيادي الاشتراكي، بل جند مئات ضباط الأمن المغاربة وأرسلهم إلى مدرسة للشرطة بسان سير بمدينة ليون في فترة تأهيل تمتد لسنة كاملة، في الوقت الذي كانت الطبقة الطلابية في فرنسا غارقة في صدمة اختفاء المهدي وتحاول فك لغزها. وضعنا هذا الإنزال الأمني المغربي في حيرة من أمرنا، وكثير من الطلبة المغاربة أعلنوا القطيعة مع «كوميسيرات» أوفقير، لكنني كنت حريصا على التعامل معهم كمغاربة، وقلت لزملائي إن اللقاء بهم لا يغير آراءنا تجاه النظام، لهذا كنت أقضي وقتا طويلا مع كثير من الضباط المغاربة في مقاهي ليون، خاصة مع محمد عرشان، الذي تم اختياره بعد انتهاء التكوين أولا في الدفعة، في الوقت الذي لم يكن إدريس البصري ضمن البعثة الأمنية، التي خضعت للتدريب، لأنه لم يكن موضع ثقة أوفقير الذي يصفه بالشرطي المثقف، من باب التهكم. فإدريس كان حريصا على متابعة دراسته في القانون بكلية الحقوق بالرباط، وتسند له مهام فيها نوع من التحقير، خاصة حين يكلفه بمرافقة أطفال باعزات، الذراع الأيمن لأوفقير، إلى المدرسة أو إلى مزرعته، لكن الرجل كان يقوم بما يمليه رئيسه دون كلل. عين أوفقير عمالا على رأس العمالات، أغلبهم لهم انتماءات قروية، دقق كثيرا في اختياراته خوفا من تسرب مسؤولين لا يرون السلطة بنظرات أوفقير السوداء. وحين أنهى الوفد الأمني تكوينه، شكل إلى جانب العمال ذروعا واقية ومتاريس شائكة ضد من يهدد أمن النظام، أو هكذا يريد أوفقير أن يصنع منهم، بإشراك الدليمي الذي كان رجلا يشتغل في الظل.