«حلم بعضهم بالكثير قبل أن يتحطم حلمه ويعود من جديد ليلملم حطام هذا الحلم بحماسة شعبه ويبني له مكانا للحلم الجديد، معليا همما وعزائم ومحررا شعوبا وقبائل وراسما خريطة لشعبه إلى معترك التاريخ.. تمرَّد وثار حتى تحقق هذا الحلم.. حلم غلبت عليه خيبة الأمل لدى آخرين بعد أن تراجعوا بأنفسهم وشعوبهم إلى الوراء، مقنعين إياهم بأن الحياة ترجع إلى الوراء أحيانا بعد أن استلم بعضهم الحكم بالوراثة وبعد أن ثار وتمر َّد بعضهم حتى وصل إليه، فضيعوا شعوبا ومسحوا دولا وقتلوا وشرّدوا أمما حتى وجدوا مكانا لهم في محكمة التاريخ لتصدر الحكم في حقهم رغم بقاء آخرين في خانة اللجوء والثورة والتمرد حتى رحيلهم, محقَّقاً حلمُهم أو غير محقق... فمنهم من نجحوا ومنهم من سقطوا دون أن تسقط عنهم هالات الحب والتقديس، وهالات اللعنة أحيانا، لكونهم شخصيات تاريخية هزت البشرية»... في حوالي العام 200 قبل الميلاد، نشأت دولة قرطاجة، التي أخذت من تونس مقرّا لها ومركزا لعملياتها نحو بناء الدولة الكبرى، التي امتدت لتحكم ليبيا والجزائر والمغرب وإسبانيا... حتى كانت فترة مجدها في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، حيث اعتبر القرطاجيون أنفسَهم أولَ شعب ينشئ المستعمرات عبر البحار، بعد أن نجحوا في احتلال إسبانيا، التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي، قبل أن يثور أهلها على الحكم القرطاجي، ويتوجّه الملك هاميلكار لتأديب العصاة، لكنه لقي مصيره المحتوم بعد قتله وإيقاع ابنه هانيبال في كمين محقق.غير أن الابن نجح في الفرار منه لتبدأ أولى المناوشات بين الطرفين لفترة امتدت ثمان سنوات، حتى انتخب هانيبال قائدا عاما لقرطاجةالجديدة، التي شملت إسبانيا بعد احتلالها.. وفي عام 219 قبل الميلاد، شرعت روما في تعديل معاهدة سابقة كانت تقضي بأن يتوقف نفوذ قرطاجة في إسبانيا عند نهر «الإبرو»، وأخذت تطالب هانيبال بعدم التقدّم عن تلك النقطة، بعد أن أثارت الفتنة لدى إحدى القبائل التي كانت تحت نفوذه، ليتم حصارها واقتحام حصونها. وقد أرسلت روما، بعد ذلك، إنذارا نهائيا لهانيبال، مفاده ضرورة الجلاء عن قبيلة «ساجونتيم»، فأرسل هانيبال خطابا إلى روما لتحديد موقفها بين السلم والحرب، وكانت الثانية خاصة، بعد أن رفض المجلس القرطاجي تسليم هانيبال إلى السلطة المطلقة في روما. كان هانيبال (أو هنبعل كما يلفظ عادة) ولد في قرطاج (تونس حاليا) عام 247 قبل الميلاد، لينشأ في كنف أبيه هاميلكار برقة، ذلك المحارب العظيم الذي قاسى ويلات الحرب ضد روما، التي جرّدتْه هو وقرطاج من الشرف والأرض معا، فاعتاد على مرافقة والده إلى معبد قرطاجة الكبير، الذي بات يُقسم فيه باستمرار بأن يظل عدوّا لروما طالما بقي على قيد الحياة. وسرعان ما انتقل هانيبال إلى الثغور، يقاتل ويحارب وهو لم يتجاوز من العمر الثانية عشرة ربيعا، ممتطيا الفيلة وجواده إلى جانبه. وعندما لاحظ والده ذلك، شرح له هانيبال قائلا إن الفيل بطيء جدا، وحين أريد أن أنقضّ على روماني أنتقل من فيلي إلى جوادي».. فأعجب والده بالفكرة وقرّر مرافقة الخيل دائما إلى جوار الفيلة في المعارك. غزو روما كان حلم هانيبال هو غزو روما والإطاحة بها، نظرا إلى ما عانته الشعوب الراسخة تحت قبضتها. وعندما شعر بأنه يقترب من تحقيق هدفه ورأى نفسه مهيأ ومعّدا لتحقيق ما وُلِد من أجله، انتهز فرصة ثمينة لإثارة حنق روما وإشعال فتيل الحرب، وهو جل ما كان يصبو إليه، فعندما هاجمت ساجونتيم (مدينة إسبانية حليفة لروما) حلفاء إسبان موالين لقرطاج، عبَر هانيبال إلى إسبانيا وقام بمهاجمة ساجونتيم، لتعلن روما غضبها على قرطاج وطالبت مجلسها بتسليم هانيبال لها. لكنها رفضت ذلك، معتبرة أنه تطاول جديد من روما على السيادة القرطاجية، لتندلع الحرب بين الطرفين. كان الوضع الطبيعي أن يقوم الرومان بمهاجمة حلفاء قرطاج الإسبان أولا، ثم مهاجمة قرطاج نفسها. وكان من المتوقع أن يقوم هانيبال نفسه بتحصين دفاعاته في انتظار وصول الرومان. لكن ما حصل هو أن البطل المغامر هانيبال قرّر مهاجمة الرومان في عُقر دارهم وفي روما تحديدا.. كانت روما حينها قد سيطرت على كامل البحر المتوسط ولم يعد هناك من سبيل أمام هانيبال سوى طريق البر، المليء بالدوريات والقلاع والحصون الموالية لروما والمليء أيضا بقبائل «الغاول» التي لا تدين لأحد، فقرّر عبور جبال الألب، حيث وعورة الطريق وبرد الشتاء القارس عبر ثلوج جباله البيضاء، التي تغطي القمم حتى السفوح. مضى هانيبال في جيش قوامه 50 ألف جندي و37 فيلا تحتاج فيه إلى مزيد من الغذاء وبكميات كبيرة لتعويض ذلك الطقس الذي لم تعتد عليه من قبل.. ذهول روما بدأ هانيبال حملته العسكرية بعبوره نهرَ «الإيبرو» في الشمال الشرقي لإسبانيا، مخضعا في طريقه القبائل الساكنة هناك والمتحالفة بشكل كبير مع السلطة في روما في فترة وجيزة لم تتجاوز الثلاثة أسابيع، حتى وصل إلى نهر «الدون» على الحدود الفاصلة بين فرنسا وإيطاليا في مدة إصابت الرومان بالذهول، حيث لم تتجاوز اليومين! واضطر الرومان إلى الاستسلام والانسحاب إلى جوار بحيرة «ترازيغين» وفرارهم بعد حين أمام ضربات هانيبال، الذي حقق انتصارا عظيما بعد أسره لقرابة 15000 جندي روماني، بنسبة 35% من عداد الجيش في معركة أطلق عليها الرومان اسم «اليوم الأسود».. الزحف نحو روما بعد هذه الانتصارات المتتالية، أخذ الجنود الغاليين بمطالبة القائد هانيبال بالزحف جنوبا نحو روما، لاحتلالها، لكنه رفض ذلك، متحججا بحاجة الجيش إلى الراحة والتوجه شرقا نحو بحر «الأدرياتيك»، الذي أجبر خلال الطريق إليها على الالتقاء بفلول جيش روماني صغير لا يتعدى تعداده 4000 جندي وإيقاعه في الأسر في وقت كان هانيبال (بفضل حنكته السياسية والعسكرية) يعلم جيدا صعوبة الزحف إلى روما من الناحية الجنوبية لها، نظرا إلى أن جيشه مرهق ويحتاج إلى «استراحة محارب»، أولا، ونظرا إلى خطورة الطريق الجنوبي ثانيا، حيث الأرض المقفرة الجدباء، التي لا ماء فيها ولا هواء.. وبمثل هذه الموافقة كان سيسير إلى هلاكه وإلى هلاك جيشه، الذي أخذ يستمد المساعدات من الصيادين والرعاة، مقررا العبور بها عبر «إدفيراس»، متوجها الى شاطئ بيسانتا، عبر الأدرياتيك، التي سيتوصل فيها بتلك الإمدادات التي قام بتزويده بها الأسطول القرطاجي، الذي كان من الصعب عليه الحصول عليها لو توجه شرقا حيث لا وجود للموانيء في تلك الطريق... كان هانيبال قد تمكّنَ من عبور جبال الألب، رغم خطورة الموقف، بعد أن وقف يخطب في جنوده قائلا: لقد تدرّبتم على الصعاب وتحقيق المعجزات، ونحن لا نعتبر جبال الألب معجزة، لكونها لم تلامس السماء بعد!.. سوف تجتازونها وقد قطعتم من إسبانيا وكنتم 6400 مقاتل وأصبحتم 2600.. سنصل إيطاليا، ومن يريد العودة فليعد الآن.. لكن ماذا سيقول لأولاده: هل سيقول لهم إنني عدْت قبل أن أقابل العدو؟».. عبَر هانيبال جبال الألب في أوج فصل الشتاء، حيث الثلوج والأمطار الكثيفة في أجواء لم يألفها الأفارقة من قبل، حيث الجليد يُغطّي كافة المساقط المائية والغابات الكثيفة والمسالك الضيّقة والكتل الصخرية الضخمة، التي تتساقط بين الفينة والأخرى كلّما هبت عاصفة محملة بكرات الثلج، التي تخفي المنظر وتجعل الرؤية منعدمة، ليخوض أولى معاركه (معركة تسينو) التي دارت رحاها على شواطئ نهر تسينو، والتي حسمها هانيبال لصالحة بخطة سريعة لعب فيها الفرسان الأمازيغ دوراً حاسماً عندما طوّقوا من الخلف كتائب الرومان الثقيلة، التي لم تصمد رماحهم الطويلة أمام حراب الأمازيغ القصيرة والخفيفة النافذة، ليندحر جيش روما بقيادة القنصل ببليوس أمام جيش هانيبال ويولي الأدبار جريحا ومهزوما نحو روما. دع الأرض تقاتل عنك لم ترض روما بهزيمة قنصلها ببليوس أمام جيش هانيبال القادم إليها، فأسرعت إلى توجيه جيش آخر، بقيادة جديدة هو القنصل طيباريوس سمبرونيوس، لملاقاة جيش هانيبال ومحو هزيمة معركة «تسينو»، لكن هانيبال سرعان ما رجّح الكفة لصالحة وألحقَ هزيمة أخرى بروما وجيشها الجديد في معركة «كاني» (أو كاناي) على ضفاف بحيرة «ترازايمين»، وهو يردّد مقولة أبيه هملقار برقة: «دع الأرض تقاتل عنك».. وكان من نتائج تلك المعركة أن تحالفت مع هانيبال شعوب «غال سيسالبين»، التي انضمّت إليه بجيش قوامه 14000 مقاتل، فاستقبلهم هانيبال وهو يردد: «إذا أحرزتُ نصراً انضمّ إليك الجميع، حتى خصومك، أما إذا حاقت بك الهزيمة فيتخلّى عنك حتى محبوك». وفي شهر يونيو 217 قبل الميلاد، تجمعت جماهير روما في ساحة «الفوروم»، بعد أن وصلت كوارث الهزيمة إليها وبقيت أبواب مجلس الشيوخ مغلقة أمام العموم، التي طالبت برد قوي على هانيبال وجيشه القادم لاحتلال روما. وبعد إلحاح من الشعب، خرج عليهم القنصل بومبونيوس بمفرده واعتلى درج مدخل المجلس وألقى عليهم خطابا قصيرا يتكون من 12 كلمة فقط، قال فيه: «لقد قهر العدو جيوش روما في موقعة عظيمة مات فيها أحد القنصلين (القنصل فلامينوس). الرعب يصيب روما بهذا الانتصار الجزئي أضحت الهزيمة محتمة على الرومان، بعد أن عقد هانيبال العزم على القضاء عليهم، فأخذ، بحنكته العسكرية، في الإعداد للمعركة القادمة وهي احتلال روما، وأضحى غارقا في التفكير والتمعن في الاختيارين: غزو روما من عدمه، في ظل موجة الاحتفالات العظيمة، تاركا الفرصة لجيشه لكي يستريح. لكن مثل هذه الاحتفالات لم تلاق القبول لدى قائد الجيش القرطاجي المحنك هربال، الذي أشاد بالنصر ولوّح لهانيبال بضرورة وقف الاحتفالات والسير في اتجاه روما لاحتلالها، وهو الطلب الذي رفضه هانيبال لأسباب كان منها وجود فلول القوات الرومانية (17000) على مشارف روما، أولا، وإصابة جيشه القرطاجي بالإرهاق ثانيا، رغم حالة الذعر والخوف الشديدين اللذين أصابا روما حتى شرع سكانها في الرحيل عنها، فقرّر التوجه بجيشه إلى نابولي، حيث فصل بذلك جنوب إيطاليا عن شمالها، دون أن ينتبه إلى خطة القائد الروماني سيبو بابليوس، الذي ترك إسبانيا واحتل قرطاجة، عاصمة إسبانيا، ملحقا الهزيمة ببعض الجيوش القرطاجية هناك بقيادة شقيق هانيبال هسدروبال، الذي عمد إلى أسره وقتله وبعث رأسه هدية النصر للقائد هانيبال تشفّياً فيه.. ليسير سيبو وبعد موافقة مجلس الشيوخ نحو احتلال قرطاجة نفسها ومركزها تونس والجزائر ويفرض على هانيبال وجيوشه العودة للدفاع عن الحامية القرطاجية بعد 16 عاما من عبوره نهر الإبيبرو الإسباني ويلحق بهم الهزيمة وينتصر سيبو في معركة السهول العظمى ويلحق الهزيمة بهانيبال، لأول مرة في تاريخه، في معركة «زاما» التاريخية.. سيطرت الجيوش الرومانية على قرطاجة وفرضوا شروطهم عليها وفرّ هانيبال، الذي رفض تسليم نفسه للرومان، مفضلا الانتحار رغم كونه أخّر تدمير قرطاجة 50 عاما، قبل أن تدمّر فعلا من طرف الرومان عام 146 قبل الميلاد.