تتحدث «المساء» في ركن «مهن وحرف في طريقها إلى الانقراض» عن مهن وحرف لم تعد تؤمن رزق أصحابها، بفعل التطور التكنولوجي والتغيرات السلوكية والحضارية للإنسان. كانت بالأمس الأسلوب الوحيد لتغطية مصاريف الحياة لدى العديد من الأسر المغربية بالمدن والقرى، علمها الأجداد للآباء والأمهات، وتوارثها الأبناء والأحفاد، الذين تشبعوا قرونا مضت بالمثل المغربي «تبع حرفة بوك يلا يغلبوك». مهن وحرف رأسمالها مواهب وذكاء وعتاد بسيط، كلفت الإنسان المغربي شيئا من الصبر والعزيمة، وربما بعضا من النصب والاحتيال، ومنحته بديلا غير مكلف، للحصول على المال والاحترام. وأغنت البعض عن التجارة والفلاحة والأعمال الوظيفية. لكن تلك المهن والحرف لم تعد لها زبائن الأمس. جولة قصيرة بالوسط المغربي، وخصوصا القروي منه، تجعلنا نلمس عن قرب واقع تلك المهن وحياة ممتهنيها، ونعيش معهم مرارة الاحتضار الذي تعيشه وسط مجتمع منشغل بالبحث عن الجديد والمستجد. «قلة البركة» و«قلة النية»... كلمات يرددها أصحاب «العلاج بالبركات» على مسامع كل من سألهم عن أحوالهم، ومعيشتهم في ظل نفور النساء والرجال عن خيامهم ومنازلهم، وامتناع معظم الأسر عن زيارتهم بهدف التبرك أو التداوي أو الشعوذة. قلت مداخيلهم المالية والعينية، والتي كانت تصلهم يوميا من طالبي البركات على شكل «بياض» أو ذبائح أو هدايا أو تبرعات... فالطب العصري والتقليدي الذي يعتمد على الأعشاب الطبيعية، إضافة إلى انتشار بعض المراكز الصحية داخل الدواوير ووجود قوافل طبية موسمية داخل مناطق نائية، جعلت القرويين والأميين يفضلون العلاج العصري، على التداوي بالبركة الذي نادرا ما يكلف الأسر مصاريف مالية باهظة الثمن. وتختلف طرق وأساليب علاجات أصحاب البركات باختلاف مصادر تلك «البركات»، ونوعية المرض. فمعظم المغاربة عولجوا على أيدي أصحاب البركات في مراحل من أعمارهم. وهم في غالبيتهم نساء عجائز أو شيوخ لهم مواهب خاصة في فرض علاجاتهم التقليدية. نذكر من بين البركات التي توارثها الأبناء عن الآباء أو بعض الأقارب، ما ذكرته الحاجة حليمة (اسم مستعار)، إذ قالت إنها تداوي الأطفال المصابين ب«الشم» وهو مرض موسمي يصيب الرضع من الفواكه، ومن أعراضه الإسهال والقيء. وأضافت أنها تستعمل شفرة حلاقة تجرح بها الرضيع «تشرط ليه»، جرحين في أنفه وآخرين في أذنيه، وتمسح الجروح بقطعة قطن أو صوف ملطخة بالفحم الخشبي. كما تعالج مرض «السرة» الذي من أعراضه كبر حجم الرأس، إذ تأخذ عودا يابسا من نبتة «مريوت»، وتضرم فيه النار قبل استعماله لكي رأس الرضيع وكذا رجليه ويديه. كما يمزجون مسحوق الحناء مع الزعفران والماء، ويلطخون به رأس الرضيع قبل لفه بمنديل. هناك أصحاب بركات يعالجون المرضى ب«بوزلوم» المعروف ب«السياتيك»، و«الوالدة الطايحة» و«الضلعة المغروزة» و«التوتة» و«بوصفاير» و «المفكوك» و(الموتي)... يحكي (م.ه) وهو شاب في عقده الثالث، طالب مجاز ويعمل مدرسا بمدرسة خاصة، أن منزله كان قبلة لنساء المنطقة، اللواتي كن يصطحبن أطفالهن الرضع كلما أصيبوا بمرض معروف ب«صيد الفم»، ليقوم هو بعلاجهم. ومن أعراضه أن الرضيع يرفض الرضاعة والأكل ويفقد التحكم في سيلان لعابه، كما تبرز فقاعات على شفتيه، وهي أعراض تجعل الرضيع يبكي طوال الوقت. وقال الشاب إنه كان يشفيهم منذ أن كان سنه سبع سنوات، وأن «البركة» كسبها بقدرة الله، موضحا أن كل من مات والده وأمه حامل به، يكون حاملا لهذه البركة. وأن هذه الفئة من الأشخاص يسمى الواحد منهم ب«يتيم العشا»، ويصبح قادرا بقدرة الله على شفاء الأطفال المصابين بأمراض «صيد الفم» و«النخسة». وعن الطريقة التي يستعملها للعلاج قال الشاب إنه يضع قليلا من الملح في فمه، ويمزجها بريقه قبل أن ينفثها «يبخ» في فم الرضيع، الذي يعالج بإذن الله بعد يوم أو يومين، وأضاف «أنا متعلم ولا أؤمن بالدجل، لكن ما أقوله واقع وحقيقة، ولا أتقاضى سوى ما يعرف ب«البياض» الذي لا يتعدى في الغالب خمسة دراهم». ولعلاج «النخسة» قال إنه يأخذ سكينا ويهدد به الشخص المصاب كيفما كان سنه في المكان الذي يؤلمه، فيزول ألمه. بعضهم يكتفي بالمسح أو الضرب على الأكتاف والرؤوس، ليصل إلى البصق في وجوه وأفواه طالبي البركة. وبالمقابل فإن المرضى طالبي البركة، يقدمون لأصحاب البركات الذين لا يطلبون أجورا مالية محددة، بعض الذبائح التي يشترطها صاحب «البركة» ضمن مجموعة من الطلبات لشفاء المريض، أو التي تكون هدية من المريض بعد أن يشعر بتحسن صحته أو شفائه من مرض عضوي أو نفسي... كما تقدم له الهدايا والأموال التي يعتبرها المريض تبرعات عن طيب خاطر. بضريح الولي الصالح مولاي بوعزة بإقليم خنيفرة، مثلا، لايزال البعض ممن يعرفون بأصحاب البركات يستغلون علاقتهم بالضريح أو ببعض المنتسبين لشجرته، ويستفيدون من سخاء الآلاف من الحجاج الذين يزورونه سنويا لطلب بركاته المتنوعة والمختلفة. وخصوصا المستفيدين من جهازي السكانير (الصخرة والحصيرة)، اللتين تستعملان للكشف بثمن رمزي عن عاق الوالدين «مسخوط» أو «مرضي» الوالدين. كرامات وبركات كانت سببا في ارتقائه لديهم إلى منصب الشريف الفاضل والشيخ الذي وإن مات، لازالت شرائح كبيرة من أحفاد وسلالات عدة قبائل زارها أو عايشها تؤمن بقدرته على تحقيق مطالبها في الدنيا والآخرة من (عمل وزواج وصحة وإبطال السحر والثقاف وتحديد عاق الوالدين...). وقد خلص المؤرخ أحمد التادلي الصومعي إلى تأليف كتاب عبارة عن تحقيق جمع فيه ما بلغه من كرامات مولاي بوعزة ويحمل عنوان (كتاب المعزى في مناقب الشيخ أبي يعزى)، والتي عددها حسب مسار حياة الولي الصالح. كما أن مجموعة ممن التقتهم «المساء» من أعضاء بجماعة الضريح التي تتكون من 24 عضوا موزعين على أربعة دواوير تعتبر نفسها من سلالة الولي الصالح، وهي دواوير (أيت لكناويين، أيت الشيخ، أيت عزوز، لعوالم)، يؤمنون بصحة الكرامات على أساس أنهم تناقلوها أبا عن جد وأنها ليست خرافات. نصحني أحد المدمنين على زيارة أصحاب «البركات» الذين يستقرون بمنازلهم الصفيحية أو الأسمنتية، أو ينصبون خياما داخل الأسواق الأسبوعية أو مواسم التبوريدة السنوية، أو المستقرين داخل أو بجوار أضرحة أولياء الله الصالحين، أن أتسلح بنصائح من سبقوني في تلك الزيارات، وأن أتذكر جيدا أن تلك الأراضي والأمكنة التي تعمر فيها تلك الفئات، أو تلك التي شاء القدر أن تحتضن قبور أولياء الله الصالحين، داستها منذ القدم أقدام الخير والشر، وظلت تلك البقع الطيبة، أمكنة للعبادة والذكر، وفي نفس الوقت مسارح ومستقرات لأصحاب «البركات» رموز الضلال والشعوذة والخرافات وأكلة اللحوم النيئة والأعمدة النارية والمياه الحارقة. وأضاف «البوهالي» أو «الفقير» بجزم الفاء.. أن أجواءهم، امتزجت فيها العبادة بالتطبيب والشعوذة والذكر وطلب التوبة والهداية... واختلطت مع طقوس «الحضرة» و«الحيرة» وخرافات «العادات»، التي بلغت إلى حد عبادة الموتى الصالحين. أو الاستعانة ببعض المشعوذين والدجالين من أجل تسريع تلبية الطلبات. وهو ما زاد من تخلي الأسر عن التداوي بالبركة. ولو أن بعض أصحاب البركة مازالوا موضع ثقة بعض الناس، ومنهم من استطاع أن يفرض اسمه على الصعيد العربي والدولي. ومكنته بركته من تبوؤ مكانة كبيرة داخل بعض المجتمعات وداخل أوساط راقية داخل وخارج المغرب.