تحولت سوريا من رقم مهم في معظم الملفات الإقليمية إلى ساحة للصراع بين قوى إقليمية ودولية عديدة، إلى درجة يمكن القول معها إن ما سوف تنتهي إليه الثورة في سوريا سينتج تداعيات مباشرة على توازنات القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وربما يعيد رسم خريطة هذه القوى من جديد. ومن بين كل القوى الإقليمية والدولية التي باتت أطرافا مهمة في الأزمة السورية، تحظى تركيا بأهمية وموقع خاص، ليس فقط بسبب احتضانها لقوى المعارضة السورية، المسلحة وغير المسلحة، ولكن أيضا بسبب تحولها إلى «نقطة وثب» أو «رأس حربة» لمجمل الخيارات التي يتبناها الغرب في مواجهة نظام الرئيس السوري بشار الأسد. من هنا تحولت العلاقة بين تركيا وسوريا من «تحالف نموذجي» استطاعت الدولتان تأسيسه منذ وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى السلطة في أنقرة عام 2002، ومثّل انعكاسا مباشرا لما يسمى بسياسة «تصفير الأزمات» التي تبناها وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، إلى توتر وعداء صريح، عقب اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، على خلفية دعم أنقرة للاحتجاجات ضد النظام السوري، بل ومطالبتها الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي، فضلا عن دخولها على خط الضغوط التي تفرضها الدول الغربية على هذا النظام. وقد انعكس هذا التوتر مؤخرا في الأزمة التي أنتجها نجاح الدفاعات الأرضية السورية في إسقاط طائرة حربية تركية من طراز «فانتوم 4» في 22 يونيو الماضي، بعد أن دخلت المجال الجوي السوري لفترة وجيزة. إن حرص سوريا على تصعيد حدة التوتر مع تركيا في هذه اللحظة تحديدا، له مغزى خاص ويتضمن أهدافا متعددة: أولها إحراج تركيا على الساحتين الداخلية والخارجية، وتضييق مساحة المناورة وهامش الحركة المتاح أمامها، بسبب دعمها الواضح للمعارضة السورية، وإظهارها في صور العاجز عن اتخاذ إجراءات فورية لحماية مصالحه وأمنه القومي، خصوصا مع تكرار استفزازات سلاح الجو السوري بالقرب من الحدود مع تركيا، بل وقصف مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا، مما أسفر عن مقتل العديد منهم؛ وثانيها، استشراف حدود الخيارات التي يمكن أن يتطرق إليها الغرب في حالة فشل الأداة الدبلوماسية في التوصل إلى تسوية للأزمة، من خلال الجهود التي يبذلها المبعوث الأممي العربي إلى سوريا كوفي أنان، والتي لم تنجح حتى الآن في تحقيق خروقات رئيسية في الأزمة، بسبب انعدام الثقة واتساع فجوة المواقف بين النظام والمعارضة، إلى جانب تشابك مصالح القوى الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة؛ وثالثها، توجيه رسالة قوية إلى الغرب مفادها أنه رغم الضغوط التي يتعرض لها النظام السوري، فإنه ما زال متماسكا وقادرا على المواجهة. وهنا، يبدو أن دمشق انتبهت إلى احتمال أن تكون الطلعات الجوية التي تقوم بها طائرات سلاح الجو التركي تتم بالتنسيق مع حلف الناتو، لاختبار الدفاعات الأرضية السورية، قبل التفكير في أية خيارات أخرى للتعامل مع الأزمة في سوريا، ومن ثم تعمدت التصعيد مع تركيا لتأكيد أن عواقب الخيار العسكري غير مضمونة، وأن ما حدث في حالة ليبيا لا يمكن أن يتكرر في سوريا في ظل اختلاف الظروف وتباين المصالح؛ ورابعها، تأكيد أن نظام الرئيس بشار الأسد يحظى بدعم من جانب قوى دولية وإقليمية عديدة، ولاسيما روسيا التي قدمت إلى سوريا أنظمة دفاع جوي وطائرات مروحية أُعيد تجديدها وطائرات مقاتلة، في إشارة إلى أنها لن تتخلى بسهولة عن حليفها المهم في المنطقة. ورغم رد الفعل السريع الذي أبدته تركيا تجاه حادث إسقاط طائرتها الحربية، والذي بدا جليا في إرسالها ست طائرات من سلاح الجو لمواجهة أربع مروحيات سورية اقتربت من الحدود بين البلدين، إلى جانب تهديد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بأن «كل عنصر عسكري يقترب من تركيا قادما من الحدود السورية يمثل خطورة وخطرا أمنيا سيجري اعتباره تهديدا عسكريا وسيعامل كهدف عسكري»، فإن الخيارات تبدو ضيقة أمام أنقرة للتعامل مع التصعيد السوري، وهو ما يمثل انعكاسا مباشرا للمأزق الذي تواجهه تركيا، بشكل عام، في التعاطي مع تطورات الأزمة في سوريا. فعلى الساحة الداخلية، لم يتلق أردوغان أي دعم من جانب قوى المعارضة التركية، التي حرص على الاجتماع مع قادتها لدراسة سبل الرد على التصعيد السوري، حيث بدا أن ثمة حرصا من قبل المعارضة على تجنب التورط في تأييد أي تحرك مضاد من جانب أردوغان تجاه سوريا: أولا، بسبب اعتراضها على السياسة التي تبنتها حكومة «العدالة والتنمية» منذ بداية الثورة في سوريا، ورفضها محاولات أردوغان إقناع الأتراك بأن ما يحدث في سوريا «شأن داخلي تركي»؛ وثانيا، بسبب اتساع فجوة الثقة بين الطرفين في الوقت الحالي، في ظل تشكك المعارضة في الأهداف الخفية للجهود التي يبذلها أردوغان وحزب «العدالة والتنمية» لتغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي من خلال الدستور الجديد الذي سيقوم البرلمان التركي بصياغته في الفترة المقبلة، والتي ترى فيها قوى المعارضة سعيا من جانب أردوغان إلى الوصول إلى منصب رئيس الجمهورية في الانتخابات الرئاسية التي سوف تجرى عام 2014. وقد انعكس هذا الفتور الواضح في الجدل الذي دار بين أردوغان وزعيم حزب «الشعب الجمهوري» المعارض، كمال كيليتشدار أوغلو، حول السياسة التركية تجاه سوريا، حيث اتهم الأخير أردوغان باتباع سياسة أضرت بمكانة تركيا في منطقة الشرق الأوسط، في إشارة إلى أن إسقاط الطائرة التركية لم يكن الحادث الأول من نوعه الذي سبب إحراجا لتركيا في المنطقة، حيث سبقه هجوم الكوماندوز الإسرائيلي على أسطول «قافلة الحرية» الذي كان يسعى إلى فك الحصار عن قطاع غزة، في 31 ماي 2010، مما أسفر عن مقتل تسعة أتراك، ولم تستطع أنقرة إجبار إسرائيل على تقديم اعتذار بشأنه (حتى الآن)، الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقات بين الطرفين.