أكتب اليوم محذرا من نصف نصر يؤول إلى هزيمة، كثرت أمثلته في تاريخنا، وأدعو إلى نصر كامل كثرت أمثلته في تاريخنا أيضا. مستمرا في محاولاته لوأد الثورة وكسر خواطر الناس وإهانتهم، فرض المجلس العسكري، الذي عينه خائن مخلوع على رئيس منتخب من الناس، أن يؤدي اليمين الدستورية أمام قضاة عينهم ذات الخائن المخلوع. واضطر الرئيس المنتخب أن يقسم مرتين، ووعد وعدين لطرفين متناقضين، أقسم أمام التحرير وأمام العسكر، والتحرير والعسكر عدوان، فكيف يوفق بينهما؟ إنه يعد العسكر وجمهور العسكر بالاستقرار، أي بالحفاظ على الوضع القائم، ويعد التحرير وجمهور التحرير بالاستقلال، أي بتغيير الوضع القائم. يعد المصريين والعرب بحماية أمنهم القومي، (مجرد انتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين هو وعد بذلك)، ويعد الأمريكيين والإسرائيليين بالإبقاء على اتفاقية السلام. وليس الرئيس أول من تضطره الظروف إلى هذا المنهج، والذي أسميته من قبل منهج الوطنية الأليفة، بل سبقته إليه معظم حركات التحرر في العالم العربي. كان أبو عمار رحمه الله يعد الفلسطينيين برفع أعلامهم على القدس شاء من شاء وأبى من أبى، ويعد الإسرائيليين والأمريكيين بسلام الشجعان؛ كان سعد زغلول ومصطفى النحاس يعدان الشعب المصري بالاستقلال التام أو الموت الزؤام، ويعدان بريطانيا العظمى بصداقة مصر وحفظ مصالحها في قناة السويس والسودان والقطن والاستثمارات الأجنبية. إن الاستعمار، الإسرائيلي في حالة عرفات، والبريطاني ووكيله الملك في حالة زغلول والنحاس، والأمريكي ووكيله المجلس العسكري في حالة محمد مرسي، يخلق للقائد الوطني ظروفا هيكلية تجبره على مساومة متناقضة كهذه، فهو يريد شرعية الميدان ويريد شرعية القانون معا، شرعية الثورة وشرعية الحكومة، شرعية الشعب وشرعية المستعمرين، إلا أن الثورة ما هي إلا خرق جماعي للقانون وليست استعطافا جماعيا للحاكم والتماسا منه أن يغير ذلك القانون أو الدستور. لا ألوم الرئيس المنتخب، فتقديري له أنه إنسان أمين كريم النفس، إنما ألفت انتباهه إلى هذه النماذج التي سبقته لكي لا يقع في أخطائها، فكل الذين ذكرتهم أعلاه فشلوا، خسروا الدعم الشعبي ولم يُبق عليهم الاستعمار. لم يستطع أبو عمار تحرير فلسطين، وترهلت منظمة التحرير وورثتها حماس في قيادة الكفاح المسلح ضد إسرائيل، ولم ترض عنه إسرائيل بل قتلته قتلا، وبدلا من أن تثأر له منظمته ولت قيادتها رجلا قصر برنامجه على مسالمة إسرائيل واستعطافها، وإلى الآن لم يؤخذ إسرائيلي واحد بدم عرفات. رفض سعد زغلول إعلان 28 فبراير 1922 كما رفض محمد مرسي الإعلان الدستوري المكمل، لكنه شكل وزارة على أساس هذا الإعلان عام 1924، كما تسلم محمد مرسي السلطة على أساس الإعلان الدستوري المكمل، فلم يكمل سعد زغلول دورته في السلطة واضطره البريطانيون إلى الاستقالة، وكان فقد من الدعم الشعبي ما فقد، فلم تقم الثورة مرة أخرى حين استقال، ولا قامت حين مات، ولا قامت حين كانت حكومات الوفد تقال كلما وصلت إلى السلطة. ولعل الرئيس المنتخب يذكر أن جماعة الإخوان المسلمين تشكلت أساسا بسبب إحساس الشباب المصري في العشرينيات والثلاثينيات بالخذلان من الوفد الذي أبدى من التهاون مع البريطانيين رغم كراهته لهم ما تبديه جماعة الإخوان المسلمين اليوم مع العسكر والأمريكيين رغم خصومتها معهم. باختصار، فإن سياسة التوفيق بين الضدين تؤدي إلى خسران الموفق بينهما لكليهما، فلا يحظى برضى الناس ولا برضى من يقمعون الناس. أخاف على الرئيس المنتخب إذن من أن يخسر الحشد، إنه لا شرطة له، ولا عسكر له، الداخلية والمجلس العسكري حلفاء من يعطيهما السلاح والمال والتدريب، هما حلفاء الولاياتالمتحدةالأمريكية، لا حلفاء الرئيس، وإذا حاول التوفيق بيننا وبين الأمريكيين فسيخسرنا ولن يكسب الأمريكيين، ولا بد له من المواجهة. وبالعودة إلى الأمثلة السابقة، فإن المراد لم يتحقق في أي منها إلا بالمواجهة العنيفة. في مصر لم تكتمل ثورة 1919 ويخرج البريطانيون من مصر إلا بالكفاح المسلح في قناة السويس، وبحريق القاهرة. وقد كان حريق القاهرة ثورة شعبية حقيقية اندلعت يوم 26 يناير 1952، ولم تكن تختلف كثيرا عن الثورة الشعبية التي اندلعت في 25 يناير 2011. وكما قالت الرواية الرسمية للتاريخ المصري فإن حرق الأقسام يوم 28 يناير 2011 كان مؤامرة مدبرة، وهو لم يكن إلا تعبيرا عفويا عن غضب شعبي عارم من أجهزة قمع مبارك، قالت الرواية الرسمية للتاريخ المصري إن حريق القاهرة كان مؤامرة مدبرة من الملك، وهو لم يكن إلا غضبا شعبيا على كل ما يمثل التجربة الغربية والحقبة البريطانية في مصر، وكان حريق القاهرة هو اليوم الفعلي الذي سقط فيه النظام الملكي ورعاته البريطانيون، وحين حاولوا العودة عام 1956 كانت المواجهة الشعبية أيضا لا المفاوضات هي ما أخرجهم، وكان قرار القتال لا المفاوضة هو ما جعل من رئيس مصر وقتها زعيما، أحسن بعد ذلك أو أساء. وفي فلسطين حين انتهجت حماس منهج الوطنية الأليفة المتناقض وشكلت حكومة على أساس أوسلو التي ترفضها، لم تستطع الحكم ولم تستطع المقاومة، ولم يمر العام إلا وقد طردها أبو مازن من الحكومة، ولولا لجوؤها مرة أخرى إلى الوطنية غير الأليفة، للمقاومة المسلحة والرهان على الشارع، لما بقيت لها حتى غزة. أقول، أخشى إن استمرت سياسة التوفيق بين الضدين هذه في إدارة الرئيس المنتخب لمصر، أن تؤدي إلى فشل كفشل الوفد القديم وفتح وغيرها. إن القسَم أمام المحكمة الدستورية يعني الالتزام بالإعلان الدستوري المكمل حتى بدون الاعتراف به، والالتزامُ غيرُ الاعترافِ، فقد يلتزم المرء بأمر يرى أنه ظلم ولا يعترف بأحقيته. وهذا الالتزام بالإعلان الدستوري المكمل سيشجع المجلس العسكري على الاستمرار في تنفيذه، فإذا أراد الرئيس أن يخرق هذا الإعلان بأي قرار جمهوري فإنه لن يستطيع، وإن لم يخرق هذا الإعلان أصبح عصام شرف جديدا، رئيسا بلا سلطة، يأمر فلا يطاع. والمشكلة أن هذا الإعلان الدستوري المكمل يعطي المجلس العسكري الحق في رفض أي دستور تقدمه الجمعية التأسيسية، ويعطيه الحق في تشكيل جمعية على هواه لتكتب دستورا على هواه، وهو ما يعني بالضرورة أن النصوص التي تعطي هذه السلطة للجيش في الإعلان الدستوري المؤقت ستصبح لا محالة نصوصا في الدستور الدائم تؤبد حكم العسكر لمصر ومن ورائهم الولاياتالمتحدةالأمريكية. والمشكلة في دوام حكم العسكر لمصر أنهم لن يبقوا على هذا الرئيس المنتخب ولا على أي رئيس منتخب آخر. ولن يخرجوه من الحكم إلا بعد أن يفُضُّوا الناس عنه، وسينفض الناس عنه كلما بدا عازفا عن المواجهة مطيعا للعسكر، وفيا بالوعد الذي قطعه على نفسه في الهايكستب دون الوعد الذي قطعه على نفسه في ميدان التحرير. إن الرئيس يؤجل المواجهة، ولكن تأجيل المواجهة يقلل القدرة على الحشد، لا يقوم الناس بثورة كل سنتين، وإذا انتخبوا رئيسا ومجلس شعب فسيتركون لهم أمر القيادة، فلهذا انتخبوهم، ولم ينتخبوهم لكي يستمروا في التظاهر ضدهم أو الاعتصام أمامهم لينفذوا مطالبهم، فإن خذلهم هؤلاء المنتخبون عاد الناس إلى بيوتهم يأسا. ثم إنهم سيعودون إلى بيوتهم لأن المنتخبين أنفسهم يطالبونهم بالعودة، ولا يراهنون عليهم ولسان حالهم يقول للشعب المصري، هذا أقصى ما تستطيع تحقيقه حين تثور، أن تأتي بنا، وأن نحصل لك على نصف سلطة، أنت غير قادر على المواجهة في الشارع، وشرطتك وعسكرك أقوى منك، ومن يمولهم ويسلحهم أقوى منك وسيفرض أمريكا والعسكر عليك يا شعب مصر ما يريدونه ولا حيلة لك، تماما كما قال لهم زغلول والنحاس، أقصى ما تقدرون عليه هو أن تتحولوا من مستعمرة بريطانية باسم الحماية إلى مستعمرة بريطانية باسم التحالف والصداقة، فيأَّسا جيلا بأكمله، ولم تستكمل ثورة 1919 إلا بعدها بثلاثين سنة، وحين قالت منظمة التحرير الفلسطينية للشباب المنتفضين عام 1987 أقصى ما تستطيعون الحصول عليه هو الحكم الذاتي، هو عملية السلام، يأّست جيلا كاملا، وها هي عملية السلام في فلسطين عمرها 21 سنة بالتمام والكمال. ختاما، أكتب هذا خوفا على محمد مرسي، فهو لم يعد شخصا بعد اليوم بل هو 13 مليون إنسان يمثلون 90 مليون إنسان تنعقد عليهم آمال 300 مليون إنسان تنعقد عليهم آمال 1500 مليون إنسان إذا تحرروا تحرر العالم كله. مصر مركز العرب والعرب مركز المسلمين والمسلمون يسكنون أوسط الأرض التى يريدها من يريدها من الإمبراطوريات، وقد شاء سوء حظهم أن يكونوا في مركز العالم. يا سيادة الرئيس، لا تقع في ما وقع فيه سعد زغلول والنحاس وأبو عمار وغيرهم، واجه يا أعزك الله، والله الذي لا إله إلا هو إن شعبك لقوي وإنه لقادر على هزيمة العسكر والأمريكان والإسرائيليين وغيلان الإنس والجن، ووالله الذي لا إله إلا هو إن شعبك لكريم، لا يبخل الشاب منهم بدمه، بعينه، بل بعينيه الاثنتين، وهو الوسيم، يرضى ثلاجة المشرحة دارا لتتحرر بلاده فلا تقلل من شأنه، والله الذي لا إله إلا هو إن هذه الدبابات لا تخيف أحدا ولا تحمي أحدا ولا أمان لها ولن تغلب غازيا بسلاح يعيرك إياه ولا بمال يجود عليك به. أيها الرئيس المنتخب، كن الرئيس المنتخب.