في 26 أبريل الماضي، كتبَ أن «العلمانيين في أرجاء العالم العربي، وخاصة أنصار النظام في سورية» لا ينظرون بعين الرضى إلى ما يجري في مصر، من حيث احتمال أن تصبح «إسلامية»، لأن ذلك قد يكون له مفعول الدومينو. وأضاف، مقتصرا هذه المرّة على الشريحة الثانية من العلمانيين كما يُفهم، أنهم «يستخدمون مصر لإفزاع السوريين المسيحيين، مثلا، من جراء ما سيحدث في دمشق إذا وقع تغيّر النظام في سورية». حسنا، ماذا عن أفكاره اليوم، بعد إقرار انتخاب محمد مرسي، الإخواني، رئيسا شرعيا لجميع المصريين؟ إنه، بعد أن يعتبر ذلك اليوم «مجيدا في التاريخ العربي»، يطالب بالتالي (عنوان مقاله الأحدث): «فليقفِ الجميع احتراما لشعب مصر»! هذا هو طراز «التاريخ» الذي يقترحه «المؤرّخ» السوري سامي مبيض، صاحب أربعة مؤلفات بالإنجليزية عن سورية، بينها سيرة للرئيس الراحل شكري القوتلي، ورئيس تحرير موقع إلكتروني يُدعى Forward، زائره اليوم يجد أن أحدث أخباره ذاك الذي يعلن تشكيل لجنة لإعداد دستور سوري جديد، يُصوّت عليه في فبراير... 2012! وقبل الوقوف حول عيّنات من وفاء هذا المؤرخ لتاريخ بلده، تجدر الإشارة إلى أنه يكتب من دمشق، ولم يكن في أي يوم ناقدا للنظام، بل العكس (آخر ما يتباهى به مقابلة مع برباره والترز، دون سواها، تعود إلى سنة 2008، وتمتدح بشار الأسد وعقيلته!). كذلك فإن مقالاته عن الانتفاضة السورية، كما ينشرها باستمرار في المجلة التايلاندية Asia Times، لا تقوم إلا على التأتأة والغمغمة، كأن يكتب: «في سورية، لا أحد توقّع أنه سيأتي يوم يخرج فيه المتظاهرون إلى الشوارع، مطالبين بتغيير النظام، من وحي الربيع العربي في تونس، وليبيا، ومصر»؛ أو: «لا أحد تخيل أن الدولة سوف تجبَر، تحت ضغط المتظاهرين الغاضبين أنفسهم، على تغيير الدستور». ثمة، هنا، حرص شديد (وبراعة خاصة، بالفعل، تستدعي المشقة أغلب الظن!) على عدم إفلات جملة واحدة مفيدة قد تؤخذ عليه، سواء من أهل السلطة أو حلفاء النظام، خاصة أرباب المال والأعمال، ممّن يحترف «المؤرخ» تغطية أخبارهم. فإذا تصفح المرء أحد مؤلفاته في «التاريخ» -كتابه «فولاذ وحرير: رجال ونساء صنعوا سورية 1900 2000»، الذي صدر بالإنجليزية سنة 2006 عن دار النشر الأمريكية Cune Press، في 624 صفحة- فسيجد معلومات من هذا النوع، تُنقل هنا بالحرف تقريبا: زكريا تامر روائي سوري، له 75 رواية، أشهرها «دمشق الحرائق»، وأكثرها شعبية روايته «نداء نوح»، وهو يُعتبر أبرز كتّاب أدب الأطفال في العالم العربي؛ محمد الماغوط كاتب مسرحي، أبرز إنجازاته مسرحية «ضيعة تشرين» بالتعاون مع دريد لحام ونهاد قلعي، والتي تنتقد عهد الوحدة وجمال عبد الناصر، وله مع ذلك مجموعة شعرية بعنوان «حزن في ضوء القمر»؛ رياض الترك صاحب «خطّ ماويّ» (نسبة إلى ماو تسي تونغ) اختلف فيه مع خالد بكداش؛ واعتُقل سنة 1980 وأفرج عنه سنة 1998 بعد أن تعهّد ب»ترك السياسة وقضاء ما تبقى من حياته في سلام وأمان»؛ و«خلال السنوات الثلاث التالية تجنّب الترك الحياة العامة فلم تضايقه السلطات الحكومية»، حتى ظهر في برنامج على «الجزيرة» وتحدّث «بسلبيّة بالغة عن الحكومة السورية»، ولهذا فقد اعتُقل مجددا، ثم أطلق سراحه بأوامر من الرئيس بشار الأسد في نونبر 2002؛ ومنذئذ «أقلع نهائيا عن كل نشاط سياسي». هذه، إذن، ثلاث عيّنات من مجلد يتنطح لتقديم تعريفات، أو تراجم كما يقول المصطلح الفصيح، عن 341 من نساء ورجال سورية في القرن العشرين، هم «أبطال وأنذال السياسة والثقافة والطموح الوطني» كما جاء في كلمة الغلاف الأخير. لا نعرف حكمة استخدام صفة «أنذال» هنا، ولكن من الجلي أن العثرات آنفة الذكر جديرة بأن تقلب التوصيفات رأسا على عقب، فلا يستبين المرء أي فوارق بين البطولة والنذالة. الركون إلى معلومات مبيّض يصبح مجازفة مفتوحة، بالتالي، لأن صواب المعلومة هو المقتضى الأول في أي تأليف من هذا القبيل. الخطأ هنا قاتل ولا استئناف فيه، ليس في ناظر القارئ السوري مبدئيا، بل عند القارئ الأجنبي الذي سوف يعتمد معلومات الكتاب دونما مساءلة. «المؤرخ»، من جانب آخر، أدرج بثينة شعبان في عداد كتّاب وفنّاني سورية، ولكنه تجاهل عشرات الأسماء اللامعة التي لا يصح أن تغيب عن عمل موسوعي من هذا الطراز، مثل عبد الباسط الصوفي وسعيد حورانية وهاني الراهب وممدوح عدوان وسليم بركات، في الأدب؛ ونذير نبعة ومروان قصاب باشي وسعيد مخلوف، في الفنون التشكيلية؛ وأبو خليل القباني وفايزة أحمد وسعاد حسني ونجاة الصغيرة (ما دام قد أدرج أسمهان وفريد الأطرش)، في فنون المسرح والغناء. ولأن الفولاذ والحرير كلاهما غائب عن «التاريخ» الذي يزعم تسطيره، فإن المرء لن يستغرب من مبيّض دعوة مماثلة للوقوف احتراما للشعب السوري، ساعة انتصار الانتفاضة، وكأن «المؤرخ» كان كل الوقت يؤرخ من قلب بابا عمرو أو دير الزور أو دوما أو زملكا!